ترجمة وتحرير نون بوست
يهيمن الاستقطاب السياسي على الأخبار العالمية اليوم. ولنا في النقاش الدائر حول تغير المناخ خير مثال على ذلك. فقد ألقت الناشطة المناخية البالغة من العمر 16 سنة، غريتا تونبرغ، خطابا مؤثرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة داعيةً إلى اتخاذ إجراءات فورية بشأن المناخ. ودفع هذا الخطاب الليبراليين في جميع أنحاء العالم إلى بعث رسائل دعم حماسية، في حين استهجن المحافظون استغلال خصومهم لطفلة مصابة باضطراب طيف التوحد لدفع أجندتهم السياسية.
عندما نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغريدة للسخرية من تونبرغ، شعر الليبراليون بالاشمئزاز من طريقة تفاعله مع الأمر. وفي غضون دقائق، تحول موضوع المحادثة برمتها عن محورها المتمثل في قضايا المناخ إلى التشويش الحزبي واستخدام وسائل الترهيب. فكيف تحول عالمنا السياسي إلى عالم مستقطب للغاية؟ هذا سؤال يدور في أذهان العديد من علماء النفس اليوم. وكما هو الحال مع أي سؤال علمي، هناك طرق متعددة للإجابة عليه، ولكل خيار منها نقاط قوة وضعف خاصة به.
منهج الفروق الفردية
يركز أحد المناهج الشائعة على منهج الفروق الفردية، أو ما يعرف باسم الفروق النفسية المستقرة بين الناس. وقد يكون لدى الناس مستويات مختلفة من الذكاء والتعاطف والإبداع، مثلا، كما يمكن ربط هذه الاختلافات بأنواع كثيرة من أنماط السلوك، بما في ذلك السلوك القائم على الإيثار ونتائج التعلم في المدرسة، فضلا عن ممارسات عمليات التصويت كما هو الحال مؤخرا.
وجدت مجموعة من الباحثين أن الأشخاص الذين يحملون آراء سياسية متطرفة، والمنتمين إلى كل من اليسار واليمين في الساحة السياسية، يسجلون درجات أدنى على مستوى مهارة ما وراء المعرفة
تشير بيانات جديدة إلى أن الأشخاص الذين لا يتمتعون بشخصية مرنة معرفيا، أي الذين يميلون إلى النظر إلى العالم من حيث القواعد والفئات الصارمة، قد صوتوا بمعدلات عالية من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلال الاستفتاء الأخير في المملكة المتحدة؛ مما يوحي بأن القوميين الملتزمين يمتلكون تفكيرا أكثر صرامة كما أنهم أقل عرضة لتغيير رأيهم مقارنة بالأشخاص المنتمين للأطياف السياسية.
وجد آخرون أن خاصية نفسية تدعى المهارة ما وراء المعرفية، التي تعني عملية التفكير في أدائك الخاص (تخيل على سبيل المثال إجراء امتحان الرياضيات في المدرسة الثانوية، تكون فيه إما جيدًا أو سيئًا عندما يتعلق الأمر بتقييم مدى نجاحك) قد تمكن من التنبؤ بالمعتقدات السياسية المستقطبة.
في هذا السياق، وجدت مجموعة من الباحثين أن الأشخاص الذين يحملون آراء سياسية متطرفة، والمنتمين إلى كل من اليسار واليمين في الساحة السياسية، يسجلون درجات أدنى على مستوى مهارة ما وراء المعرفة، ولديهم نظرة محدودة حول أدائهم الخاص لمهمة إدراك بسيطة، كما كانوا أبطأ في التعلم من أخطائهم. ويتمثل أحد الاستنتاجات من هذا البحث في أن الأفراد المستقطَبين قد يكونون أقل براعة في التعامل مع الأدلة المخالفة لآرائهم الخاصة وأكثر استعدادًا لتجاهل آراء خصومهم بسرعة.
المنهج الظرفي
توحي مجموعة الأبحاث حول الفروق الفردية بطرح فكرة الاستقطاب السياسي منذ وقت طويل. في سنة 1951، نشر الفيلسوف إريك هوفر مقالته الشهيرة بعنوان “المؤمن الحقيقي”، التي حلل من خلالها ما يحفز أتباع الحركات الجماهيرية مثل الشيوعية والنازية. وحيال هذا الشأن، كتب قائلا: “إن جميع الحركات، مهما كانت مختلفة في العقيدة والطموح، تستمد أتباعها الأوائل من نفس الأعراق البشرية؛ إنها تناشد جميع أنواع العقول”.
