“ماذا تود أن تقول للرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟”، كان هذا هو السؤال الذي طرحه الإعلامي المصري المُقرَّب من النظام، عمرو أديب، على رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى، فجاءت الإجابة متجاوزة حدود الدبلوماسية، لتتحول إلى اقتراح جريء بإعادة إعمار غزة.
وفي حين وعدت القاهرة بتقديم خطة لإعادة الإعمار تضمن بقاء سكان غزة في أرضهم، لم تصدر أولى التفاصيل لهذه الخطة عن الجهات الرسمية المصرية، بل كشف عنها هشام طلعت مصطفى، أحد رجال العقارات في مصر.
خطة بديلة لصفقة ترامب
“بأسلوب علمي محدد، أنت تحتاج إلى تأسيس بنية تحتية ما بين مياه وكهرباء وصرف صحي وخدمات، بتكلفة تُقدَّر بحوالي 4 مليارات دولار لتخدم 200 ألف وحدة سكنية. تحتاج أيضًا إلى تقديم خدمات تعليمية وصحية ورياضية وترفيهية وتجارية، بتكلفة تُقدَّر بحوالي 3 مليارات دولار. هذا كله يتكلف خلال 3 سنوات ما يقرب من 27 مليار دولار”.
بهذه الكلمات، قدَّم رجل الأعمال الشهير، المُقرَّب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خطة عملية محكمة لإعادة إعمار غزة، مقسمة إلى 6 مراحل تحدد فترات زمنية واضحة، مع تقديرات دقيقة للتكاليف وعدد الشركات اللازمة لتنفيذها، والتي قدرها بأكثر من 40 شركة مقاولات لتأسيس البنية التحتية دون الحاجة إلى تهجير أهالي قطاع غزة. ثم سأل وأجاب: “هل نستطيع بناء هذه المباني في 3 سنوات؟ نعم، ممكن”.
خلال عرضه خطة بديلة لمقترح ترامب العقاري في غزة، دعا هشام طلعت مصطفى الرئيس الأمريكي إلى الاستثمار في الشواطئ المصرية، ضاربًا المثل برأس الحكمة التي استحوذت عليها الإمارات، مما أثار سخرية المصريين الذين انتقدوا عرضه لترامب، الذي لا يبحث عن استثمار، وإنما عن احتلال ونهب الثروات.
والواقع أن شهور ترامب الأولى في مفتتح ولايته الثانية شكّلت زلزالًا ضرب تقاليد التعاطي الأمريكي مع القضية الفلسطينية؛ فترامب قال مرة إنه سيشتري قطاع غزة، لكن مِن مَنْ؟ هذا سؤال يحيل إلى المالك، فيعدل عنه ترامب إلى فكرة الاستيلاء على الأرض بسلطة القانون الأمريكي.
في مرة ثانية، يعبر ترامب عن تحسره على صغر مساحة “إسرائيل”، وأنها تحتاج إلى أراضٍ أكثر لتصير أكبر، ولا يجب أن تبقى مثل رأس قلم قياسًا إلى سطح طاولة. لكن، هل ما يقوله ترامب يعبر عن سياسة وخطط حقيقية تقوم “إسرائيل” بتحويلها إلى أمر واقع باحتلال غزة وتوسع استيطاني في الضفة وتوسع احتلالي في سوريا وتهديد للأردن؟
ربما حاولت القمة العربية الطارئة، التي استضافتها القاهرة قبل أيام قليلة، الإجابة على هذا التساؤل. ورغم أنها لا تختلف عن أي قمة عربية أخرى في التاريخ، إلا أنها بدت على وعي جاد بخطورة المشروع التوسعي الإسرائيلي، بعد أن تجاوزت تداعيات الحرب على غزة إلى جوارها. وبهذا المعنى، فإن القمة العربية تمثل مقاربة لموضوع غزة تخالف ما دعا إليه ترامب بمقترح تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، بل واقتراح أن تمنح السعودية الفلسطينيين أراضي من أرضها الواسعة.
