أعلنت تركيا هدفين رئيسين لعمليتها “نبع السلام” التي بدأتها هذا الأسبوع بعد تفاهم بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأمريكي دونالد ترامب على بدء تركيا للعمليات وهو ما حصل بعد انسحاب قوات أمريكية من مواقع في شمال سوريا، وتمثل الهدف الأول في تطهير منطقة شرق الفرات من وحدات الحماية الكردية التي تعتبرها تركيا تنظيمًا إرهابيًا وامتدادًا لحزب العمال الكردستاني، فيما تمثّل الهدف الثاني في إنشاء منطقة آمنة تمهيدًا لعودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الذين باتوا يشكلون عبئًا على تركيا، حيث فاق عددهم 3.5 مليون منذ قدومهم قبل أكثر من 7 سنوات.
إن الوصول إلى تفاهم بين تركيا والولايات المتحدة بحد ذاته كان مطلبًا لتركيا منذ عدة سنوات وتحديدًا منذ فترة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ولكن تركيا أصيبت بخيبة أمل حتى مع قدوم ترامب للبيت الأبيض، ومع ذلك لم ييأس أردوغان وبقي يحاول مع ترامب على المستوى الشخصي في ظل الرفض القاطع للرؤى التركية من الكونغرس والبنتاغون ومستشارين مقربين لترامب في البيت الأبيض، وقد أثبت التوصل لهذا الاتفاق أن أردوغان استطاع إقناع ترامب والولايات المتحدة وتركيا بالاتفاق بعدما وصلت العلاقات إلى حالة كبيرة من التدهور، التي كانت إحدى حلقاتها الخلاف على منظومة إس 400 الروسية وحرمان تركيا من برنامج إف 35، ومن الجدير بمكان الإشارة هنا إلى أن الموقف المتقلب للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتغريداته التي يناقض بعضها بعضًا لا تزيد إلا من تعقيد تحليل مسار العلاقات.
أعلنت مصادر مقربة من الرئاسة التركية أن هناك مشاريع لبناء مدن تتسع كل واحدة منها لنحو 30 ألف مواطن ونحو 140 قرية تتسع كل قرية لما يقارب 5000 مواطن
وقد أدى الموقف الروسي والأمريكي من العملية السورية إلى فشل طلب قدمته 5 دول أوروبية في مجلس الأمن دعت فيه إلى وقف العمل العسكري أحادي الجانب وقد أفادت وكالات الأنباء أن الاجتماع المغلق لمجلس الأمن شهد اختلافات في مواقف الدول بشأن صيغة البيان، مما جعل إصداره متعذرًا، حيث عارضت روسيا والولايات المتحدة عبارة “إدانة” العملية العسكرية التركية.
كما أن موقف الناتو بدا متوازنًا نسبيًا، حيث صرح أمين عام حلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ: “تركيا تساهم في حماية الاستقرار في المنطقة وتنفذ عملية عسكرية وتكافح الإرهاب وأبلغت تشاووش أوغلو مخاوفي من العملية العسكرية ونتوقّع من تركيا ضبط النفس”، في سياق عملية نبع السلام ومن منظور واقعي فإن الموقفين الأمريكي والروسي أكثر ما يهم تركيا رغم أهمية المواقف الدولية الأخرى وتأثيرها على صورة تركيا وعلاقاتها.
تتعلق الميزة الثانية بترتيب أولويات التهديد على قائمة الأمن القومي التركي، فاستكمال تركيا السيطرة على منطقة شرق الفرات من خلال عملية نبع السلام بعد عمليتي غصن الزيتون ودرع الفرات ستقضي على أجزاء كبيرة من إمكانية إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية خاصة إذا استطاعت تركيا إعادة قسم من اللاجئين لهذه المناطق، وفي حال أمنت العملية الجارية لتركيا هذا الهدف فإن درجة التهديد الذي تمثله الوحدات الكردية سوف تتراجع وهذا بدوره سينعكس على أولويات السياسة الخارجية التركية وسيجعل تركيا أكثر انفتاحًا على خيارات جديدة في سياستها الخارجية.
من زاوية أخرى فإن قدرة تركيا على تجهيز منطقة آمنة كما تعد بكل مرافقها من مستشفيات ومدارس سيكون مفيدًا لتركيا على عدة صعد، وقد أعلنت مصادر مقربة من الرئاسة التركية أن هناك مشاريع لبناء مدن تتسع كل واحدة منها لنحو 30 ألف مواطن ونحو 140 قرية تتسع كل قرية لما يقارب 5000 مواطن مع مرافقها اللازمة، حيث سيخفف ذلك من عبء اللاجئين على السياسة الداخلية التركية وسيساهم إيجابيًا في رؤية تركيا لأمن حدودها.