يعرف هذا التفاوت في استهلاك المعلومات باسم فقاعة الترشيح أو تأثير غرفة الصدى
يعالج منهج الفروق الفردية في الاستقطاب السياسي بشكل تجريبي هذه الفكرة بالذات، من خلال الإشارة إلى السمات النفسية التي قد تجعلنا نتمسك بمعتقدات متطرفة. لكن هذا المنهج محدود، إذ أنه من غير المحتمل أن تنشأ المعتقدات السياسية تلقائيًا لدى الفرد الذي يمتلك مجموعة معينة من الصفات المعرفية. في المقابل، تنشأ هذه المعتقدات من خلال التفاعل مع العوامل المحيطة مثل البيئة الاجتماعية للشخص وتجارب الحياة فضلا عن المحتوى الإعلامي الذي يتعرض له.
لمّح هوفر بنفسه إلى أهمية السياق الحزبي في إنتاج مواقف سياسية متطرفة قائلا: “إن جميع الحركات الجماهيرية النشطة تسعى لوضع شاشة تثبت الحقائق بين المؤمنين وحقائق العالم”. لذلك، قد يكون الاستقطاب السياسي نتيجة للتفاعل المعقد بين التركيب المعرفي للشخص وتأثيرات المحيط الذي هو فيه.
الطرق التي يمكن للمحيط أن يشكل من خلالها معتقداتنا السياسية
يقع استهلاك نصيب كبير من بيئتنا الاجتماعية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهاتف، على غرار فيسبوك، إنستغرام، تويتر وسناب شات. ونظرًا لأن هذه الأنظمة مصممة لتظهر لك المنشورات التي ترغب في رؤيتها، فقد أصبح الناس معرضين بشكل متزايد للآراء التي وافقوا عليها مسبقا. وقد يرى الشخص المؤمن بالتقدم بشدة في كثير من الأحيان منشورات حول التأثير السلبي للتغير المناخي، في حين أن المحافظ الحازم قد يتعرض لرسائل تنكر أن للبشر أي تأثير على ظاهرة الاحتباس الحراري.
يعرف هذا التفاوت في استهلاك المعلومات باسم فقاعة الترشيح أو تأثير غرفة الصدى، ويمكن أن يتفاقم بسبب محتوى معين لإحدى الرسائل. فعلى سبيل المثال، وجد فريق بحث من جامعة نيويورك أن رسائل تويتر التي تتضمن كلمات معنوية أو عاطفية يتم مشاركتها بنسبة 20 بالمئة أكثر من الرسائل العادية ولكن فقط داخل المعسكرات السياسية المستقطبة، وليس بين الأحزاب المتعارضة.
يمكن لبيئتنا التأثير على معتقداتنا السياسية بطريقة غير متوقعة وأكثر دقة من خلال جعلنا ننظر إلى العالم من منظور حزبي
بصرف النظر عن المحتوى المنحاز، يمكن أن توفر لنا وسائل التواصل الاجتماعي معلومات متحيزة حول كيفية تصرف الآخرين. هذا مهم، لأن الطريقة التي يصوت بها الناس في الانتخابات تتأثر غالبًا بمعتقداتهم حول كيفية تصويت الآخرين. فعلى سبيل المثال، إذا كان 55 في المئة من الناخبين في الدولة يؤيدون حزب “أ” بينما يؤيد 45 في المئة الحزب “ب”، فإنه من المنطقي أن يفوز الحزب “أ” في الانتخابات العامة. مع ذلك، إن إقناع 20 في المئة فقط من أنصار الحزب “أ” بأن الحزب “ب” هو في الواقع المرشح الأكثر شعبية، والذي قد يثنيهم بالتالي عن التصويت على الإطلاق، يمكن أن يكون كافيًا لجعل “ب” يفوز بالانتخابات.
قام الباحثون في دراسة حديثة بمحاكاة هذه الظاهرة، التي أطلقوا عليها اسم تزوير المعلومات، وذلك باستخدام نماذج حسابية وتجارب واسعة النطاق مع لاعبين بشريين. لقد شرحوا كيف يمكن أن يتسبب هيكل المجتمع المحلي في تزوير المعلومات حتى لو كانت الآراء موزعة بالتساوي بين السكان ما يؤثر في نهاية المطاف على الانتخابات أو يتسبب في خلق طريق مسدود حتى عندما يفضل الناخبون حلا وسط. ببساطة، قد يكون لهيكل محيطنا الاجتماعي تأثير عميق على خياراتنا السياسية.
