ترجمة وتحرير: نون بوست
مرّ أكثر من عقد من الزمان منذ أن دخل أحمد الشرع إلى المصعد الضيق للمبنى الذي يضم شقة والديه في الطابق العاشر. لم يتغير المبنى ذو الطراز السوفيتي كثيرًا منذ آخر مرة رآه فيها، كان لا يزال يطل على سلسلة من المباني الخرسانية المتماثلة والبقع المليئة بالأعشاب الضارة التي تفصل بينها، وكانت الممرات بنفس درجة اللون الأبيض الرمادي الذي كانت عليه عندما كان صبيًا على الرغم من ظهور علامات التآكل عليها بعد سنوات من الصراع الأهلي والأزمة الاقتصادية.
كان الشرع قد وصل إلى دمشق قبل ساعات قليلة وهو يقود جيشًا من الثوار إلى العاصمة التي اجتاحها حلفاؤه بالفعل، وكانت القوات الموالية للديكتاتور السوري بشار الأسد قد انهارت أمام تقدمها تاركةً الشرع يصل إلى السلطة بلا سفك دماء في صباح يوم أحد قارس من شهر كانون الأول/ديسمبر 2024.
بمجرد وصوله إلى هناك، كانت أولى محطاته ربوة عشبية حيث سجد لله ومسدسه يخرج من حزامه وهو يخفض جبهته إلى الأرض، تم تصوير هذه اللحظة وتوزيعها على نطاق واسع في دلالة على تأكيد سقوط دمشق. وبينما كانت الكاميرات لا تزال مسلطة عليه، ذهب الشرع إلى المسجد الأموي التاريخي في المدينة ليعلن أن عهد الأسد قد انتهى أخيرًا بعد 14 عامًا من الحرب.
كانت هذه لحظات انتصار مخصصة للاستهلاك العام، أما رحلة الشرع عبر المدينة إلى شقته القديمة في حي المزة فلم تكن كذلك. عاد إلى منزله دون كاميرات أو حاشية كبيرة يصحبه فقط بعض الحراس الشخصيين. بحلول ذلك الوقت، كان العديد من سكان العاصمة قد فروا إلى الأمان النسبي في الساحل، بينما كان آخرون يحزمون أمتعتهم في حالة من الهياج، حيث كان رجال مسلحون في سيارات ملطخة بالطين يغمرون المدينة.

خرج الشرع من المصعد مرتديًا زيه العسكري الأخضر وطرق الباب الأمامي للشقة. كانت عائلة سليمان قد انتقلت مؤخرًا إلى الشقة بعد أن خصصها لهم نظام الأسد، والآن يُلقون أمتعتهم في الصناديق والحقائب محاولين المغادرة بأسرع وقت ممكن. ذُهِلوا لرؤية الرجل الذي أصبح القائد الفعلي لسوريا. قال أحد المقربين من الشرع: “لقد قال لهم الشرع بلطف: “لا تتعجلوا، خذوا وقتكم. لكن هذا منزل عائلتي، ولدينا الكثير من الذكريات هنا، لذا نود استعادته الآن”، وذلك في رواية أكدها أحد الجيران لاحقًا. وأخبرنا الجار أن الشرع لم يرفع صوته و”أعطاهم متّسعاً من الوقت لحزم أمتعتهم والمغادرة”.
حي المزة المختلط دينيًا الذي يقطنه أبناء الطبقة المتوسطة العليا يحتل مكانة بارزة في مشهد طفولة الشرع، فهو المكان الذي كان يلعب فيه كرة القدم عندما كان صبيًا، بينما كان يعمل بعد الظهر في متجر البقالة الخاص بعائلته ويتناقش في السياسة مع والده ووالدته وإخوته الستة بلا نهاية، وهو أيضًا المكان الذي علموا فيه أنه ترك دراسته للذهاب للقتال ضد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. وبحلول الوقت الذي عاد فيه، كانت أسرته قد اعتبرته ميتًا منذ فترة طويلة.
عندما أعلن الشرع نفسه رسميًا رئيسًا لسوريا الجديدة هذا العام، كان ذلك تتويجًا لحملة قادته من زنازين سجن أبو غريب في العراق إلى جبال شمال غرب سوريا. وعلى مر السنين، استخدم الشرع عدة ألقاب وأسماء مستعارة – القائد، والشيخ، والأخ – وحتى وقت قريب، كان يطلق على نفسه اسم “الفاتح أبو محمد الجولاني”، وهو اسم حركي يعكس أصول عائلته وطموحاته. وكانت الجماعة الإسلامية المتمردة التي يقودها منذ عام 2011، والتي كانت تابعة لتنظيم القاعدة، تُعرف باسم جبهة النصرة قبل أن تعتدل وتصبح هيئة تحرير الشام.

هذا يعني أن الشرع عمل في غموض نسبي خلال معظم العقدين الماضيين ولم تكن أجهزة المخابرات السورية متأكدة من اسمه الحقيقي حتى عام 2016، وكان ذلك أيضًا العام الذي كشف فيه الشرع عن وجهه علنًا للمرة الأولى. وحتى وقت قريب، لم يكن قد أجرى سوى مقابلة واحدة متعمقة تطرق فيها إلى ماضيه بينما ركّزت بقية المقابلات بشكل شبه حصري على مستقبله. لم يستجب الشرع لطلباتي العديدة لإجراء مقابلة معه، لكن القلة الذين تمكنوا من سؤاله عن أصوله تلقوا ردودًا مقتضبة أو مراوغة عن قصد.