وفيما يتعلق بإعادة إعمار غزة، يتقاطع اقتراح هشام طلعت مصطفى مع الخطة المصرية المُعلنة مؤخرًا في قمة القاهرة، التي بحثت المقترحات العربية المقدمة كبديل لخطط التهجير الأمريكية والإسرائيلية، وشددت أيضًا على ضرورة مراعاة حقوق الشعب الفلسطيني وضرورة بقائه على أرضه دون تهجير، وهو ما عبَّر عنه مصطفى مع اختلاف الأرقام الواردة في تصريحاته.
لكن ضريبة إعادة الإعمار لن تكون هينة كما توقعها طلعت مصطفى، إذ قدَّرت الخطة المصرية التكلفة الإجمالية بـ53 مليار دولار على مرحلتين: المرحلة الأولى ستكلف نحو 20 مليار دولار خلال عامين، وسيتم خلالها إنشاء مرافق ومباني خدمية ووحدات سكنية دائمة، وأيضًا بناء 200 ألف وحدة سكنية.
أما المرحلة الثانية، تستغرق عامين ونصف العام، بتكلفة 33 مليار دولار، سيتم خلالها بناء 200 ألف وحدة سكنية أخرى، وبناء مناطق صناعية وميناء صيد وميناء بحري ومطار في قطاع غزة. لكن، من أين يأتي المال؟ هل ستحمل القمة “إسرائيل” مسؤولية الدمار، ومن ثم تطالبها بإصلاح وبناء ما دمرت؟
رحلة صعود وهبوط
طرح هشام طلعت مصطفى لهذه الخطة بالورقة والقلم لم يجعل الأمر مجرد لقاء عابر، بل نافذة تطل على مسيرة رجل أثار الكثير من الجدل؛ فمن شخص يُطلَق عليه “العائد من الإعدام” قبل أكثر من عقد، إلى أحد الوجوه البارزة في مشروعات مصر القومية، ومؤخرًا أحد المسؤولين عن تطوير خططها الاقتصادية. ولعل هذا ما جعل الصحافة العبرية تهاجمه بعد تصريحاته، وتفتح صندوقه الأسود.
اسمه بالكامل هشام طلعت مصطفى إبراهيم، من مواليد مدينة القاهرة عام 1959، وهو الابن الأصغر بين 4 أبناء لرجل الأعمال والبرلماني المعروف طلعت مصطفى، الذي تنحدر أصوله من محافظة المنوفية الواقعة شمال القاهرة في دلتا النيل. وأسس والده مجموعة عقارية حملت اسمه، وتُعرف بـ”TMG”، ونشطت وتنامت أعمالها في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973.
درس هشام طلعت التجارة في شبابه، وعمل مع والده، الذي ميَّزه عن بقية أبنائه، وأوكل إليه مهامّ عديدة في إدارة الشركة، أهلته ليصبح “المفكر المالي” للعائلة، حتى جاء عام 1992 ليتقدم بطلب عضوية في الحزب الوطني الحاكم آنذاك في مصر، وسرعان ما صعد نجمه بسرعة خلال عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وخلال السنوات اللاحقة، أصبح هشام طلعت أحد أصدقاء جمال مبارك المقرّبين، ونظير هذه الصداقة، تم تصعيده في مناصب الحزب بشكل لافت للنظر مقارنة بعمره، حتى أصبح عضوًا في لجنة السياسات بالحزب الحاكم المنحل، وعضوًا في العديد من الهيئات المعنية بالاستثمار العقاري والسياحة والخدمات الفندقية، كما تولى رئاسة لجنة الإسكان في مجلس الشورى، ليجمع بذلك بين النفوذ السياسي والاقتصادي في البلاد.
تزايد نفوذ هشام طلعت بشكل واضح من خلال مشروعاته العقارية الضخمة، وأصبح أول من أقام مدينة سكنية متكاملة الخدمات بواسطة القطاع الخاص، متجسدة في مدينة “الرحاب” عام 1997 في القاهرة الجديدة، وكان له السبق في استقدام سلسلة فنادق “فور سيزونز” المرموقة إلى السوق المصرية.