أخيرًا، يمكن لبيئتنا التأثير على معتقداتنا السياسية بطريقة غير متوقعة وأكثر دقة – من خلال جعلنا ننظر إلى العالم من منظور حزبي. من المعروف منذ فترة طويلة أن الدماغ البشري يعالج المعلومات عن طريق توفير الوقت: يمكن لأدمغتنا أن تملأ الفراغات المفقودة بشكل فعال. فعلى سبيل المثال، تخيل أنك تمشي داخل منزلك المظلم ليلا. في هذه الحالة، ستحتاج فقط إلى أن يسلط وميض صغير من ضوء القمر على أحد الأغراض لتتعرف عليه كطاولتك أو كرسيك، لتتعرف على مكانك على الفور. وعلى الرغم من أن رؤيتك قد تكون غير واضحة، إلا أن عقلك يكمل الصورة.
إن تحديد مدى تأثير الظروف المحيطة على الاستقطاب السياسي يمثل أحد التحديات الرئيسية لعلماء النفس
في الحقيقة، يتصرف التصور السياسي بطرق مماثلة. فعندما نرى مرشّحَين في نقاش على شاشات التلفزيون، فإن الرسائل التي نتلقاها منهم قد تكون غير واضحة، مثل استعمالهم لمصطلحات غامضة أو مصطلحات لا يفهمها إلا مؤيدوهم. كما هو الحال في المنزل المظلم، يمكن أن يكمل الدماغ المعلومات الغامضة استنادا إلى المعرفة المسبقة عن المرشحين.
أما إذا كانت هذه المعرفة السابقة منحازة بسبب فقاعة التصفية الخاصة بك، فإن تصوراتك الجديدة ستكون منحازة أيضًا. فعلى سبيل المثال، قد يفسر الشخص المحافظ المتشدد كلمات بيرني ساندرز من منظور سلبي، حتى في حال تقديمه حجة محافظة حول موضوع امتلاك السلاح. وبالتالي، يمكن أن تصبح فقاعات الترشيح لدينا مستوعَبة داخليا ودائمة، مما يجعل تأثير الظروف المحيطة بوسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بنا أكبر مما نعتقد.
قياس مدى تأثير المحيط على عقلنا السياسي
إن تحديد مدى تأثير الظروف المحيطة على الاستقطاب السياسي يمثل أحد التحديات الرئيسية لعلماء النفس، إذ يصعب تحديد جميع الظروف المحيطة بحياة الفرد – ناهيك عن فهم كيفية تأثير ذلك على تشكُل المنظور الشخصي الذي ينظر الفرد من خلاله للعالم.
مكن تسخير الطرق الرائدة الأخرى المستخدمة في علم الأعصاب الإدراكي
مع ذلك، تُوفر التطورات الحديثة للأساليب النفسية في الوقت الحالي الوسائل اللازمة التي تمكننا من القيام بالأبحاث في مجال الاستقطاب السياسي المتأثر بالظروف المحيطة. علاوة على ذلك، تُمكن القدرة على جمع عدد هائل من البيانات لتحليل الظروف المحيطة بوسائل التواصل الاجتماعي للفرد، من التعرف على الطريقة التي يؤدي فيها التواصل الاجتماعي إلى انحياز تصوراتنا وأحكامنا وتصرفاتنا.
من جهة أخرى، يمكن تسخير الطرق الرائدة الأخرى المستخدمة في علم الأعصاب الإدراكي – مثل تحليل التزامن بين المخ (الذي كشف بنجاح أن تزامن أنماط نشاط الدماغ بين الأشخاص يدل على تشابه الطريقة التي يفسر بها هؤلاء الأشخاص الأحداث الغامضة في العالم) – لدراسة كيفية نشوء الاستقطاب السياسي. ويمكننا الكشف عن الآليات النفسية المساهمة في تكون منظور حزبي حول السياسة من خلال الاستفادة من هذه الأساليب الجديدة، وربما يمكننا اكتشاف طرق لمساعدة الجميع على الحفاظ على عقل أكثر انفتاحا.
المصدر: سايكولوجي توداي