وهذا ليس من قبيل المصادفة، فوفقًا لأكثر من 30 شخصًا تحدثت معهم لإعداد هذا التقرير، بما في ذلك مسؤولين حكوميين حاليّين وضباط مخابرات إقليميين وغربيين ومقاتلين سابقين ودبلوماسيين وأصدقاء وجيران. تروي شهاداتهم، بالإضافة إلى وثائق استخباراتية تم استرجاعها ومراسلات بين الجهاديين، قصة رجل يدرك تمامًا كيف يمكن أن يُنظر إلى خلفيته باعتبارها متعارضة مع أيديولوجية حركته المتمردة. وكلما تعمق المرء في ماضي الشرع، اتضح أن هذا الغموض الذي يدار بإحكام لم يسمح له فقط بالنجاة لأكثر من عقدين من التشدد الإسلامي، بل ساعده أيضًا على هزيمة الأسد، وقد يشكل ذلك قدرته على التمسك بالسلطة بمجرد أن تتلاشى النوايا الحسنة للنصر المذهل.
وُلد أحمد حسين الشرع في تشرين الأول/ أكتوبر 1982 في المملكة العربية السعودية حيث أمضى السنوات السبع الأولى من حياته. وفي صورة نادرة له في طفولته عُثر عليها في ملف جمعته أجهزة مخابرات الأسد، يظهر الشرع وهو يحمل نفس التعابير الغامضة التي لا تبتسم والتي غالبًا ما تشاهد عليه اليوم.
تعود أصول عائلة الشرع إلى منطقة فيق، وهي منطقة تقع في ما يعرف الآن بمرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، وكان آل الشرع من ملاك الأراضي الإقطاعيين الذين يعود نسبهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حسب ما تقوله العائلة. كان جد الشرع تاجرًا معروفًا شارك في تمرد مسلح ضد القوات الاستعمارية الفرنسية في جنوب سوريا، وسار والد الشرع، حسين، على خطاه محتجًا على استيلاء حزب البعث على السلطة عندما كان لا يزال في المدرسة الثانوية. سُجن حسين ونُفي في نهاية المطاف إلى العراق حيث التحق بالجامعة، وبحلول الوقت الذي عاد فيه إلى سوريا بعد عدة سنوات، كانت العائلة قد طُردت من فيق على يد القوات الإسرائيلية مما أجبر آل الشرع على العيش بشكل أكثر تواضعًا.
على الرغم من أنه كان معارضًا لعائلة الأسد، إلا أن حسين أدرك أن قدرته على البقاء في سوريا كانت متوقفة على التخفيف من حدة نقده العلني فحصل على وظيفة في الدولة وانخرط في السياسة المحلية لكنه مُنع من التقدم بسبب ماضيه. ولفترة من الوقت، انتقل بعائلته الصغيرة إلى السعودية حيث عمل في وزارة النفط لمدة عقد من الزمن، ونشر العديد من الكتب عن اقتصاديات النفط في الخليج، بالإضافة إلى كتاباته الجدلية في الصحف الإقليمية.
بعد أن عادوا إلى دمشق، كان والدا الشرع يذكّران في كثير من الأحيان أولادهما الخمسة وابنتيهما بأنهم، كأبناء لمسؤول حكومي، يُتوقع منهم أن يكونوا مثالاً للانضباط. ووفقًا للجيران وأصدقاء الطفولة، كان الشرع وإخوته في الغالب على مستوى هذه التوقعات العالية حيث يتذكر الأصدقاء القدامى والجيران الشرع كمراهق طويل القامة ونحيف، ويتذكره أصدقاؤه وجيرانه بأنه كان ذكيًا للغاية ولطيف الكلام، وهي صفات لا تزال تُنسب إليه حتى اليوم.
وعلى الرغم من أن أسرته لم تكن متدينة بشكل خاص، إلا أن الشرع كان معروفًا أيضًا بأنه أكثر تدينًا من أصدقائه. أخبرني أحد أصدقاء طفولته: “كنا جميعًا نصلي، لكنه كان يحرص على الذهاب للصلاة في المسجد” (طلب مني معارف الشرع عدم ذكر أسمائهم) وتابع: “كان آباؤنا سعداء جدًا لأن لدينا صديقًا متدينًا، وكانوا يقولون دائمًا إن عقل أحمد كان أكثر نضجًا من عمره، وكانوا يأملون أن ينعكس ذلك علينا”.

روى هذا الشخص قصة عن أن الشرع حاول ذات مرة، عندما كان مراهقًا، مساعدة صديق ضال “كان يتورط في المشاكل ولم تكن علاقته قوية مع الله”، وحاول الشرع إقناع صديقه بالذهاب إلى العمرة في المملكة العربية السعودية “ظنًا منه أن ذلك قد يساعده”، وعندما وافق الصديق، جمع الشرع المال اللازم لإرساله، وأكد العديد من الأشخاص الذين عرفوا الشرع بعد ذلك أن علاقته بالدين كانت بعيدة كل البعد عن التطرف، حتى أنه كان يرتاد المسجد الشافعي المحلي الذي يفضله أولاد الحي لأن إمامه كان أقل تشددًا من غيره.
ولكن مع اقتراب الشرع من مرحلة البلوغ، تغير العالم من حوله، فقد كان عمره 18 عامًا تقريبًا عندما بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ثم جاءت أحداث 11 أيلول/سبتمبر وحرب أمريكا المزعومة على الإرهاب، وأدت تلك الأحداث إلى صحوة سياسية للعديد من الشباب في المنطقة، خاصة في سوريا، حيث كان الشباب المثالي والمتململ مثل الشرع يتوق إلى قضية ما.