وخلال حكم نظام الرئيس المخلوع مبارك، منحته علاقاته الوثيقة، التي نسجها مع أركان الدولة، قوة أكثر مما أعطته أمواله؛ فعندما زاره مبارك في افتتاح المدينة، سأله: “لو عينتك وزيرًا، تحوّل البلد وتصبح مثل مدينتك؟” فأجابه بنعم، فقال الرئيس: “إذًا وزراؤنا هم المقصّرون”، وربّت على كتفه، وكأنه يؤكد على أن هذا الرجل تمكن من تحقيق معادلة تزاوج المال والسلطة بامتياز.
وفي آب/ أغسطس 2005، مكّنه نفوذه وعلاقاته الوطيدة بأبناء الرئيس المخلوع من التعاقد مع هيئة المجتمعات العمرانية التابعة لوزارة الإسكان، مما أتاح له الحصول على أرض تمتد على مساحة 8000 فدان (33.6 مليون متر مربع) في القاهرة الجديدة، حيث كانت تمثل أكثر من 11% من إجمالي مساحة القاهرة الجديدة، بنظام الأمر المباشر ودون مقابل، في انتهاك واضح لقانون تنظيم المناقصات والمزايدات.
وكانت مجموعة طلعت مصطفى من أوائل الشركات التي تملّكت مساحات شاسعة لإقامة مدن متكاملة، وكانت الصفقة مع هيئة المجتمعات العمرانية بهدف تشييد مشروع “مدينتي”، الذي اعتُبر حينها أضخم مشروع عقاري ينفذه القطاع الخاص، إلا أن القضاء المصري أصدر حكمًا ببطلان التعاقد في عام 2010، ما دفع الحكومة إلى توقيع عقد جديد بشروط مختلفة لاحقًا.
بينما يُعد بطلان إجراءات تخصيص أراضي مشروع “مدينتي” أمرًا محسومًا بحكم القضاء، فإن تخصيص أراضي مشروع “نور” عام 2021، ومن قبلها مشروع “سيليا” عام 2018 — وكلاهما يرتبطان باسم هشام طلعت مصطفى كواجهة للمجموعة — صاحبته حالة من التعتيم بموجب قوانين أقرتها الحكومة المصرية، وصبّت في صالح كبار المطورين العقاريين في السوق المصري. وبرزت خلال فترة إنشاء هذه المشاريع شواهد عدة تُشكّك في الطريقة التي تدير بها الحكومة المصرية ملف تخصيص الأراضي للاستثمار العقاري بشفافية.
ووفقًا لتحقيق استقصائي نشره موقع “درج“، لم تقتصر نشاطات هشام طلعت مصطفى فقط على مشروعاته العقارية الضخمة في الامتدادات العمرانية للعاصمة المصرية، بل توازت نجاحات مشروعاته العقارية مع نشاط واضح في تسجيل الشركات والحسابات البنكية في ملاذات الإعفاءات الضريبية، وفقًا لـ”سويس سيكريت”، وهو مشروع صحافي تعاوني يستند إلى بيانات حساب مصرفي مُسرّبة من بنك كريدي سويس العملاق السويسري.
لكن، في تموز/ يوليو عام 2008، تبدَّلت الموازين حين واجه هشام طلعت المحطة الأكثر إثارة للجدل في مسيرته، وأصبح نجمًا لقضية رأي عام في مصر، عندما ألقت الشرطة المصرية القبض عليه بتهمة التحريض على قتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي، التي ذكرت تقارير إعلامية أنها انفصلت عنه ورفضت الزواج منه.
بعد تحقيقات طويلة، أحالت النيابة العامة هشام طلعت مصطفى إلى المحاكمة بتهمة الاشتراك وتحريض ضابط أمن الدولة السابق محسن السكري على قتل سوزان تميم مقابل مليوني دولار.
وصدر ضدهما حكم الإعدام في أيار/ مايو 2009، لكن هشام طلعت طعن في ذلك الحكم، وبعدها قضت محكمة جنايات القاهرة بتخفيف الحكم إلى السجن لمدة 15 عامًا، والسجن المؤبد للشرطي السابق محسن السكري في عام 2010، لتزيد الظنون حول أن النخبة في مصر فوق القانون.
