تمكّنت القيادة السّياسيّة التّركيّة من الظّفر بضوء أخضر أمريكيّ، قبيل البدء في العمليّة العسكريّة النّوعيّة الّتي ما برحت تطالب بها ضد العناصر “الإرهابيّة” التّابعة لقوّات سوريا الدّيمقراطية (قسد)، حيث تأكّدَ تمريرهُ عندما صوتت الولايات المتحدة ضد قرار إدانة تركيا في مجلس الأمن، الذي حاولت فرنسا استصداره مساء أمس الخميس.
وقد أعلن الجيش التّركي، عقب ساعاتٍ قليلة من بدء عملية “نبع السلام” شمال شرق سوريا، عن نجاحه في استهداف (181) موقعًا عسكريًا حسّاسًا، بالإضافة إلى تحييد (174) مقاتلًا تابعًا لوحدات حماية الشعب الكرديّة، الجناح العسكريّ للكيان السيّاسيّ الكرديّ في سوريا.
وبالرّغم من تمركز المعارك على الشريط الحدوديّ بين تركيا وسوريا، وتطمينات الرّئيس الأمريكيّ دونالد ترامب لحلفائه بخصوص عدم خرق الجانب التركي لـ”خطوط واشنطن الحمراء”، بل والتهديد بضرب الاقتصاد التركيّ حال تجاوزها، مع تعهدات أنقرة بتولّي أمر مقاتلي “داعش” المحتجزين لدى القوات الكردية، وضمان حماية المدنيين من نيران المعارك، والعمل على إنشاء “منطقة آمنة” تُسهل عودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم؛ بما يبشّر بعمليةٍ عسكرية احترافية، تحقق أكبر قدر من الأهداف بأقلّ قدر من الخسائر.. إلا أن مجرّد شروع تركيا في العملية قد حمل مدلولات خطيرة لدى بعض العواصم في المنطقة، وعلى رأسها “تل أبيب”.
انبطاح ترامب أمام تركيا
”نحن نعيش أجواءً من الهلع والخوف على ضوء تراجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الأتراك؛ القضية أكبر من مجرّد عمليةٍ عسكريّة تنفذها أنقرة على الجانب الآخر من الحدود. ما يحدثُ هو فرض للإرادة التركية على الرئيس الأمريكي “ – باراك رافيد، المحلل السّياسي للقناة الـ ١٣ “الإسرائيلية“.
بالنّسبة لـ”إسرائيل”، فإن تركيا تمثل خصمًا إستراتيجيًا إقليميًا ينبغي إضعافه، ويرجع ذلك في الأساس إلى امتلاكها مشروعًا “أيديولوجيًا” يستند على قواعد تاريخية وحضارية وثقافية راسخة، تتعارض بشكل جِذري مع معظم أهداف المشروع “الإسرائيلي” في المنطقة، والتي تقوم على الهيمنة والتوسّع على حساب الجيران.
بالإضافة إلى تأسيسها (تركيا) نموذجًا سياسيًا ديمقراطيًا يحافظ – في أسوأ الظروف – على الحدّ الأدنى من الحريات وتداول السلطة وحقوق الأقليات، بما يبدد فاعليّة السّرديّة “الإسرائيلية” الرّائجة عن “الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”، ويضاعف مشروعيّة النقد التركي المستمر للممارسات التي ترتكبها “إسرائيل” في حق الفلسطينيين.
ومن هذا الموقع المعادي جذريًا للمشروعات الإقليمية بشكل عام وللمشروع التركي بشكل خاص، نظرت “تلّ أبيب” إلى عملية “نبع السلام” باعتبارها حلقةً نوعيّة جديدة في سلسلة خروقات أنقرة للخطوط الحمراء التي رسمتها مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة لضمان تفوّق مؤبّد للمشروع “الإسرائيليّ”، وتحجيم دائم للمشروعات الطموحة في المنطقة، سواء كانت هذه الطموحات متعلّقة باستقلال وطنيّ حقيقيّ وتداول سلميّ للسلطة، أو مرتبطةً بما هو أكبر من ذلك، كالتّوسع والهيمنة الاقتصادية والجغرافية والثقافية والعسكريّة (إيران مثلًا).