قبل حوالي أسبوعين من بدء تساقط القنابل على بغداد في آذار/مارس 2003، شق الشرع طريقه نحو صف من الحافلات ذات المظهر غير المميز في دمشق، وكانت الحافلات تصطف في الشارع المقابل للسفارة الأمريكية وخارج مسجده المحلي في ساحة العرض بدمشق لأسابيع، وكانت تمتلئ بمتطوعين من جميع أنحاء العالم العربي، متجهين إلى العراق لحمل السلاح ضد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
قرر الشرع، الذي كان آنذاك يبلغ من العمر 20 عامًا، أن ينضم إليهم، وصعد على متنها وكان محاطًا بمقاتلين آخرين محتملين. وفي غضون ساعات كان قد عبر الصحراء إلى البلاد التي سيقضي فيها معظم السنوات الثماني التالية، ويتذكر صديق طفولته قائلًا: “اختفى بين عشية وضحاها، ولم نره مرة أخرى”.
كان الشرع قد وقع تحت تأثير صديق أكبر منه سنًا في مسجده، وقد تأثر هو نفسه بالدعاة المتشددين الذين ازداد نفوذهم مع ضغط واشنطن في قضية غزو العراق. وفي هذا الوقت تقريبًا، انتقل القيادي في حماس خالد مشعل وعدد من النشطاء الآخرين إلى دمشق وبدأوا يرتادون المسجد نفسه، الأمر الذي جلب معه نزعة إسلامية أكثر تشددًا. ووفقاً لأشخاص عاشوا هناك في ذلك الوقت، زعم العديد منهم أن الشرع بدأ يرتدي الجلباب قبل مغادرته – وهو لباس فضفاض يصل طوله إلى الكاحل يرتديه الرجال عادة في المناطق الريفية – وأن لحيته أصبحت أطول، وربما كان هذان الأمران علامة على الاهتمام المتزايد بالسلفية، وهي حركة الإحياء الأصولية داخل الإسلام السني.
بمجرد عبورهم الحدود، استقبل الجنود العراقيون الموالون لصدام حسين المجندين الذين تلقوا بضعة أيام من التدريب على الأسلحة، وكانوا لا يزالون يتدربون عندما سقطت بغداد، وقد صُدم المجندون السوريون برؤية العراقيين يحتفلون بسقوط صدام. ووفقاً لحسام جزماتي، الخبير في شؤون الجهاديين السوريين، كان هذا الأمر مربكًا بالنسبة للسوريين الذين ذهبوا للدفاع عن العراقيين عندما واجهوا مثل هذا الزخم.

عاد الشرع إلى دمشق بعد فترة وجيزة، لكنه لم يعد مرحبًا به في منزله في المزة بعد أن اختلف مع والده، وذلك وفقاً لوثائق المخابرات السورية. وبدلاً من ذلك، انجذب الشرع إلى الأوساط الإسلامية في الوقت الذي بدأ فيه التمرد العراقي يتحول من المقاومة البعثية إلى الجهادية. عاد الشرع في النهاية إلى العراق في عام 2005 للانضمام إلى منظمة سلفية جهادية اندمجت في نهاية المطاف مع تنظيم القاعدة، وأوضح الشرع لاحقًا أنه أراد أن يفهم ”الحرب الشاملة“، والدروس التي يمكن أن يعود بها إلى سوريا يومًا ما.
العديد من الذين عرفوا الشرع في العراق ماتوا أو اختفوا أو أصبحوا موالين له ولا يستطيعون مناقشة ماضيه دون إذن، وقد ناقش الفترة التي قضاها هناك وفي تنظيم القاعدة باعتدال، ربما لأنها الجزء الأكثر إثارة للجدل في تاريخه بالنسبة للحلفاء الغربيين المحتملين. وخلال مقابلة إذاعية في أوائل شباط/فبراير، سأل روري ستيوارت، وهو دبلوماسي بريطاني سابق دعم غزو العراق وعمل في السلطة المؤقتة للتحالف هناك، الشرع عن هذه الفترة، لكن الشرع تجنب الإجابة بعناد تاركًا لستيوارت التعليق على مدى “غرابة” لقائهما معًا، نظرًا لأنهما كانا خصمين في يوم من الأيام.
في ذلك الوقت، استهدفت حركة التمرد الوليدة مسؤولي الأمم المتحدة والسفارات الأجنبية والمسؤولين العراقيين، مما أسفر عن مقتل وجرح العشرات من المدنيين، كما بدأت في استهداف الكنائس وأماكن عبادة المسلمين الشيعة. وقد أصرّ الشرع على أنه لم يشارك قط في أي أعمال ألحقت الأذى بالمدنيين في العراق، لكن الخبراء والأشخاص الذين يعرفونه يشيرون إلى أن ذلك يبدو مستبعدًا.
وبعد بضعة أشهر فقط من جولة الشرع الثانية في العراق، ألقت القوات الأمريكية القبض عليه، وقد اجتاز الشرع، الذي كان يستخدم هوية مزيفة، اختبارًا للهجة يستخدمه المحققون العراقيون والأمريكيون للتخلص من الجهاديين الأجانب، ثم أمضى بعد ذلك ما يقارب ست سنوات مر خلالها ببعض السجون سيئة السمعة في البلاد، بما في ذلك سجن أبو غريب وسجن بوكا، الذي يشتهر الآن بأنه كان يحتضن جيلًا من الجهاديين المؤثرين، أبرزهم قادة تنظيم الدولة بمن فيهم أبو بكر البغدادي.
