ينشد الكاتب أحيانًا العزلة والخلوة، لينصت لذاته وينسجم مع نفسه، فتطمئن روحه، فالاختلاط بالناس -كما يراه كثر – لا يجلب إلا السموم للعقل والروح، فالعزلة هي القاعدة الأساسية للدرجات العليا من المعرفة، كما وصفها الفيلسوف الألماني نيتشه. النفوس بطبعها مختلفة، متفائلة وحزينة، فإن كانت الثانية، فقد تلجأ لهجر الناس واعتزالهم لتكون الحياة ممكنة، وعلى رأي جبران فإن “النفس الكئيبة تجد راحتها بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت”.
تساءل الروائي الجزائري واسيني الأعرج، في الوقت الذي شعر فيه بالعزلة والوحدة: هل انتهت تلك السعادات الصغيرة التي كانت طابعنا اليومي؟ هل نسيت أننا كنا مصنع الفرحة حتى في أكثر اللحظات قسوة؟ أما أدباؤنا الثلاث: مجيد طوبيا وخليل حنا تادرس وإسماعيل ولي الدين، كانت شهرتهم تملأ سماء القاهرة، الأول تُرجمت أعماله للغات عديدة وكتب في السينما أفلامًا وضعها النقاد ضمن قائمة الأفضل في تاريخ السينما المصرية، والثاني نافس أديب نوبل نجيب محفوظ في مبيعات أعماله الأدبية، وأديبنا الأخير تحولت معظم روياته لأفلام سينمائية حققت رواجًا كبيرًا على يد أكبر مخرجي السينما المصرية فترة السبعينيات والثمانينيات.
خفت نجم هؤلاء الكُتاب الثلاث، منذ سنوات، فاعتزل ثلاثتهم الحياة الثقافية، لظروف نفسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، فرضتها عليهم التغيرات التي ضربت في جذور بنية المجتمع المصري، منذ سنوات.
يتردد الكاتب فتحي سليمان منذ سنوات على شقة الأديب مجيد طوبيا لرعايته، فهو يعيش بالقرب من شقة “طوبيا” بحي مصر الجديدة، ويرافقه منذ سنوات طويلة، يخرجان للمقهى معًا، يقرأ عليه بعض الأعمال الأدبية
عزلة إجبارية
اختفى الأديب المصري مجيد طوبيا، بداية من عام 2005، حيث غلبته تكلفة الحياة الاقتصادية، فانزوى في شقة صغيرة بميدان تريومف بمصر الجديدة، وانقطعت صداقاته وهجره الجميع وانفضوا من حوله.
منذ أيام قليلة، رن هاتفي، ظهر على الشاشة رقم هاتف منزلي، أجبت، الصوت عجوز، يقول: “أنا مجيد، عاوز فتحي سليمان”؟ (عاوز كلمة عامية مصرية تعني أريد)، أجبت: حاضر، هبلغه، يجيلك يا أستاذ مجيد، بعد دقائق، ظهر الرقم مرة أخرى، رددت، لم تزد المكالمة عما سبق، وتكررت مرة ثالثة، في دقائق معدودة.
يتردد الكاتب فتحي سليمان منذ سنوات على شقة الأديب مجيد طوبيا لرعايته، فهو يعيش بالقرب من شقة “طوبيا” بحي مصر الجديدة، ويرافقه منذ سنوات طويلة، يخرجان للمقهى معًا، يقرأ عليه بعض الأعمال الأدبية، يحاول مساعدته في ترميم بعض أعماله الروائية والقصصية التي لم ينته منها طوبيا حسبما تسعفه الذاكرة، مثل رواية “أوراق العذراء” التي نُشرت ببعض التعديلات عن دار تبارك، ديسمبر 2018.
يجلس أمامي الأديب مجيد طوبيا على كرسيه شاردًا، سيجارته لا تنطفئ، يشعل الثانية من الأولى، أطرح السؤال وأنتظر لدقائق ليستجمع ذاكرته، يقول: “جمعتني صداقات عديدة بالأدباء والفنانين، ويشير إلى كنبة بجواره، هنا نام أحمد زكي ليالي كثيرة بعد تعثره في سداد أجرة مسكنه، فطردته السيدة المستأجرة، ونجيب محفوظ أيضًا جمعتني به صداقة وطيدة من خلال حضوري نداوته في عوامة الكاتب محمد عفيفي، كنت أناديه بـ”نُجب”، ويناديني بـ”زُمل” (زميل)، وتوفيق الحكيم صديق عمري الذي لم يسمح لأحد غيري أن يزوره في مكتبه بجريدة الأهرام دون موعد مُسبق”.
