إذا كنت من المقيمين في الولايات المتحدة وتُبدي تعاطفًا إنسانيًا ولو ضئيلًا مع القضية الفلسطينية وحركات المقاومة وما يتعرض له الفلسطينيون من جرائم إبادة على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، خلال الحرب الدائرة حاليًا في قطاع غزة والتي انطلقت في 7 أكتوبر 2023، فأنت عرضة للترحيل خارج أمريكا، وإلغاء تأشيرة الدخول التي حصلت عليها أيًا كانت الدوافع والأسباب وراء منحك إياها.
“الإلغاء والترحيل” (Catch and Revoke).. حملة أطلقها وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، تهدف إلى إلغاء تأشيرات الأجانب الذين يبدون تعاطفًا مع حركة حماس أو غيرها من الجماعات التي تصنفها الولايات المتحدة “إرهابية”، وتعتمد على الذكاء الاصطناعي في متابعة ومراقبة حسابات عشرات الالاف من حاملي التأشيرات الأمريكية على منصات التواصل الاجتماعي، وفقًا لما نقله موقع “أكسيوس” عن مصادر رسمية في وزارة الخارجية الأمريكية.
عاجل | وول ستريت جورنال: إجراء إدارة #ترمب جزء من الحرب على مؤسسات أكاديمية لا تبذل جهودا كافية لمعالجة معاداة السامية
– وزارة التعليم الأمريكية: فريق مكافحة معاداة السامية يتخذ إجراء لحماية الطلاب اليهود بعد تقاعس جامعة كولومبيا pic.twitter.com/p3jMOfy6la
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 7, 2025
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أصدر أمرًا تنفيذيًا، الثلاثاء 29 كانون الثاني/يناير، لمكافحة ما يسمى بـ”معاداة السامية”، متوعدًا بترحيل الأفراد الذين دعموا حركة حماس علنًا في أعقاب هجوم طوفان الأقصى، حيث قال صراحة “سنجدكم، وسنرحلكم”، كما تعهد “بإلغاء تأشيرات الطلاب لجميع المتعاطفين مع حماس في حرم الجامعات”.
خطوة تصعيدية من المتوقع أن تُحدث جدلًا كبيرًا داخل الولايات المتحدة، وتضع المبادئ الأمريكية حول حريات الرأي والتعبير التي أقرها دستور الدولة في مأزق أخلاقي حساس، بعدما تحولت إلى مجرد شعارات جوفاء، في خدمة الصهيونية، وسوط مسلط على رقاب كل من ينتقد الكيان الإسرائيلي، وأداة لملاحقة الملايين من البشر على خلفياتهم الأيديولوجية وميولهم الإنسانية.
الذكاء الاصطناعي في خدمة “إسرائيل”
تعتمد تلك الحملة على برنامج قائم على تقنية الذكاء الاصطناعي، حيث يقوم بمراجعة كافة الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بكل حاملي تأشيرات الطلاب الدراسين في الجامعات الأمريكية، والتي تقدر بعشرات الالاف، وذلك عبر مسارين، الأول يتعلق بإبداء أي دعم أو تعاطف مع حماس أو المقاومة، والثاني خاص بتوجيه الانتقادات لإسرائيل وجيشها أو للإدارة الأمريكية وتعاطيها مع هذا الملف.
ويشارك في تلك الحملة كل من وزارة الخارجية والأمن الداخلي والعدل مع الاستعانة بخبرات وإمكانيات وزارة الاتصالات، ومنذ عملية طوفان الأقصى راجع المسؤولون الفيدراليون أكثر من 100 ألف ملف لطلاب حاصلين على تأشيرات أمريكية، وذلك للتأكد من اتخاذ أي إجراء ضد الطلاب المعتقلين أو المفصولين من جامعاتهم بسبب نشاطهم المندد بالجرائم الإسرائيلية والداعم لحقوق الشعب الفلسطيني.