دخل الشرع إلى نظام الاعتقال في مرتبة منخفضة نسبيًا في التسلسل الهرمي الجهادي. قال جيمس جيفري، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في العراق قبل أن يصبح مبعوثًا أمريكيًا خاصًا لسوريا من 2018 إلى 2020: “لقد كان شخصية ثانوية، كان لدينا الآلاف من هؤلاء الرجال”، لكن تجربة الأسر جعلته يتعامل مع الأميركيين عن قرب. قال جيفري في إشارة إلى القوات الأميركية “يتم استجوابك باستمرار، وسوف تسمع وترى كيف يعاملونك، وتفهم أساليبهم وتدرسها. لقد كانت تجربة بالغة الأهمية”.
كان الشرع منغمسًا أيضًا في عالم الإسلاميين المتطرفين، الذي يهيمن عليه التهذيب المستمر للمواقف ومناقشة الخطط، ونتيجة لذلك، كان قادرًا على التقرب من كبار الشخصيات في تنظيم القاعدة. وفي وقت لاحق، كتب أحد المعتقلين من تنظيم القاعدة عن الفترة التي قضاها الشرع في السجن أنه “كان يقرأ ويدرس كثيراً”، ولكنه كان هادئاً للغاية، وسرعان ما بدأ يمارس ضغوطًا شديدة عليهم للتوسع في سوريا.
في منتصف ليلة من ليالي آب/ أغسطس عام 2011، تسلل الشرع وستة آخرون من عناصر تنظيم القاعدة عبر الحدود من العراق إلى سوريا، وقد حرص الرجال على مظهرهم، فشذبوا لحاهم بعناية لتجنب اكتشافهم، ثم ربطوا متفجرات على صدورهم في حالة فشل محاولاتهم للهرب، وكانت ليلة شديدة الحرارة خلال شهر رمضان، ولكن الرجال تسللوا عبر الصحراء، وتجاوزوا الأسوار والخنادق التي كانت منتشرة على طول الحدود، وكانوا عازمين على المساعدة في تشكيل مستقبل سوريا.
كان الشرع قد خرج من السجن قبل ذلك بعدة أشهر، ولم يتضح على وجه التحديد سبب أو كيفية إطلاق سراحه، في ذلك الوقت، كان الربيع العربي قد ألهم احتجاجات معتدلة في سوريا، وبتشجيع من الاتصالات التي قام بها أثناء احتجازه، أرسل الشرع رسالة إلى البغدادي يعرض فيها رؤيته الأكثر راديكالية لسوريا، وعلى الرغم من رفض البعض في الدائرة المقربة من البغدادي للشرع، إلا أنه كان أحد السوريين القلائل في التنظيم في ذلك الوقت.
طلب الشرع 100 رجل وما يكفي من المال للبدء في نشر الحركة، وانضم إليه ستة فقط، من بينهم سوريان اثنان، حسب زعمه، وقدم له البغدادي ما بين 50.000 إلى 60.000 دولار شهريًا لمدة ستة أو سبعة أشهر. كانت العلاقة بين الاثنين متوترة منذ البداية، وفي غضون عامين، تحولت إلى حرب شاملة. توفي البغدادي في عام 2019، عندما فجّر نفسه بحزام ناسف، بينما كانت القوات الخاصة الأمريكية تحاول القبض عليه. ولطالما وصف الشرع راعيه السابق بأنه غير متطور وغير مؤثر، ولطالما أدان وحشيته، وبينما قد تبدو هذه ادعاءات مريحة اليوم، إلا أن الرسائل التي حصلتُ عليها والتي كتبها عناصر تنظيم الدولة منذ عام 2013 تدعم فكرة أن الشرع والبغدادي كان بينهما خلافات أيديولوجية كبيرة.
مع ذلك، كان الشرع يعلم أنه بحاجة إلى تمويل البغدادي وشبكته لتحقيق النجاح. ففي أيامها الأولى، لم تكن جماعة الشرع المكونة من سبعة أفراد قادرة على التجنيد بشكل فعال في دمشق، فانتشرت إلى جبال إدلب، وهي محافظة تقع شمال غرب البلاد وتعتبر من أكثر المناطق محافظة في البلاد، وبدأ الرجال الانضمام إلى صفوفهم مستلهمين من ثقة الشرع. وبعد مرور عام، نمت قوته إلى حوالي 5000 رجل، وساعدت الأموال التي أرسلها البغدادي في دفع الرواتب وشراء أسلحة من الدرجة الثانية.
في كانون الثاني/يناير 2012، أعلن الشرع عن تسمية جماعته باسم “جبهة نصرة أهل الشام” في تسجيل صوتي مدته ثماني دقائق لم يذكر فيه تنظيم القاعدة وكانت هذه خطوة محسوبة لتجنب تنفير الجمهور السوري المتوجس من الإسلاميين. وقبل نهاية العام، ترك الشرع دمشق والمرأة التي تزوجها سرًا هناك، وكان يتنقل بين مختلف المناطق التي تسيطر عليها جبهة النصرة في شمال سوريا. قال العديد من الأشخاص الذين عرفوه في ذلك الوقت إنه كان منضبطًا للغاية، وكان متواريًا عن الأنظار ومهتمًا بالتفاصيل في ساحة المعركة.
سرعان ما اكتسبت جبهة النصرة سمعة بكونها القوة القتالية الأكثر فعالية وانضباطًا ومهارة في خليط الجماعات المتمردة السورية، كما كانت مسؤولة عن بعض أكثر الهجمات جرأة ووحشية ضد قوات النظام، وقد عملت على جذب المجندين من خلال تصوير العديد من عملياتها. أخبرني أحد القادة السابقين في الجيش السوري الحر في شمال سوريا في ذلك الوقت: “لم يكن أي منا مقاتلًا محترفًا، ولم نكن نعرف دائماً ما الذي نفعله، لذلك عندما كنا نتشارك خط المواجهة مع رجال النصرة، كانوا يأتون ويتولون عملية ما وينفذونها على أكمل وجه ثم يختفون مرة أخرى، وكنا نطلق عليهم اسم “الأشباح””.