حصل الأديب المصري على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1979
يُعد مجيد طوبيا من أبرز الأدباء المصريين بفترة الستينيات، صدرت له أعمال أدبية عديدة حققت له مكانة مرموقة، لعل أبرزها رواية “تغريبة بني حتحوت” الصادرة عام 1988 عن دار الشروق بالقاهرة، ونُشرت قبلها بعام مسلسلة على صفحات جريدة الأهرام، وقدم للسينما بعد دراسته للسيناريو على يد المخرج المصري الراحل صلاح أبو سيف، أفلامًا عديدة منها، “أبناء الصمت” 1974 الذي جاء ضمن قائمة أفضل مئة فيلم مصري بحسب استفتاء النقاد بمناسبة مرور مئة سنة على السينما المصرية.
حصل الأديب المصري على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1979، وتسلمها من الرئيس الراحل محمد أنور السادات، يقول طوبيا: “تسلمت الجائزة من السادات، وعندما سمع صوت التصفيق بحفاوة من الحضور، ابتسم في وجهي وظل ممسكًا بيدي لوقت طويل، بعدما شعر أنني مشهور”، لكن عندما حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2014، ذهب لتسلم الجائزة فوجدها مع أحد موظفي الاستقبال بوزارة الثقافة المصرية.
عزف عن الزواج، لكن ربطته علاقة حب بالمترجمة الإيطالية كونشيتا برازي منذ فترة السبعينيات، في أثناء بحثها عن عمل أدبي تترجمه للغة الإيطالية، فوقع اختيارها على رواية “تغريبة بني حتحوت”، وتطورت العلاقة بينهما إلى حب، وسافر معها إلى إيطاليا، إلى أن وقع الانفصال بينهما لأسباب خاصة، وهناك شكوك بشأن وجود “ابن” نتج عن هذه العلاقة، لم يتأكد منه سليمان حتى اللحظة.
أوصى الأديب المصري مجيد طوبيا بأن تذهب كل الأرباح المادية من نشر أعماله الأدبية لمؤسسة الطبيب المصري مجدي يعقوب
دشن مصطفى عبد الله، الكاتب الصحفي بالمصري اليوم، حملة صحفية لإنقاذ مجيد طوبيا من العزلة التي أكلت صحته وغيبته عن الحياة عام 2012، يقول عبد الله: “تربطني علاقة صداقة بالأديب المصري منذ فترة السبعينيات، كنت ألتقية في الندوات الثقافية وجلساتنا على مقاهي حي مصر الجديدة، وكان من مجالسيه الأديب الراحل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهم، لكن بعد زيارتي لشقته رفقة الدكتور الناقد عبد الله سرور الذي كان يأتي لزيارته من محافظة الإسكندرية أسبوعيًا، وفوجئت بالحالة الرثة التي يعيش فيها الأديب المصري، كأنه يسكن كهفًا، لحيته طويلة، جسد متهالك، لم يذق الطعام منذ أيام، يعاني من أزمات نفسية معقدة، الصرف الصحي للشقة خرب، فحركت الحملة المياه الراكدة، لكن الغريب أن أصدقاءه أصحاب المكانة المرموقة، لم يحركوا ساكنًا، بل فوجئ بعضهم بأنه ما زال على قيد الحياة”.
استجاب صابر عرب وزير الثقافة الأسبق، للحملة الصحفية، وزار برفقة مصطفى عبد الله مسكن الأديب مجيد طوبيا، وفوجئ بأحواله، فاشترى له جهاز تليفزيون حديث على نفقته الخاصة، وأجرى اتصالًا هاتفيًا بأحد المسؤولين وقتها بالمجلس العسكري عام 2012 وتمكن من الحصول على توصية لعلاجه على نفقة القوات المسلحة بمستشفى المعادي العسكري، وتم تعديل المعاش الشهري، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2014.
أوصى الأديب المصري مجيد طوبيا بأن تذهب كل الأرباح المادية من نشر أعماله الأدبية لمؤسسة الطبيب المصري مجدي يعقوب.
يقول حنا تادرس للـ”العرب”: “حققت روايتي”نشوى والحب” فور نشرها فترة السبعينيات جدلًا واسعًا ومبيعات كبيرة، فقد رأت الجماعات الإسلامية المتشددة أنها رواية جنسية صريحة”
تهمييش
ربما لا تحقق أعمال الكاتب قيمة أدبية كبيرة لكنها تحقق الرواج والمبيعات الضخمة، وهو ما يطلق عليه “أدب البيست سيلر” الذي يقابل بشيء من الخفة والتعالي من النقاد والكُتاب، ويكون ذلك بمثابة عزل نفسي وتهميش للأديب صاحب هذه الأعمال، لذا لن يلق الحفاوة والتقدير في مجتمع الذين يكتبون الأدب الرصين.
حققت روايات الأديب خليل حنا تادرس مبيعات هائلة فترة السبعينيات والثمانينيات، كما أحدثت جدلًا واسعًا مع الجماعات السلفية المصرية، يقول حنا تادرس للـ”العرب”: “حققت روايتي “نشوى والحب” فور نشرها فترة السبعينيات جدلًا واسعًا ومبيعات كبيرة، فقد رأت الجماعات الإسلامية المتشددة أنها رواية جنسية صريحة تحرض الشباب على الفسق والفجور، رغم أنني كتبت عن الحب ورغبات البشر، فقصة الرواية تدور حول فتاة يغويها شاب بالمال، فأصبحت شريرة، مستهترة، لعوب، تغوي الرجال، إلى أن لقيت حتفها”.