ويُذكر، بحسب ما كان يدور بين النخب السياسية في مصر إبان حبس هشام طلعت، أن السبب الرئيسي الذي أطاح به هو منافسته لرجل أعمال آخر آنذاك، وهو أحد رجال مبارك، إمبراطور الحديد أحمد عز، الذي كان وراء عملية طمس وجود هشام طلعت من الحياة السياسية، بل من الحياة إجمالًا.
العودة أقوى مما سبق
في نيسان/ أبريل 2017، اشترت مجموعة طلعت مصطفى أراضٍ بمساحة 500 فدان (أكثر من مليوني متر مربع) بقيمة 4.4 مليار جنيه في العاصمة الإدارية، التي تُوصف بـ”فقاعة السيسي الصحراوية”، وهو المشروع الأهم الذي يُصر على إنجاحه، ويسخّر له كل موارد الدولة التي تواجه خطر الإفلاس وزيادة الفقر. ومع ذلك، أهدر مليارات الجنيهات من الميزانية العامة، وأغرق الدولة في ديون تعجز الأجيال القادمة عن سدادها.
بعد 5 أشهر، فوجئ الرأي العام بقرار رئاسي بالعفو عن هشام طلعت قبل انقضاء مدة العقوبة، مراعاة لظروفه الصحية. لكن حياة ما بعد العفو كانت مختلفة تمامًا مقارنة بمن ليسوا طلعت مصطفى، الذين عانى الكثير منهم من العودة لأعمالهم، وحظر السفر، ومواصلة حياتهم، وتجميد أموالهم، وصولًا إلى إعادة القبض على بعضهم بسبب شكواهم مما يحدث، في وقت تشدد فيه الدولة على توجيه الرئيس بإعادة دمج المفرج عنهم في المجتمع.
ورغم غياب دور لجنة العفو، وزيادة وتيرة الحبس والملاحقة بتهم “ملفقة” طالت الكثيرين باختلاف توجهاتهم، بدا الأمر مختلفًا لهشام طلعت مصطفى، الذي بدأ العودة سريعًا لمقاعد المال والأعمال، وتوسعت مشاريعه مع الحكومة المصرية، ووصلت إلى حد الحصول على نسب من شركات برنامج الطروحات الحكومية، رغم سلسلة طويلة من الأحكام في سجله الجنائي.
لم تكن عودة هشام طلعت مصطفى عادية أو غير مؤثرة، فالرجل عاد بقوة، وباتت مجموعته القابضة تنافس شركات عالمية، بل واستثمارات دول عملاقة، وها هو الآن يتربع على قمة الاقتصاد المصري، وربما بشكل أقوى مما سبق.
ومنذ خروجه من السجن، أصبح هشام طلعت مصطفى ضيفًا دائمًا على كبرى مؤتمرات الاقتصاد والتطوير العمراني في مصر، وعادة ما تراه مرافقًا لرئيس الوزراء أو وزير الإسكان، في دلالة على وفاقه التام مع سياسات النظام المصري.
وغالبًا ما يقدم “قرابين الطاعة” ممثلة في تبرعات بعشرات الملايين لجهات مثل “صندوق تحيا مصر”، الذي أطلقه السيسي بعد وصوله إلى السلطة رسميًا في تموز/ يوليو 2014، في محاولة لحصد ملايين الجنيهات من رجال الأعمال والمستثمرين، فيما سوَّقه وقتها باعتباره صندوقًا خاصًا لدعم اقتصاد مصر، الذي كان يمر بمرحلة صعبة.
وفي 22 أيار/ مايو عام 2020، وبعد أقل من شهر على التبرع السخي بقيمة 62 مليون جنيه لمواجهة أزمة كورونا، منها 25 مليون جنيه لصندوق تحيا مصر، صدر قرار رئاسي بالعفو عن ضابط أمن الدولة السابق محسن السكري، شريكه في جريمة القتل، لكنه بقي في السجن لإدانته في جرائم أخرى.