Cancel the visa of every foreign national out there supporting Hamas and get them out of America pic.twitter.com/JWPBGXAySB
— Marco Rubio (@marcorubio) October 15, 2023
غير أنه وبعض الفحص – بحسب أكسيوس- لم تكن حالة واحدة لإلغاء أي تأشيرة لأي من الطلاب المشاركين في الحراك الداعم لفلسطين طيلة فترة الرئيس السابق جو بايدن، وهو ما أثار حفيظة إدارة ترامب التي اتهمت الإدارة السابقة بتبني نهج متساهل تجاه إنفاذ القانون، وعليه جاء هذا التحرك والحملة التي دعا إليها وزير الخارجية.
ويستند روبيو في برنامج الترحيل الذي يتبناه ضد داعمي حماس إلى قانون الهجرة والجنسية لعام 1952، والذي يمنح وزير الخارجية صلاحية إلغاء تأشيرات الأجانب الذين يُعتبرون تهديدًا للأمن القومي، وهو الذي كان قد صرح في 15 تشرين أول/ أكتوبر 2023، أي بعد 8 أيام فقط من عملية الطوفان، وكان حينها سيناتور عن ولاية فلوريدا، قائلًا: “نرى الناس يسيرون في جامعاتنا وفي شوارعنا، يهتفون للانتفاضة ويحتفلون بما فعلته حماس.. هؤلاء يجب أن يغادروا البلاد فورًا”.
التمويل وإلغاء التأشيرات.. سلاحا ترامب لتكميم الأفواه
تحاول إدارة ترامب توظيف التمويل الجامعي وتأشيرات الدخول كورقتي ضغط في مواجهة كل من يجرؤ على انتقاد إسرائيل أو دعم حقوق الشعب الفلسطيني، ففي 4 أذار/مارس الجاري أعلنت أنها بدأت مراجعة شاملة للمنح والعقود الفيدرالية الممنوحة لجامعة كولومبيا، مستندة في ذلك إلى المزاعم التي تقول إن الجامعة لم تتخذ إجراءات كافية لمواجهة “معاداة السامية” أمام الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
كما وقع ترامب، أمرًا تنفيذيًا، يقضى بتوقف التمويل الفيدرالي عن الكليات والمدارس التي تسمح باندلاع احتجاجات، محذرًا من أنه سيتم اعتقال الطلاب الذين يحرضون على الاحتجاجات، أو فصلهم من المؤسسات التعليمية، إذا كانوا أمريكيين، أو ترحيلهم بشكل دائم إلى بلدانهم الأصلية إذا ما كانوا من الأجانب، مشددًا على أن إدارته ستتخذ إجراءات صارمة ضد أي نشاط يعتبره تحريضًا أو تهديدًا للأمن القومي.
من جانبها قالت وزيرة العدل الأميركية بام بوندي إن إدارة ترامب ستعمل على إنهاء ما وصفته بحالة التسامح مع معادة السامية في الجامعات الأميركية، مؤكدة أن فرقة مكافحة معاداة السامية ستواصل محاسبة الجامعات على السماح بهذا “السلوك البغيض”، وأضافت “لن نتسامح مع أي جامعة تفشل في مسؤولية المحاسبة على التمييز ضد الطلاب.. على الجامعات الامتثال لقوانين مكافحة التمييز وحماية الطلاب أو تتوقع العواقب”.
تهديد صريح وواضح للجامعات الأمريكية ان تلتزم بتعاليم #ترامب اي عدم السماح للطلبة بالتظاهر لصالح فلسطين والا ستتوقف المساعدات الحكومية المادية لهذه الجامعات. كل هذه الامور لن تمر مرور الكرام. ترامب مستمر في طغيانه لانه يعيش في فقاعة. pic.twitter.com/FVHpqrusci
— Samar D Jarrah (@SamarDJarrah) March 7, 2025
وكانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت في وقت سابق وقف تمويل فدرالي بحوالي 400 مليون دولار لجامعة كولومبيا في ولاية نيويورك، وهي الجامعة التي شهدت انطلاقة الشرارة الأولى للاحتجاجات الطلابية الداعية إلى وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، ومنها انتقلت العدوى إلى العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا.