يعتبر قادة الجيش “الإسرائيلي” منظومة “S-400” الإستراتيجية، التي تغطي مساحة 600 كم في اتجاه نصب الرادار ويمكنها إصابة الأهداف المعادية من الصواريخ الباليستية والمقاتلات المتطورة بأكثر من صاروخ حتى زاوية 90 درجة عمودية، خطرًا غير مسبوق
وبالنسبة للمشروع التركيّ، فقد فشلت الولايات المتحدة خلال حقبة الرئيس الأمريكي الأكثر تعبيرًا عن الولاء والصّداقة لـ”إسرائيل”، في كبح طموح أنقرة في الحصول على إحدى أكثر أنواع المنظومات “إستراتيجيةً” على الإطلاق، والتي طالما كان امتلاكها محظورًا على أعداء “إسرائيل”، نظرًا لخطورتها على تفوّق ذراعها الطولى (سلاح الجوّ ممثلًا في مقاتلات إف 35)، وبالرغم من تحذيرات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك عندما نجحت أنقرة، يوليو/ تموز الماضي، في استلام الدفعة الأولى من صواريخ “S-400″، مع نسبة معتبرة من تصنيع مكوناتها في المصانع الدفاعية التركية.
ويعتبر قادة الجيش “الإسرائيلي” منظومة “S-400” الإستراتيجية، التي تغطي مساحة 600 كم في اتجاه نصب الرادار ويمكنها إصابة الأهداف المعادية من الصواريخ الباليستية والمقاتلات المتطورة بأكثر من صاروخ حتى زاوية 90 درجة عمودية، خطرًا غير مسبوق، بالنظر إلى حاجة طائراته الدائمة لإغلاق وتعمية إحدى النسخ العتيقة من “S-300” الروسية، المنظومة الأقل تطورًا، عند العمل في مجال جوي مفتوح مثل “سوريا”، خاصةً بعد شراء أنقرة أربع بطاريات، في صفقةٍ تجاوزت المليار دولار.
المزيد من الانبطاح
ليس هذا وحسب، بل تكشف الفجوة بين تعامل الرئيس الأمريكي الجادّ مع نظيره التركي أمام الإعلام بالتهديد والوعيد، وبين طريقة تعامله في الغرف المغلقة ومن ثمّ عند اتخاذ القرارات، عن احتماليةٍ كبيرةٍ لمزيد من التنازلات التي قد يقدمها دونالد ترامب لرجب طيب أردوغان، لا سيما بعد تسريبٍ أذاعته مجلة “نيوزويك” الأمريكية عن استسلام الرئيس الأمريكي لحجج أردوغان أثناء المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما قبل الإعلان عن بدء عملية “نبع السلام” مباشرةً، حتى أن ترامب، قد تجنب التلويح بسلاح العقوبات، بحسب المجلة.
في هذا الصدد، تتركز المخاوف الإسرائيلية حول احتمال قَبول الرئيس الأمريكي بعودة أنقرة إلى برنامج مقاتلات “F-35” الأمريكية، حيث لوّح الرئيس الأمريكيّ نفسه، قبل مدةٍ قصيرة من السماح لأنقرة بشنّ العمليات العسكرية ضد الأكراد، بصعوبة تنفيذ قرار إبعاد تركيا عن المشروع من جهة، كما صرّح السيناتور الجمهوري الأبرز ليندساي جراهام بالعمل على إعادة أنقرة لبرنامج مقاتلات الجيل الخامس؛ بما يعني أن الكفة قد تميل إلى أنقرة عسكريًا ولن يتوقف الأمر عند حدود فقدان الردع.
أظهر الرئيس ترامب استعدادًا للموافقة على بيع منظومات “باتريوت” الدفاعية لتركيا، عندما أطلعه الرئيس أردوغان على رغبة بلاده في الجمع بين النموذج الروسي والأمريكي في الحماية الجوية
وتتعلّق صعوبات إبعاد تركيا عن هذا المشروع، وفقاً للرئيس الأمريكي وخبراء عسكريين، بمشاركة أنقرة الواسعة في عملية صناعة البدن الفولاذي للطائرة، ضمن برنامج دولي عمل في المشروع من: بريطانيا وأستراليا وإيطاليا والنرويج وهولندا والدنمارك وكندا، بالإضافة إلى ضخّ تركيا نحو 1.2 مليار دولار في المشروع، وتغلغل تحالف واسع من الشركات التركية في التفاصيل الهندسية الدقيقة للمقاتلة، وعلى رأسه مؤسسة (TAI) للصناعات الجو – فضائية، وشركتي “أسيلسان”، “وهافيلسان”، وقد تسلمت أنقرة ثلاث مقاتلات من هذا الطراز بالفعل منذ منتصف عام 2018.
وإذا تمكنت تركيا التي تنوي الحصول على 113 مقاتلة من هذا النوع مقابل نحو 100 مقاتلة “إسرائيلية”، من العودة إلى البرنامج، وهو الراجح من تصريحات أردوغان عن زيارته القادمة إلى واشنطن نوفمبر/ تشرين القادم، فإن هذا سوف يعني فشل محاولات “إسرائيل” في منع وصول مقاتلات الجيل الخامس الشبحية إلى المنطقة، خاصة تركيا- والتي امتدت إلى السعودية لاحقًا! – واستُخدم خلالها طيف واسع من “اللوبيات” الأرمينية والهيلينية والصهيونية بالكونجرس، كما يؤكد آدم غاري مدير مركز” مستقبل أورواسيا للأبحاث السياسية العالمية”.