سرعان ما صنفت واشنطن جبهة النصرة على أنها منظمة إرهابية أجنبية وزعمت أنها نفذت 600 هجوم في عامها الأول من العمل، وشملت هذه الهجمات ما لا يقل عن 40 تفجيرًا انتحاريًا، فضلًا عن هجمات بعبوات ناسفة بدائية زرعت في مراكز المدن وأسفرت عن مقتل مدنيين. كما نسبت وكالات الاستخبارات الإقليمية في ذلك الوقت عشرات الهجمات على المدنيين إلى جبهة النصرة.
عندما قامت المجموعة في نهاية المطاف بتحسين عملياتها للتركيز بشكل أساسي على الأهداف العسكرية، كان ذلك لأن الشرع أصبح يرى أن أساليب القاعدة سامة للعديد من المسلمين. قال صحفي مقيم في إدلب، وهو واحد من القلائل الذين ركزوا على الشرع لفترة طويلة: “كانوا يحاولون بناء قاعدة لهم حتى لا يكونوا عدائيين للغاية مع الناس”، وأضاف أن المجموعة لم تحاول في البداية فرض قواعد اللباس والسلوك في المناطق التي سيطرت عليها، وأوضح قائد الجيش السوري الحر الذي قاتل إلى جانب المجموعة: “كانوا يحاولون التأثير بدلاً من فرض الأمور”.
كانت المشكلة التي ما زالت قائمة في جبهة النصرة هي الخلاف بين الشرع والبغدادي، الذي تعمق بسبب مجموعة من القضايا. كانت رؤية البغدادي للعالم تقوم على القضاء على الدول العلمانية، واستبدالها بدولة إسلامية أو خلافة، وكان الشرع بحاجة إلى أن يبدو وكأنه ملتزم بهذه الرؤية من أجل الحفاظ على قبضته على المقاتلين الأجانب في جبهة النصرة، لكنه كان يعلم أيضاً أن أساليب البغدادي لا يمكن نسخها وتطبيقها في سوريا، نظرًا للطبيعة الأكثر اعتدالًا للمعارضة الشعبية للأسد.
جاء الانفصال الرسمي في عام 2013 بعد أن أعلن البغدادي عن خطة لدمج جماعته مع جبهة النصرة، ولم يستشر الشرع الذي سرعان ما تبرأ من هذه الخطوة ولكن من أجل الحفاظ على شرعيته والاحتفاظ بجيشه من الأتباع، الذين كان العديد منهم يقاتلون من أجل الخلافة الإسلامية وليس بالضرورة من أجل سوريا الحرة، بايع الشرع سلطة أعلى، تنظيم القاعدة. قال الشرع لجيروم دريفون، الخبير في الجهادية وأحد مؤلفي كتاب سيصدر قريبًا عن هيئة تحرير الشام، إنه “لم يكن لديه خيار آخر.. حتى لا يخسر رجاله”، وهي حقيقة يدركها حتى معارضو الشرع.
أطلق البغدادي العنان لحملة عنف متطرفة جعلت جبهة النصرة تبدو أكثر اعتدالًا، حيث فرض قواعد صارمة في اللباس وعقوبات قاسية على المخالفات البسيطة، مما جعل الحياة لا تطاق بالنسبة للناس في المناطق التي تسيطر عليها جماعته. بدأ أشرس مقاتلي الشرع الذين انجذبوا إلى خلافة البغدادي ترك جبهة النصرة، وخاض التنظيمان قتالًا مريرًا، مما أجبر الشرع على التكيف والبدء في التفكير في الدور الذي يجب أن تلعبه جماعته خارج ساحة المعركة، فأعاد بناء صفوف جبهة النصرة على مدار العام التالي وحاول استرضاء السكان المحليين، وهذا يعني القيام بكل شيء، بدءًا من تزويد المخابز بالوقود إلى توزيع الألعاب.

لكن غزوة جبهة النصرة في الحكم لم تكن لطيفة بالكامل، وفقًا للعديد من المدنيين في إدلب والفصائل الثورية المنافسة والعاملين في المنظمات غير الحكومية. فكثيرًا ما كان الجهاديون الأجانب التابعون للجماعة يعاملون السكان المحليين بقسوة أكثر من زملائهم السوريين، مما أثار الخوف على نطاق واسع، كما قاموا بقمع الأقليات السكانية المنتشرة في شمال سوريا، وقامت قوات النصرة، وخاصة المقاتلين الأجانب المتشددين، بمضايقة المسيحيين والدروز الذين لم يعد مسموحاً لهم بأداء الشعائر الدينية في الأماكن العامة، وصودرت أراضيهم، وفي بعض الحالات، أجبروا على اعتناق الإسلام أو قتلوا. كما تعرض العاملون في المنظمات غير الحكومية للمضايقة والاعتقال باعتبارهم جواسيس أجانب، وتم الضغط على النساء والفتيات لإجبارهن على ارتداء ملابس أكثر تحفظاً، وأجبر بعضهن على ترك وظائفهن كطبيبات وقاضيات. وفرضت محاكمها عقوبات، ونفذت في بعض الأحيان عمليات إعدام وفقًا لقانون العقوبات الإسلامي القديم في جرائم مثل القتل والعلاقات خارج إطار الزواج والردة، وذلك وفقاً لبحث دريفون، ولكن على عكس تنظيم الدولة، تجنبت جبهة النصرة تنفيذ عمليات إعدام علنية.