يكمل، “لم يثنني الهجوم عن مواصلة الكتابة، كنت انتهي من كتابة 10 روايات مرة واحدة، واشتراهم مني أحد الناشرين، فأكتب ولا يهمني موعد النشر، وأصمم أغلفة أعمالي ورسوماتها الداخلية بنفسي، وأحصل على التراخيص المحددة قبل نشرها، تحسبًا للوقوف أمام القضاء، وكتبت قصة حياة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقرأها وأعجب بها، لكن الجهات الأمنية وقتها، أرسلت لي خطابًا بعدم نشرها مطلقًا”.
كتب ولي الدين رواية “شجرة العائلة” في أربع سنوات، ليوثق الأحداث التاريخية ما بين فترة الخمسينيات والثمانينيات، ورُفض نشرها لأن فكرتها لن تجذب القارئ لتحقق مبيعات
بعد ظهور أجيال مصرية جديدة تكتب أدب “البيست سيلر” بما يوافق ذائقة القارئ الحاليّ، اختفت رويات خليل حنا تادرس واختفى معها، وظل منذ فترة الألفينيات في منزله، يقول: “لا أفارق القلم والورق، سأكتب حتى مماتي، لا أنزل الشارع إلا لتناول النرجيلة وأعود للقراءة أو الكتابة أو النوم، وهذا ما جعلني أصل لإصدار 300 كتاب حتى الآن”.
وعن عزوفه عن حضور الفعاليات الثقافية، يقول: “الندوات والتكتلات الثقافية لا طائل منها، بلا فائدة، لم ألتزم إلا بحضور ندوة نجيب محفوظ بمقاهي القاهرة، وأحيانًا كنت أزور الأديب الراحل إحسان عبد القدوس في مكتبه بجريدة روز اليوسف، فقد كان يشجعني وكنت أراه مثلاً أعلى”.
اعتراض
الناشر يعرف ذوق القارئ، فينشر ما يحقق له العائد المادي، دون النظر إلى جودة العمل الأدبي، فبعدما حقق الأديب إسماعيل ولي الدين شهرته الواسعة من خلال الأدب الذي يعتمد على الغموض والإثارة والكتابة عن عوالم المخدرات والجنس والمثلية، وأشاد أنيس منصور والصحفي المعروف أحمد بهاء الدين بروايته الأولى “حمام الملاطيلي” 1971 وكتبوا عنها في الصحف المصرية وقتها، لجأ إلى كتابة عمل تاريخي، إلا أن الناشر رفض نشره.
كتب ولي الدين رواية “شجرة العائلة” في أربع سنوات، ليوثق الأحداث التاريخية ما بين فترة الخمسينيات والثمانينيات، ورُفض نشرها لأن فكرتها لن تجذب القارئ لتحقق مبيعات، وبعد بحث مضنٍ، توصلت إلى رقم هاتفه المنزلي، فهو لا يمتلك هاتفًا محمولاً، حاولت التوصل لاتفاق على مقابلة صحفية، لكنه يصر على الرفض، والحديث فقط بعبارات مقتضبة عن طريق الهاتف المنزلي.
جذبت روايات إسماعيل ولي الدين كبار مخرجي السينما، فهو يطرح موضوعات شائكة ومغايرة تجذب الجمهور لشباك التذاكر غالبًا
يقول الأديب المصري: “الناشرون يرفضون نشر أعمالي هذه الأيام، ففضلت الابتعاد منذ سنوات طويلة، 20 عامًا، بعد أن انصرف عني الصحافيين والكُتاب والمسؤولين بوزارة الثقافة المصرية، فلم يتردد عليّ إلا الخادم، وأسافر إلى شرم الشيخ في بعض الأوقات للتنزه”.
ورغم انسحابه من الحياة الثقافية، بداية من عام 2000 تقريبًا، يقول: “ما زلت أكتب، لدي بعض الأعمال القصصية التي انتهيت منها مؤخرًا، لكن لن ينشرها لي أحد، فالجميع يرى أنني أكتب عن الجنس والإثارة فقط، وأنا بريء من هذا الاتهام”.
جذبت روايات إسماعيل ولي الدين كبار مخرجي السينما، فهو يطرح موضوعات شائكة ومغايرة تجذب الجمهور لشباك التذاكر غالبًا، فهي تكشف واقع الحياة الاجتماعية السرية داخل الحواري الشعبية وتجارة المخدرات والجنس، ومنها رواية “حمام الملاطيلي” 1971 التي تحولت لفيلم يحمل نفس الاسم عام 1973، إخراج صلاح أبوسيف، ورواية “الباطنية” 1979 وتحولت لفيلم بنفس الاسم، إخراج حسام الدين مصطفى 1980، ورواية “السلخانة” 1976 وتحولت لفيلم بنفس الاسم، إخراج أحمد السبعاوي.