في مطلع العام التالي، وبعد 4 أيام من إعلان طلعت مصطفى تحمّل تكلفة تطعيم 2 مليون مواطن مصري بلقاح فيروس كورونا كنوع مما أسماه “التعبير عن حب الوطن الغالي”، وقَّعت المجموعة عقدًا مع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التابعة لوزارة الإسكان لشراء 5 آلاف فدان (ما يعادل 21 مليون متر مربع) في حدائق “العاصمة” شرق القاهرة، لإقامة مجتمع عمراني متكامل. لذلك، أعاد التوقيت المتزامن للخبرين إلى الأذهان صفقات طلعت مصطفى القديمة التي أُثيرت حولها الشبهات، وفي مقدمتها مشروع “مدينتي”.
وفي آب/ أغسطس 2022، وبعد 12 عامًا من حكم إعدام لم يُنفذ، صدر حكمٌ قضائيٌ بردّ الاعتبار لهشام طلعت مصطفى في قضية القتل المتهم فيها، وهو ما ترتب عليه محو كافة السوابق الجنائية الصادرة بحقه، ليصبح كأي مواطن لم تصدر ضده أحكام جنائية، وبالتالي تمتعه بكامل حقوقه السياسية، سواء الانتخاب أو الترشح لعضوية المجالس النيابية أو تولي المناصب الحكومية والوظائف العامة.
بحلول نهاية العام الماضي، تجلَّى نفوذ هشام طلعت مصطفى بوضوح من خلال ظهوره في صدارة الحضور خلال اجتماع رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، مع عدد من رجال الأعمال والمستثمرين في مختلف القطاعات، حيث ناقشوا رؤاهم لإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية التي تعيشها مصر، وتحسين صورتها أمام المستثمرين الدوليين.
جاء هذا اللقاء ليجمع بين بعض من أبرز وجوه المال والسياسة، لا سيما أولئك الذين شكلوا نفوذًا اقتصاديًا هائلًا، ولمعوا في عهد حسني مبارك، والمسؤولين الذين أداروا مؤسسات الدولة في ذلك الوقت، ثم غاب بعضهم عن الأضواء بعد ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، قبل أن يعودوا مجددًا إلى واجهة الأحداث في السنوات الأخيرة، مؤثرين في قرارات السياسة والاقتصاد رغم كل التغيرات التي شهدتها مصر.
إمبراطور التطوير العقاري
لم تقتصر استثمارات هشام طلعت مصطفى على مشروع “مدينتي” فحسب، بل امتدت أيضًا إلى صفقة بيع مدينة “رأس الحكمة” بالساحل الشمالي، التي تُعد أكبر استثمار إماراتي في مصر.
وفي عام 2024، أعلنت مجموعة طلعت مصطفى مشاركتها في تطوير المشروع بالشراكة مع شركة أبو ظبي القابضة وشركة “مدن العقارية”، لتتوسع نشاطات الشركة على طول الساحل الشمالي.
بعد أسابيع من الإعلان عن مشروع “رأس الحكمة”، عززت المجموعة دورها في المشروعات القومية الكبرى بالبلاد، حيث أعلنت، بالشراكة مع الحكومة، عن استثمار تريليون جنيه (21 مليار دولار) لإنشاء مدينة سياحية في الساحل الشمالي تحمل اسم “ساوث ميد” (South MED). وستُقام على مساحة 23 مليون متر مربع جنوب البحر المتوسط، وعلى بُعد 165 كيلومترًا من محافظة الإسكندرية، ما يجعلها ثاني أغلى المدن في مصر والساحل الشمالي تحديدًا بعد مدينة “رأس الحكمة”.
والمفاجأة الأكبر من ذلك كله كانت عبر إعلان صاحب مفتاح “ساوث ميد” أن مدينته التي ما زالت على الورق باعت في اليوم الأول فقط ما قيمته 60 مليار جنيه مصري (1.25 مليار دولار) في 12 ساعة، وغمر هشام طلعت مصطفى المصريين بأرقام أخرى عن كون مشروعه الجديد سيحقق مبيعات بقيمة 1.6 تريليون جنيه، وهي أكبر مبيعات لمشروع سياحي في تاريخ مصر.