نتيجة لذلك، تشدد المجتمع الدولي في موقفه تجاه التنظيم، ففرضت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الغربية عقوبات على جبهة النصرة، ووضعت واشنطن مكافأة قدرها 10 ملايين دولار على رأس الشرع. انزوى أكثر في الغموض حيث كان قليل من الناس يعرفون أين ينام؛ بل إن عددًا أقل من الناس كانوا يعرفون أي شيء عن هويته الحقيقية، وبينما بدا البغدادي مبتهجًا بالأضواء، كان الشرع ينفر منها.
على مدى السنوات التي تلت ذلك، اهتم الشرع بتحالفاته العسكرية الهشة وقضى على الجماعات المتمردة التي كان ينظر إليها على أنها تهدد هيمنته، وقد كان مثارًا للإعجاب والانتقاد على حد سواء، واكتسب سمعة طيبة في التفكير والكاريزما وكذلك في التعامل المزدوج والقسوة. قال أحد المقاتلين المتحالفين معه، والذي كان في السابق خصمًا له: “لم يكن لدى الشرع مشكلة في إراقة الدماء، طالما كان يجرب الحلول الأخرى أولًا”.
في نهاية المطاف، تجاوزت طموحات الشرع حدود جبهة النصرة وكان تصنيفها كمنظمة إرهابية عائقًا رئيسيًا أمام توسعها مما جعل قادة الجماعات المتمردة الأخرى حذرين من الاندماج معها. في عام 2016، قطع الشرع علاقاته مع تنظيم القاعدة بالكامل، فيما يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أحد أكثر تحركاته براعة من الناحية الاستراتيجية. لقد كانت عملية إعادة تسمية تكتيكية سمحت له بتعزيز سيطرته، لكنها تطلبت منه أيضًا الخروج من الظل.
لم يكن مقاتلو الشرع أنفسهم، ناهيك عن الجمهور الأوسع، يعرفون عنه إلا القليل. فحتى ذلك الوقت، كانت تصريحاته المهمة تأتي على شكل رسائل صوتية يتم تسريبها إلى وسائل الإعلام، وكانت مراسيمه الصغيرة تُنقل مباشرة إلى دائرته المقربة، التي كانت تنشرها بعد ذلك، ونادرًا ما كان يُرى. قال القيادي في الجيش السوري الحر: “لقد كان المخلوق الأسطوري … الذي كان الناس يتهامسون عنه، ولم نكن نعرف حتى إن كان سوريًا”.
للإعلان عن الانفصال عن تنظيم القاعدة، ظهر الشرع في مقطع فيديو وكان ينظر هذه المرة مباشرة إلى الكاميرا مرتديًا ملابس عسكرية مع عمامة بيضاء على رأسه ولحية طويلة، وتبع ذلك مقابلة على قناة الجزيرة بعد فترة وجيزة. وبالعودة إلى الحيّ القديم الذي كان الشرع يسكن فيه، أصيب أصدقاء طفولته وجيرانه بالصدمة، قال صديق الطفولة: “كان له نفس وجه الصبي الذي كنت صديقًا له، لكن لم يكن اسم الجولاني مألوفًا لأي منا، ولم نعتقد أنه هو في البداية، خاصة أن صديقي لم يكن متطرفًا، لكنه كان يتمتع بنفس السلوكيات ونفس الصوت، عندها فقط عرفنا”.
لم يكن الصحفيون الجالسون في مسجد إدلب النائي متأكدين مما ينتظرهم، كان ذلك في عام 2019، وقد تم استدعاء أكثر من 40 منهم لمقابلة “رجل مهم” في هيئة تحرير الشام، وهو الاسم الذي اعتمدته جماعة الشرع المتمردة بعد انفصالها عن تنظيم القاعدة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هيئة تحرير الشام أقوى جماعة متمردة في شمال سوريا. كان الأسد قد استعاد السيطرة على أكثر من ثلثي الأراضي السورية التي كان يسيطر عليها المتمردون في السابق بدعم من إيران وروسيا، لكن الشرع سيطر على مناطق رئيسية، بما في ذلك معبر حدودي حيوي مع تركيا، كما أنشأت هيئة تحرير الشام دولتها المصغرة الخاصة بها في إدلب، مع حكومة يقودها مدنيون ظاهرياً.
كانت هناك العديد من التحديات – ملايين النازحين، واقتصاد راكد، وتهديدات مستمرة من قوات الأسد والقوات الجوية الروسية – ولكن بحلول عام 2019 تراجع القتال إلى حالة من الجمود نوعًا ما مما سمح لهيئة تحرير الشام بالتركيز على حكومتها في إدلب، وكان هذا بمثابة وجه علني لجماعة الشرع يمكن أن يكون أكثر قبولًا لدى المجتمع الدولي.
في اجتماع المسجد، ذُهِل الصحفيون عندما رأوا الشرع يدخل المسجد. ففي العام السابق، كان يظهر بشكل أكبر في الأماكن العامة، وكأنه سياسي يقوم بحملة انتخابية؛ حيث كان يصنع الفلافل في أحد المطاعم المحلية ويذهب إلى السوق خلال عيد الفطر، كما تغير مظهره أيضًا؛ فقد كانت لحيته أقصر وكان اختياره لملابسه يعتمد على السياق: الزي المدني للقاءات مع الجمهور، والزي العسكري للزيارات إلى الجبهات، والملابس القبلية التقليدية للاجتماعات الدينية أو العشائرية.