وفي وقتٍ قريب أيضاً، أظهر الرئيس ترامب استعدادًا للموافقة على بيع منظومات “باتريوت” الدفاعية لتركيا، عندما أطلعه الرئيس أردوغان على رغبة بلاده في الجمع بين النموذج الروسي والأمريكي في الحماية الجوية، ثم ظهر لاحقًا أن بيع “باتريوت” إلى تركيا هو جزء أيضا من عرض أمريكي قدمه السفير ديفيد ساترفيلد (سفير واشنطن الجديد في أنقرة)، يتضمن التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بقيمة 100 مليار دولار، وتقليص الضرائب المفروضة على استيراد المعادن التركية، مقابل تعهدات بالتخفف من التقارب التركي الروسي.
ربما يكون الدور علينا
الشّق الثّاني من معادلة المخاوِف “الإسرائيلية” من دلالات عمليّة “نبع السلام” على المدى البعيد ليس مرتبطًا بتركيا هذه المرّة، وإنما يرتبط بنظرة الولايات المتحدة، برئاسة دونالد ترامب، لطبيعة الدور الذي ينبغي أن تقوم به واشنطن في العالَم بشكل عام، ونظرته إلى منطقة الشّرق الأوسط بشكل خاصّ، حيث يستمرئ الرئيس الأمريكي التهديد بإعادة تموضع قوات بلاده العاملة في المناطق الساخنة من العالَم، وفي مقدمة هذه المناطق ذلك الإقليم الذي تضاءلت أهميته الاقتصادية بعد أن صارت أمريكا المنتج الأول للنفط في العالم.
وبالنسبة لترامب، فقد ازدادت أهميّة التّسريع في اتخاذ هذا القرار حاليًا مقارنةً بأي وقتٍ مضى، نظرًا لعدّة اعتبارات أهمها نجاح التحالف الدوليّ الذي قادته الولايات المتحدة في إحباط خطر “دولة الخلافة” التي شكلت خطرًا وجوديًا على دول المنطقة، في ظلّ تقاعسٍ “أوروبا” عن الالتزام بأبسط واجباتها، وهو حلّ مشكلة “المقاتلين الأجانب” من جهةٍ، ورغبته في الوفاء بوعده الأثير الذي انتخبه الجمهور اليمينيّ من أجله؛ وهو الحفاظُ على أرواح وأموال المؤسسة العسكرية الأمريكية من الضياع لأجل مصلحة “الحلفاء”، عقب إنفاق أكثر من 8 تريليون دولار من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين ومقتل آلاف “الجنود العظماء” خلال العقود الأخيرة بالشرق الأوسط، على حدّ قوله.
أمام هذه المعادلة، رأت “إسرائيل”، التي لم تنجح محادثاتها على مستوى مستشاري الأمن القومي مع القوى العظمى في إجبار إيران على إعادة التموضع السلبي بعيدًا عن خطّ الجولان ومشروعات تطوير الصواريخ، في تراجع الولايات المتحدة عن قواعدها العسكرية في رأس العين (ريف الحسكة) وتل أبيض (ريف الرقة) بالتزامن مع بدء “نبع السلام”، تشجيعًا على التمدد الشيعي في سوريا، وتهديدًا لفاعلية جهودها العسكرية المستمرة ضد العناصر الإيرانيّة منذ أعوام؛ خاصة أن الرئيس الأمريكي قد لوّح مجددًا بنيّة سحب كافة جنوده “الذين كان يفترض من سوريا لهم البقاء شهرًا واحدًا في سوريا”، وحاول القيام بذلك فعلاً خلال ديسمبر/ كانون من العام الماضي.
جاءت الانسحابات الأمريكية من سوريا، والتي تمت دون التنسيق مع” تل أبيب” بحسب المحلل العسكري للقناة الـ 13، في وقتٍ تزداد فيه المخاوف من شنّ إيرانَ هجماتٍ عدائية مفاجئة على أهداف إسرائيلية
وبشكل مخصوص، أُصيبت الدوائر السياسية والأمنية في تلّ أبيب بالصّدمة جرّاء التّخلّي عن الحليف الكرديّ الذي طالما استلهم نموذج تأسيس الدولة الإسرائيلية في دولته المنشودة. فكتب نفتالي بينيت وزير التعليم في حكومة نتنياهو السابقة، على صفحتِه بموقع “تويتر” أنه “سيصلّي من أجل شعب الأكراد، وأن الدولة اليهودية سيكون لزامًا عليها تعلّم الدفاع عن نفسها، وعدم ربط مصيرها بمصير الولايات المتحدة الأمريكية لأنه، في وقت الجدّ، لا يقاتل أحدٌ نيابةً عن أحد!”.