ومع ذلك، يواجه المشروع المقام تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، انتقادات حقوقية كبيرة بعدما شرع قوات الجيش المصري في استخدام القوة لتهجير آلاف السكان من قرى منطقة “جميمة” بمحافظة مرسى مطروح شمال غربي البلاد، بناءً على قرار صادر من وزير الدفاع السابق الفريق أول محمد أحمد زكي، تنفيذًا لتوجيهات السيسي، وذلك بدلاً من الاستجابة لطلبهم في الحصول على تعويضات عادلة للأراضي والمساكن التي يقيمون بها منذ فترة طويلة.
استغلال الجيش لخدمة المستثمر هشام طلعت مصطفى ليست الأولى، حيث استعان به لهدم مطعم في منتجع “هاسيندا” السياحي بالساحل الشمالي، دون إذن قضائي أو إذن من الجهات المختصة، بعد خلاف شخصي مع صاحب المطعم، كما استعان السيسي أيضًا بالجيش ووزير النقل والصناعة الفريق أول كامل الوزير لإقناع أهالي رأس الحكمة بإخلائها خدمةً للإمارات التي اشترت المنطقة.
ومع ذلك، تحوَّل هشام طلعت مصطفى ليجلس على القمة حاليًا، فمشروع “رأس الحكمة” مثلاً على ضخامته، وقفت خلفه دول وشركات كبرى في حين تمكن هشام طلعت مصطفى وحده من منافسة ذلك المشروع، وهو ما طرح تساؤلات حول مدى قدرة المجموعة على الوفاء بصفقة بمثل هذا الحجم، وما إذا كانت هناك أطراف إقليمية أخرى لا تظهر في الصورة تقف وراء المشروع.
لكن هذا التوسع ليس في مصر وحسب، فالرجل كان قد حجز أكثر من 10 ملايين متر مربع شمال شرقي العاصمة السعودية الرياض في منطقة تُعرف بضاحية الفرسان، لتشييد مدينة أخرى ضخمة أُطلق عليها اسم “بنان”، ستوفر سكنًا لأكثر من 120 ألف إنسان، بتكلفة استثمارية ناهزت 31 مليار ريال (10 مليارات دولار)، وستعود على طلعت مصطفى بإيرادات ستتجاوز 40 مليار ريال (12 مليار دولار).
هذا كله هو المرحلة الأولى من المشروع، حيث سترتفع استثمارات الرجل تباعًا حتى تصل إلى حاجز 17 مليار دولار ليصبح مشروع “بنان” أول وأضخم استثمار لهشام طلعت مصطفى خارج حدود مصر، وما هو متوقع أنه لن يكون الأخير.
فالرجل تمدّد في عامي 2023 و2024 ليصبح عملاقًا في قطاع العقارات والبناء والتشييد، ناهيك عن استحواذه على مجموعة فنادق تاريخية مملوكة للحكومة، ما يعني أنه بات اسمًا قويًا أيضًا في قطاع السياحة والفنادق، هذا فضلاً عن مشروعات أخرى قديمة تديرها مجموعته داخل حدود مصر.
وينتظر لمجموعة طلعت مصطفى أن تعلن في القادم القريب عن مشروعات أخرى عملاقة داخل مصر والسعودية، وهو الذي بلغت مبيعاته فقط من إعلاناته الأخيرة عن المشروعات التي ذكرناها قرابة 122 مليار جنيه مصري في أول 5 أشهر فقط من عام 2024، بـ 45 مليار جنيه في نفس الفترة من عام 2023، وهو ما ساهم بصعود نجمه نحو قمة أثرياء مصر.
ومع استمرار توغل هشام طلعت في السوق العقاري المصري، حققت المجموعة أرباحًا في الأشهر التسعة الأولى لعام 2024 بنسبة زيادة بلغت 236%، مسجلة 9.06 مليارات جنيه بنهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، ومبيعات تعاقدية تجاوزت 450 مليار جنيه، رغم ذلك، حدثت عدة إضرابات لعمال في شركات مصطفى بسبب تدني الأجور وتأخر الرواتب لشهور وموجة تسريح للعاملين.
بناءً على هذه الاستثمارات الممزوجة بالانتهاكات وشبهات الفساد، اختارته مؤسسة “فوربس” في قائمتها السنوية لأقوى الرؤساء التنفيذيين في الشرق الأوسط لعام 2024، كما اختارته ضمن أقوى قادة السياحة والسفر في الشرق الأوسط للعام الثالث على التوالي، وهو الرجل الذي كان حتى قبل سنوات يتلمس طريقه نحو العودة للحياة بعد خروجه من السجن عام 2017.