تم تصوير معظم تفاعلاته وتحريرها بعناية ونشرها على نطاق واسع في محاولة لإضفاء الطابع الإنساني على حركته أمام ملايين الأشخاص الذين يعيشون الآن تحت سيطرة جماعته. مع ذلك، كان من غير المألوف تقريبًا أن يحضر الشرع لقاءً مع الصحافة، ناهيك عن تنظيمه، فقد كان العديد من الصحفيين الحاضرين مستائين من تجاوزات الشرع وهيئة تحرير الشام، ورأوا في الاجتماع محاولة مكشوفة لكسب الودّ.
لم يتردد الصحافيون في التعبير عن مخاوفهم، وذلك حسب شخصين حضرا الاجتماع. وقال الصحفي المقيم في إدلب: “لم يعجبهم مشروعه، ولم تعجبهم رؤيته للدولة، وكان لديهم أسئلة حول مدى عزمه على توسيع سلطته. لقد شعرنا أنه يخلق دكتاتورية مثل ديكتاتورية الأسد في إدلب، وأردنا أن نعرف من هو المسيطر حقًا”، الحكومة المدنية أم هيئة تحرير الشام. ولكن ما أثار دهشتهم أن الشرع استمع بهدوء، وبدا غير منزعج من الانتقادات، مما سمح للمجموعة بالتعبير عن مظالمها، وعندما انتهى الاجتماع، يتذكر الصحفي أنه قال: “قد لا أتمكن من إقناعكم اليوم كمجموعة، لكنني أعدكم، إذا التقيت بكم وجهًا لوجه، فسوف تغادرون جميعًا مقتنعين بوجهة نظري”.
كان الاجتماع بمثابة بداية لاستراتيجية واصل الشرع العمل بها على مدى السنوات القليلة التالية. فقد التقى بمحلّلين وباحثين مختارين ومسؤولين غربيين حاليين وسابقين ودبلوماسيين ومستشارين وعمل على تعميق علاقة هيئة تحرير الشام بتركيا. في أولى هذه الاجتماعات، قرأ الشرع وأقرب مستشاريه تصريحات محرجة وطويلة أكدت الانفصال عن تنظيم القاعدة، ولكن “نشأ حوار” في نهاية المطاف، كما قال مسؤول سابق بدأ الاجتماع مع الشرع وأقرب مستشاريه في ذلك الوقت، وأضاف: “كنا غالبًا ما نناقش حقوق الإنسان والقانون الدولي وحماية الأقليات والنساء، وكثيرًا ما اختلفنا، ولكن.. إذا ناقشنا أسرى الحرب في احد الاجتماعات، فإنهم كانوا يطلعون على اتفاقيات جنيف في المرة التالية ويظهروا استعدادهم لتكييف ممارساتهم”.
كان تلطيف صورة الشرع و”هيئة تحرير الشام” العامل الحاسم في تغيير الموقف الأمريكي خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى. وفي هذا السياق، كشف جيفري، المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا، كيف بدأ الدفع نحو وقف إطلاق النار لوقف القصف الذي شنته قوات النظام السوري والروس على إدلب، مشيرًا إلى أنه جادل مع وزير الخارجية آنذاك، مايك بومبيو، بأن إدلب لا يمكن أن تقع تحت سيطرة الأسد. وقد نجحت حججه في النهاية إذ كان الموقف بمثابة “عدو عدوي صديقي”، كما وصفه، ما أسفر عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في عام 2020، والذي أنهى القتال ومنح “هيئة تحرير الشام” فرصة للتنفس. وفي هذا الصدد، أضاف جيفري: “لم نرَ أي مؤشر على دعم أو تنفيذ لعمليات إرهابية دولية”، حيث كانت “هيئة تحرير الشام” والشرع يركّزان بشكل ضيق على إدلب والأسد.
من جهة أخرى، بدأ الشرع التواصل مع المجتمعات التي تعرضت للإرهاب من قبل مقاتليه. وبعد سنوات من قمع الكنائس المسيحية المحلية، التي كانت أجراسها محظورة منذ وصول الإسلاميين إلى شمال سوريا قبل عشر سنوات، التقى الشرع برجال دين بارزين في عام 2022. وقال لؤي بشارة، كاهن بارز في الكنيسة الكاثوليكية السورية، الذي التقى بالشرع لأول مرة في مطعم سمك في قرية مجاورة: “طلب منا أن نكون صبورين، وأكد لنا أننا سنستعيد حقوقنا، وأمر رجاله بوقف مضايقة المسيحيين”. وأضاف: “قال لنا إنه شخصيًا لا يمانع وجود المسيحيين في إدلب، لكنه طلب منا منحهم الوقت لأنهم بحاجة للعمل مع المتطرفين ليقبلوا بذلك”.
رغم تحسن العلاقات مع المسيحيين واستعادة بعض الأراضي المصادرة، إلا أنهم لا يزال غير مسموح لهم بممارسة العبادات علنًا في إدلب، وهو ملف يتم مراقبته عن كثب لتحديد كيفية تعامل الشرع مع بقية غير المسلمين في سوريا. وفقًا لعدد من الشيوخ الذين تحدثت معهم، لم تحصل أقلية الدروز على تعويضات مماثلة عن الأراضي التي احتلتها “هيئة تحرير الشام”. وقال أحد الكهنة إنه من الصعب فهم نوايا الشرع “لكن أفعال الشخص هي التي تكشف عن حقيقة تفكيره، وهذا أكثر أهمية. كان واضحًا جدًا: إذا أذن الله [بإسقاط الأسد]، لدي رؤية لسوريا تشمل حقوق الأقليات، الاقتصاد، والعلاقات الدولية — كل شيء”.