التحدي الدبلوماسي المرافق لعملية نبع السلام الذي تواجهه تركيا يتمثل في القدرة على المحافظة على موقف مؤيد من ترامب وتخفيف حدة الانتقادات الأوروبية
على صعيد القدرات العسكرية تبدو يد تركيا أعلى في المواجهة مع وحدات الحماية، حيث تمتلك تركيا قوات مدربة وطائرات حربية وعتادًا أقوى وقد فعلت سلاح الطائرات دون طيار، فضلاً عن مشاركة وحدات الجيش الحر التي تعرف المنطقة جيدًا وتقدم نوعًا من الشرعية للعملية التركية، بالإضافة إلى تفوق استخباري تركي واضح ظهر في العمليات السابقة وخاصة غصن الزيتون.
إلى ذلك، فإن الرأي العام التركي مساند للعملية بشكل كبير، حتى إن حزب المعارضة الرئيسي أعلن دعمه لقرار تمديد عمل الجيش في سوريا وهناك دعم شعبي كبير في أوساط المواطنين الأتراك لقرار دولتهم ربما باستثناء حزب الشعوب الديمقراطية الذي يعارض العملية بلا شك.
مع هذه المزايا التي تمتلكها تركيا، هناك مجموعة من العوائق التي تواجهها ولعل أخطرها موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قد يتغير في أي لحظة بسبب الضغوط الكبيرة عليه، فضلاً عن وجود إجماع في الكونغرس على معارضة العملية التركية وتطبيق عقوبات عليها حال استمرت، مما قد يسبب أزمة كبيرة لتركيا، وقد بدأ ترامب يظهر بعض الإرهاصات من قبيل تغريدته التي تحدث فيها عن 3 خيارات أحدها إرسال قوات عسكرية للمنطقة والثانية تدمير اقتصاد تركيا والثالثة الوساطة بين تركيا والأكراد، وفيما تقلل مصادر تركية من أهمية تغريدات ترامب وتراها في سياق موجه للرأي العام الأمريكي فإنه من المهم تذكر أن ترامب قد تراجع عن قرار الانسحاب في ديسمبر 2018.
يبقى أن نشير إلى أنه حتى لو تخلصت تركيا من وجود وحدات الحماية الكردية فإن عدم القدرة على إقناع اللاجئين بالعودة الطوعية يعتبر تحديًا
يبدو الموقف المعارض للعملية من الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وألمانيا والدول الإقليمية وعلى رأسها السعودية ومصر عاملاً سلبيًا مهمًا بالنسبة لتركيا حيث أرادت الدول الأوروبية استصدار قرار من مجلس الأمن ورغم فشلها في ذلك، فسوف تستمر في التشويش على تركيا، أما الدول العربية فسوف تعمل على استصدار قرار من الجامعة العربية ضد العملية التركية وربما يكون هناك تنسيق عربي إسرائيلي لمواجهة العملية التركية والعمل على إحباطها، وقد ظهر انزعاج الرئيس التركي بشكل واضح من هذه الإدانات.
لذلك فإن التحدي الدبلوماسي المرافق لعملية “نبع السلام” الذي تواجهه تركيا يتمثل في القدرة على المحافظة على موقف مؤيد من ترامب وتخفيف حدة الانتقادات الأوروبية والحصول على عدد أكبر من المواقف الدولية المؤيدة للعملية التركية.
ومع أننا أشرنا إلى تفوق عسكري تركي، فإن هذه العملية قد تكون الأصعب نسبيًا مقارنة بدرع الفرات وغصن الزيتون، نظرًا لكميات الأسلحة الثقيلة والنوعية التي زودت بها الولايات المتحدة وحدات الحماية، ولقيام الوحدات بحفر الأنفاق في المنطقة بشكل أكثر تجهيزًا من المناطق السابقة، بالإضافة إلى وجود المدنيين بأعداد أكبر مما قد يعقد ويبطئ العملية التركية، كما أن قيام وحدات الحماية بقصف المدن التركية المحاذية للحدود كما حدث في اليوم الثاني للحملة قد يبدأ في تشكيل رأي عام معارض للعملية.
يمكن القول إن الموقفين الأمريكي والروسي هما الأكثر تأثيرًا على الموقف التركي يليهما الموقف الإيراني والإسرائيلي
يبقى أن نشير إلى أنه حتى لو تخلصت تركيا من وجود وحدات الحماية الكردية فإن عدم القدرة على إقناع اللاجئين بالعودة الطوعية يعتبر تحديًا خاصة لو عاد بعض اللاجئين وحدثت بعض النزاعات أو الخلافات الإثنية، حيث تحتاج تركيا لإثبات أن المنطقة أصبحت آمنة بالفعل ويمكن للاجئين العودة إليها، وإذا لم تستطع تركيا فعل ذلك، لا يبقى أمامها إلا خيار فتح الأبواب للاجئين للتدفق نحو أوروبا، وقد هدد الرئيس التركي بذلك حال استمرت الدول الأوروبية بوصف العملية التركية بالاحتلال.
من خلال ما سبق يمكن القول إن الموقفين الأمريكي والروسي هما الأكثر تأثيرًا على الموقف التركي يليهما الموقف الإيراني والإسرائيلي، ولعل المواقف الثلاث الأولى تبدو متساهلة بدرجات متفاوتة مع عملية تركية محدودة، أما الموقف العربي فهو موقف رافض، لكن من يعبأ به أصلًا؟.