وبينما يُتوقع أن تحقق المجموعة مزيدًا من الأرباح، تتحطم أحلام الشباب المصري في تملك شقة سكنية للزواج. فعلى سبيل المثال، تبدأ أسعار الوحدات السكنية، التي تصل مساحتها إلى 77 مترًا مربعًا، في مشروع “سيليا” بالعاصمة الإدارية الجديدة، بنظام التقسيط على 10 أعوام، من مليون و200 ألف جنيه، أي ما يعادل راتب شخص يحصل على الحد الأدنى للأجور (7 آلاف جنيه) لمدة 15 سنة متواصلة.
إعمار أم استغلال؟
بالنظر إلى حجم إمبراطورية طلعت مصطفى العقارية، قد يكون الرجل لاعبًا أساسيًا في الخطة المصرية المعلنة لإعادة إعمار غزة، بسبب قربه من رأس النظام، وانخراطه ضمن مشاريع الحكومة التي تمتلك عوامل تجعلها لاعبًا رئيسًا في ملف إعادة إعمار غزة سواء من حيث الجغرافيا أو الاقتصاد أو الخبرة الميدانية.
وربما تعول مصر على ما تملكه الشركات المحلية – مثل مجموعة طلعت مصطفى – من إمكانيات مادية وبشرية ضخمة تؤهلها للقيام بعملية الإعمار بتكلفة منخفضة مقارنة بالدول الأخرى، وهذا لا يعود فقط إلى القرب الجغرافي بل أيضًا إلى الخبرة المتراكمة حيث تعمل الشركات المصرية في مشاريع إعادة الإعمار في غزة منذ أكثر من 20 عامًا ما يجعلها مؤهلة لتولي هذا الدور بكفاءة وسرعة.
ليس ثمة دليل على ذلك أكثر من مجموعة إبراهيم العرجاني الموصوف بـ”تاجر حرب غزة وسمسار المعابر ذراع السيسي في سيناء” التي تحتكر إعادة الإعمار في غزة بأمر حكومة السيسي في أعقاب كل حرب تشنها “إسرائيل” على القطاع.
حدث ذلك مع إحدى شركات العرجاني “أبناء سيناء للتشييد والبناء” التي كانت الشركة الوحيدة الحاصلة على تفويض من الجيش لإدخال مواد بناء في أثناء إعمار المنازل التي دمَّرها العدوان الإسرائيلي في القطاع في عام 2014، وتكرر ذلك بعد الحرب على غزة عام 2021، حيث احتكرت الشركة ذاتها أعمال الإعمار، وأصبحت المستفيد الأكبر من الحرب بعد تكليفها بجهود إعادة الأعمار في عقد بقيمة 500 مليون دولار مدفوع من الدولة، ما مكَّنها من التعاون مع مقاولين من غزة دون أن تبدو القاهرة منخرطة في تعاون مباشر مع حماس.
الفرع الثاني لهذه الشركة “أبناء سيناء للتجارة والمقاولات” التي أسسها العرجاني بعد وقت قصير من خروجه من السجن عام 2010، أصبح بعد عامين إحدى شركتين مكلفتين بجهود إعادة الإعمار بغزة في أعقاب الحرب الإسرائيلية عليها، وهي الآن واحدة من الشركات التي يستخدمها الجيش المصري كواجهة لتحصيل أرباح ضخمة من وراء بيع البضائع إلى قطاع غزة المحاصر بعد هدم الأنفاق من الجانب المصري.
وفي حين تترقب الشركات المصرية الإعلان رسميًا عن دخول غزة للمشاركة في إعادة الإعمار، لم تُخفِ مجموعة العرجاني – التي قدَّرت تكلفة مرحلتها الأولى بـ50 مليار دولار – طموحها في السيطرة على عقود إعادة الإعمار، إذ تشير تقارير إلى حصول شركاته على عقود توريد كرفانات ومعدات بأسعار تفوق قيمتها الحقيقية بأضعاف، وتهيمن شركاته على عمليات تسليم المساعدات، وتفرض رسومًا على كل شاحنة تجارية تدخل غزة منذ بدء سريان وقف إطلاق النار.