من جانب آخر، كانت لطيفة الدروبي في مزاج هزلي. خلال لقائها مع نساء سوريات أمريكيات بارزات الشهر الماضي، مازحت قائلة: “حسب علمي، أنا الزوجة الوحيدة له”. وكانت الدروبي تشير إلى الشرع، زوجها وأب أطفالها الثلاثة. كما كان الحال مع الصحفيين في المسجد، كانت مشاركتها في الاجتماع مفاجأة للجميع. كانوا يعلمون أن الشرع يسعى لطمأنتهم بشأن حقوق المرأة في سوريا الجديدة، لكنهم لم يتوقعوا أن يلتقوا بالدروبي، التي كانت شبه مجهولة على الصعيد العام.
مع أنه لم تُلتقط لها صورة في الاجتماع، انتشرت أخبار ظهورها بسرعة عبر الإنترنت. وتم تسليط الضوء على حقيقة أنها كانت ترتدي حجابا وبنطالا ومعطفا فوق الركبة بدلاً من النقاب أو العباءة السوداء الطويلة. وكان الهدف من ذلك، بلا شك، هو الإشارة إلى أن الشرع ليس متطرفًا. وبعد أسبوع، سافر الشرع في أول زيارة خارجية له إلى السعودية، حيث كانت الدروبي إلى جانبه. وفي هذه الزيارة، ظهرت مرتدية العباءة السوداء الطويلة والحجاب دون تغطية الوجه. وكان لهذا الاختيار دلالة مهمة، حيث كان لباسًا معتادًا في العمرة حيث لا يُسمح للنساء بتغطية وجوههن، ولكنه كان أيضًا يروق للقاعدة الأكثر تشددًا بين مؤيدي الشرع. وبعد يومين، التقطت الدروبي أول صورة رسمية لها مع زوجة الرئيس التركي.
في العديد من النواحي، كان تقديم زوجة الشرع إلى الجمهور بمثابة مثال مصغر لكل ما تعلمه على مر العقود من كيفية التوازن بين الفصائل المتباينة لجذب ائتلاف واسع. كقائد لجميع السوريين، يمتد هذا الائتلاف من الجهاديين المتشددين الذين ساعدوه في الوصول إلى السلطة، إلى الليبراليين العلمانيين الذين لا يستطيع التفريط بهم إذا كان يرغب في البقاء في الحكم.
ورغم ذلك، ارتكب الشرع عدة أخطاء في نظر العديد من هؤلاء الليبراليين. عندما أعلن نفسه رئيسًا في كانون الثاني/ يناير، ظهر مرتديًا زيًا عسكريًا أمام قادة فصائل الثوار الذين ساعدوه في إسقاط الأسد. ولم يكن بعضهم يعلم لماذا تمت دعوتهم إلى العاصمة حتى طلب منهم الموافقة على تنصيبه. وفي تلك الليلة، لم يخاطب الشرع الشعب السوري. ومنذ توليه السلطة، لم يدلي الشرع بالكثير من التصريحات العامة، حيث ذكر كلمة “الديمقراطية” مرة واحدة فقط. كما أظهر قلة من الاهتمام بتوسيع حكومته لتشمل أفرادًا غير منتمين إلى “هيئة تحرير الشام”.

في الوقت نفسه، تعمل حكومته بوتيرة بطيئة للغاية، وهو ما يربطه المقربون من الشرع بأسلوب قيادته المركزي. فهو غير مستعجل في منح الثقة، وقد حصر اتخاذ القرارات في عدد قليل من كبار مساعديه من إدلب، إضافة إلى أفراد عائلته. ومن أبرز هؤلاء إخوانه ماهر، وزير الصحة الحالي، وحازم، مستشار رفيع غير رسمي. كما يبرز أنس خطاب، أحد أعضاء تنظيم القاعدة الذين عبروا من العراق مع الشرع في عام 2011، وهو الآن يتولى منصب رئيس جهاز المخابرات.
لا يُعتبر هذا أمرًا مفاجئًا بالنسبة للذين عايشوا سنوات الشرع في إدلب. فالكثيرون يتذكرون المتشددين الذين يختارهم لتولي المناصب العليا، إلى جانب قسوة تطهيراته القيادية في بعض الأحيان. ففي عام 2023، على سبيل المثال، ألقى الشرع بالعديد من مساعديه البارزين في السجون حيث تعرضوا للتعذيب، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة. وكان من بين هؤلاء أبو ماريا القحطاني، حليف أساسي جاء مع الشرع من العراق في 2011، الذي توفي في نيسان/ أبريل الماضي بعد أسابيع من إطلاق سراحه بعد قضائه نحو عام في السجن.
يأمل العديد من السوريين نجاح الشرع لأن البديل يبدو أكثر قتامة. ومنذ وصوله إلى دمشق، عقد مئات الاجتماعات مع مسؤولين أجانب ودبلوماسيين وممثلين عن المجتمع المدني ورجال أعمال وأعضاء بارزين من الشتات السوري وغيرهم. ويستعين الشرع بالمحللين والمسؤولين والدبلوماسيين الذين عمل معهم لسنوات في إدلب، إضافة إلى المتشددين الذين لا يزالون يشكلون جزءًا من دائرته المقربة. وحسب العديد من الأشخاص الذين تحدثت إليهم، بمن فيهم بعض المعارضين للشرع، كان الإجماع في البداية إيجابيًا لكنه بدأ يتغير مؤخرًا. فقد تم وصفه مرارًا وتكرارًا بـ “شديد الذكاء”، “ماكر”، “ملمّ بالتاريخ الإقليمي”، “مطلع”، “مستمع جيد”، وأكثرها تكرارًا “براغماتي” إلا أن كلمة جديدة بدأت في الظهور مؤخراً: “الرجل القوي”.
المصدر: فاينانشال تايمز