وقد جاءت الانسحابات الأمريكية من سوريا، والتي تمّت دون التنسيق مع تل أبيب بحسب المحلل العسكري للقناة الـ 13، في وقتٍ تزداد فيه المخاوف من شنّ إيرانَ هجماتٍ عدائية مفاجئة على أهداف إسرائيلية، كما حدث في الهجوم الذي نفذته عناصر تابعة للحرس الثوري الإيرانيّ ضد منشآت شركة “أرامكو” السعودية (أكبر شركة نفط في العالم)، باستخدام طائرات مسيرة وصواريخ كروز، استطاعت التحليق لأكثر من ألف كم، متجاوزةً “الرادارات” الكويتية والعراقية والأمريكية معًا، وإصابةَ أهدافها بدقةٍ متناهية، خاصة مع فشل “إسرائيل” في إبرام التحالف الدفاعي المشترك مع واشنطن، واتهامات إيرانية لها بمحاولة اغتيال الجنرال قاسم سليماني.
حزمة تدابير عاجلة
إزاء هذه المخاطر النوعية المتزامنة، والتي تشي -في أحسن الأحوال- بوجود نية أمريكية لرفع أيديها عن المنطقة، بما فيها “إسرائيل” جزئيًا، بما يضع مستقبل “تلّ أبيب” على المحكّ، دعا رئيس الوزراء المكلف بتشكيل حكومة جديدة في ضوء انتخابات الكنيست الأخيرة بنيامين نتنياهو، يوم الثلاثاء، إلى اجتماع وزاري عاجل للمجلس الأمنيّ المصغر “كابينيت”، وقد استمرّ لأكثر من 5 ساعات.
وقد خَلُص الاجتماع، بحسب تسريبات الصحافة الإسرائيلية، إلى مجموعة من تقديرات الموقف الإقليمي والمحلي، من ضمنها أن الرئيس الأمريكي قد قرر ضمنيًا أن يكون دعم الحلفاء بما فيهم “إسرائيل” دعمًا لوجيستيًا يشجّع على التزوّد بالسلاح الأمريكي بلا قيود جذرية، وأن مؤشرات التقارب الخليجي الإيراني ردًا على التقاعس الأمريكي ستكون وبالًا على مخططات التطبيع، وأن ثمة تسارعًا إقليميًا ملحوظًا للحصول على التكنولوجيا النووية (بالإشارة إلى تصريحات الرئيس التركي حيال هذا الأمر)؛ مع توصيات بسرعة تشكيل الحكومة للتفاوض على التحالف الدفاعي مع الولايات المتحدة واتفاق التطبيع مع الخليج، وزيادة الموازنة العسكرية.
ويبدو أن تل أبيب تستنكف حتى الآن بعض الأصوات الصادرة عن مؤسسة الجيش، تطالب بتشكيل قوة عسكرية لمساعدة الأكراد في حربهم ضد تركي
وتخطط “إسرائيل” بحسب بنيامين نتنياهو إلى زيادة الميزانية العسكرية المقدرة بـ 73 مليار شيكل عام 2019 بنسبة 7% حتى عام 2028 (بزيادة 30 مليار شيكل)، للإنفاق على تطوير وزيادة منظومات الدفاع الجوي، مثل “باراك – 8″ (إنتاج الصناعات الجوية الإسرائيلية) المخصصة للعمل على السفن البحرية، و”مقلاع داوود” التي تنتجها “رفائييل” لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى، و”سهم – 3″ (حيتس)، و”يهلوم” (الجيل الثاني من منظومات “باتريوت”).
ويبدو أن تل أبيب تستنكف حتى الآن بعض الأصوات الصادرة عن مؤسسة الجيش، تطالب بتشكيل قوة عسكرية لمساعدة الأكراد في حربهم ضد تركيا، والتي كان على رأسها دعوة من موشيه يعالون (وزير الحرب السابق) و100 ضابط من قوة الاحتياط؛ مُفضلةً بدلا من ذلك، فيما يبدو، إصدار بيان رسمي على لسان رئيس الوزراء يدين بشدة عملية “نبع السلام”، ويحذر مما أسماه “تطهيرا عرقيا” ضد الأكراد، ويتعهد بتقديم كافة المعونات الإنسانية للـ”الشعب الكردي الباسل”.