عرض هذا المنشور على Instagram
وتعي القاهرة جيدًا أن الاستقرار في هذا القطاع المنكوب ينعكس مباشرة على أمنها القومي، فضلًا عن الأضرار الاقتصادية التي تكبّدتها بسبب الحرب، وأبرزها تراجع إيرادات قناة السويس نتيجة تضرر حركة الملاحة. لذا، فإن المشاركة في إعادة الإعمار عبر شركات رجال الأعمال المقرّبين من النظام ليست مجرد واجب سياسي، بل مصلحة اقتصادية مباشرة تُعزز من نفوذ القاهرة في ملف غزة، وتمنحها دورًا محوريًا في أية تسوية قادمة.
وبينما تنتظر الكثير من الدول حول العالم أن تكون عملية إعادة إعمار غزة فرصة لإعادة تأهيل البنية التحتية والاقتصاد دون تهجير السكان، تكشف الوقائع عن صورة مغايرة تمامًا. فبدلًا من أن تكون إعادة الإعمار مبادرة إنسانية تضطلع بها مصر بحكم الحدود المشتركة والعلاقات التاريخية والمصالح الاقتصادية، أصبحت أداة استثمارية تخدم مصالح مستثمرين ورجال أعمال نافذين ومقرّبين من النظام، مما يطرح تساؤلات خطيرة حول مصير أموال المانحين.
وفي قلب هذه المعادلة، لم يكن من المستغرب أن يتحدث هشام طلعت مصطفى عن إعادة إعمار غزة، فهو في النهاية رجل مقاولات، وكل ما يهمه أن يضع يده في عمليات رفع الأنقاض والبناء الجديد التي تدرّ عليه الكثير من الأرباح. لذلك، لم يُخفِ طمعه في أن يكون له حصة كبيرة من مساعدات إعادة الإعمار.
ووفقًا لمراقبين، فإن مشاريع إعادة الإعمار في غزة تمثل فرصة ذهبية لشركات المقاولات والبناء المصرية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر، فقد تُسهم هذه المشاريع في توفير تدفقات مالية بعملات أجنبية للشركات المصرية، ما يمنحها متنفسًا في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
لكن التحديات على الأرض لا تتوقف عند تأمين التمويل أو تجهيز شركات البناء، فالأرض التي يُفترض أن تُشيَّد عليها هذه المشروعات لا تزال أشبه بحقل ألغام، حيث تنتشر المتفجرات غير المنفجرة، ما يجعل أية عملية إنشائية مستحيلة قبل أن تبدأ فرق الإزالة عملها.
وحتى لو أُنجز ذلك، فإن مواد البناء تظل عائقًا آخر، فبينما تمتلك مصر فائضًا من الحديد والأسمنت في أيدي فلول نظام مبارك، إلا أن إدخال هذه المواد إلى غزة يتطلب ترتيبات دولية معقدة، لأن القرار النهائي ليس بيد الممولين، بل في يد “إسرائيل”، التي تتحكم في المعابر، وتفرض قيودًا على ما يدخل إلى القطاع.
ومع تجاوز تلك العقبات، يبقى الهاجس الأكبر هو غياب الضمانات، فالمستثمرون والممولون لا يريدون رؤية مدينة حديثة تُبنى بمليارات الدولارات فقط ليجدوا أنها تحت القصف بعد أشهر، ما يجعل إعادة الإعمار مشروعًا محفوفًا بالمخاطر السياسية قبل أن يكون تحديًا هندسيًا.
وهنا يظهر التساؤل الأكبر: هل إعادة إعمار غزة مشروع عمراني أم ورقة سياسية؟ فالأموال قد تكون جاهزة، والشركات مستعدة، والخطط مرسومة، لكن الإرادة الدولية هي التي ستحدد مصير المشروع. وحتى لو تحركت الجرافات وبدأت الأبنية ترتفع، فمَن يضمن أنها لن تعود ركامًا في أية لحظة؟