فيما أعلنت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ووزارة التعليم، وإدارة الخدمات العامة، أنه سيتم مراجعة منح فيدرالية تقدر بــ5 مليارات دولار كانت ممنوحة للجامعة، كما لوحت الجهات الفيدرالية المعنية بأنها ستدرس إمكانية وقف العمل بعقود فيدرالية بقيمة 51 مليون دولار، بحسب بيان مشترك للجهات الثلاثة.
وقد اعتبر رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون أن هذا القرار، يعني وقف تمويل جامعة كولومبيا، “يبعث رسالة للجامعات، مفادها أن توقف العنف والترهيب للطلاب اليهود أو تدفع الثمن”، وقال إن جامعة كولومبيا “فشلت في حماية طلابها من المتعاطفين مع الإرهابيين”.
أي تأثير محتمل على الحراك الداعم لفلسطين؟
لاشك أن اسلوب الابتزاز هذا سيمثل ضغطا كبيرًا على الحراك الطلابي الداعم لفلسطين في الداخل الأمريكي، ويضع مستقبل الالاف من الطلاب المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، سواء كانوا عربًا أو غير عرب، على المحك، الأمر الذي قد يدفعهم نحو إعادة النظر في نشاطهم الطلابي بعدما باتت الأمور مكشوفة بهذا الحد.
التداعيات ذاتها ستنطبق على الجامعات الأمريكية وإداراتها، والتي ستكون مضطرة هي الأخرى لمراجعة نشاطها السياسي، وحراكها الداعم لأي قضية إنسانية في المجمل، تجنبا لملاقاة مصير جامعة كولومبيا، حيث وقف التمويل، وبالتالي تعرض الجامعة لحالة من الشلل التام وتجميد نشاطها التعليمي.
وفي سياق الترهيب، ستجد الحريات الأكاديمية نفسها في مأزق كبير، حيث من المتوقع أن تدخل نفقا مظلمًا من التضييق، وتواجه انتكاسة كبيرة تحت ولاية ترامب، فالحريات هنا تساوي وقف التمويل والطرد وربما الاعتقال، ينطبق ذلك على الطلاب والأساتذة والعمداء ورؤساء الجامعات.
ورغم خطورة هذا التحرك على مستقبل الحراك الطلابي الداعم لفلسطين داخل الولايات المتحدة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة الرضوخ لأوامر الرئيس الأمريكي وإدارته ووأد مثل هذا الحراك الذي من المتوقع أن يأخذ أشكالا وصورا أخرى، بعيدًا عن الإطار الجامعي أو التعليمي، في ظل تعدد الكيانات والجمعيات الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، والتي يمكنها نقل مثل تلك الأنشطة الداعمة، وبنفس زخمها، لخارج الحرم الجامعي.
وتعكس تلك الخطوات، وما سبقها من مواقف وتصريحات، إصرار إدارة ترامب على المضي قدما في دعم إسرائيل دون شرط أو قيد، ودون خطوط حمراء، المهم هو الحصول على الرضا السامي من الإنجيليين البيض في الولايات المتحدة وأقطاب الصهيونية العالمية، بصرف النظر عن تداعيات هذا التوجه على منظومة الحريات وتقويضها للحقوق المدنية في ظل التحذيرات من تداعيات ذلك النهج على التماسك المجتمعي وصورة الولايات المتحدة خارجيًا.
أخيرًا.. يبدو أن الإدارة الأمريكية في عهد الجمهوريين، ونيابة عن الحليف الإسرائيلي، قد حملت على عاتقها مسؤولية كي الوعي العالمي إزاء عملية طوفان الأقصى التي خلقت مزاجًا شعبيًا ورأيًا عامًا عالميًا داعمًا للفلسطينيين ومنددًا بالكيان الإسرائيلي، وساهم بشكل أو بآخر في عزلها وتقويض صورتها الوردية التي حاولت الترويج لها لعقود طويلة، لتسقط في غضون أشهر قليلة.