تتجه أنظار العالم كل عام في هذا التوقيت نحو العاصمة النرويجية أوسلو، حيث يعلن معهد نوبل للسلام اسم الفائز بجائزته السنوية التي تعتبر من أكثر جوائزه قيمة وشهرة في العالم، وهي واحدة من مجموعة جوائز “أسرة نوبل”، بل إنها نالت اهتمامًا أكثر من جوائز نوبل الأخرى.
وفيما يشيد البعض بالقائمين على الجائزة، يعتبر آخرون أن منحها أو اختيار الفائزين بها لا يخلوان في بعض الأحيان من دلالات سياسية، لكن معهد نوبل للسلام يستبعد هذه الاتهامات، ومع هذا، لا يستبعد المعهد وقوع أخطاء في عمليات الاختيار.
الجائزة الأكثر إثارة للجدل
كان آخر الحاصلين على الجائزة هو رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد تقديرًا لجهوده الرامية إلى تحقيق السلام وإرساء تسوية النزاع الحدودي مع إريتريا بعد 20 عامًا من العداء على خلفية حرب حدودية، فضلاً عن تمكنه من إعادة الهدوء النسبي إلى بلاده التي عانت من اضطرابات شعبية وصراعات قبلية من خلال إجراء المصالحات بين القوميات في مختلف الأقاليم الإثيوبية.
وبغض النظر عن كون آبي آحمد يستحقها أم لا كما يجادل البعض، تثير جائزة نوبل للسلام العديد من الأسئلة، خلافًا لجوائز نوبل الأخرى التي لطالما كانت خالية من أي جدال، فالجائزة التي بدأت على اعتبارها جائزة تُمنح لصناع السلام على الصعيد الدولي، باتت أشبه بميدالية في مجال السلوك العام، ومصدر إحباط إذا ثبت أن أحد الأشخاص الذين حظوا بها لا يستحقها فعلاً.
في حين ترشح لهذه الجائزة تحديدًا أسماء لا علاقة لها بالسلام، غابت عنها أسماء يفترض أن تكون على رأس القائمة
المؤرخ البريطاني ريتشارد إيفانز يرى في مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي” أن الجدل بشأن الجائزة انبثق انطلاقًا من المؤسس نفسه، ألفريد نوبل (1833 ـ 1896)، الذي كان كيميائيًا ورجل أعمال سويدي، واخترع الديناميت سنة 1867، واخترع بعد 8 سنوات مادة متفجرة أخرى، وهي الجلجنيت التي أصبحت تستخدم بكثرة من الجيوش والإرهابيين على حد سواء، علاوة على ذلك، امتلك نوبل شركة بوفورس للأسلحة وعدة شركات أخرى.
وفقًا للمعايير التي كتبها ألفريد نوبل في وصيته، يجب على الجائزة أن تُمنح لأكثر أو أفضل عمل من أجل “القضاء على الأسلحة أو الحد منها، وتحقيق الأخوة بين الشعوب والسلام، وإلغاء أو الحد من الجيوش الثابتة”، لكن لم لم يعد الجزء الأول من المعيار مهمًا للغاية، فقد تم توسيع معايير ما يهم “السلام” بشكل كبير في السنوات الأخيرة ، لدرجة أنه أصبح يشمل السياسات البيئية الآن.
على سبيل المثال، حصلت الناشطة الكينية في مجال البيئة وانغاري ماتاي على جائزة نوبل للسلام عام 2004، وهي أول امرأة إفريقية تحصل على هذه الجائزة، لسعيها إلى وقف الاحتطاب الجائر في منطقة الغابات حول العاصمة نيروبي، كما عملت على مكافحة الفساد في بلدها بعكس تصريحات لاحقة لها قالت فيها إن فيروس الإيدز تم تطويره في مختبرات غربية من أجل القضاء على العرق الأسود، الأمر الذي جر عليها انتقادات حادة.
ومع تغيير هذه المعايير بدأت الكثير من المفارقات تظهر على السطح مع مرور السنوات، ويبدو ذلك أكثر بلغة الأرقام، فقد حصدت الدول الغربية عددًا كبيرًا واستثنانيًا من جوائز نوبل على مر التاريخ، فبين عامي 1901 و2018 مُنحت الجوائز 590 مرة لـ935 شخصًا ومنظمة مع حصول البعض على الجائزة أكثر من مرة، وتعتبر أكثر 5 دول حصولاً على الجوائز الولايات المتحدة بحصولها على 380 جائزة، تليها بريطانيا بـ132 وألمانيا بـ108 وفرنسا بـ69 والسويد بـ32 جائزة.
نصيب العرب في جميع حقولها ظل ضئيلاً، فقد حصلوا على 8 جوائز منها 5 للسلام: محمد أنور السادات وياسر عرفات ومحمد البرادعي وتوكل كرمان، في حين مُنحت آخرها عام 2015 للجنة الحوار الوطني التونسي لدورها في انتقال تونس إلى الديمقراطية. هذا النصيب يعادل ما نسبته 0.95% من الحاصلين على جوائز نوبل، رغم أن العرب يشكلون 4% من سكان العالم.
ومن مفارقات نوبل أيضًا حصول أسرة بكاملها على الجائزة، فقد حصلت الباحثة البولندية الفرنسية ماري كوري على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903 بالمشاركة مع زوجها بيار كوري، ثم انفردت بالجائزة في الكيمياء عام 1911، لتلحق بها ابنتها إيرين جوليو كوري وتحصل على الجائزة في الكيمياء عام 1935 بالمناصفة مع زوجها فردريك جوليو كوري، كما حصل هنري لابويسي زوج ابنتها الصغرى إيف كوري، الذي يعمل مديرًا لمنظمة اليونيسف على جائزة نوبل للسلام عام 1965.
يقودنا هذا إلى ما كشفه الشاعر شل أبسمارك عضو الأكاديمية السويدية في كتابه “الجائزة” عن وثائق التشاور السرية بين أعضاء جائرة نوبل، التي تم رفع السرية عنها، وهي تفصح في مجملها عن تسييس جائزة نوبل وميولها للعنصرية وعدم استقلاليتها، واتهم أمريكا واللوبي اليهودي بالتدخل في اختيار الفائزين بالجائزة انطلاقًا من شهية عارمة لوضع جميع المحافل الدولية المهمة بجيبها.
أبسمارك لفت إلى أن فوز الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي جاء بإملاءات أمريكية، وعلى شكل مكافأة له لأنه شارك في إضعاف وتدمير العراق، منح الجائزة ليكلف بمهمة الضغط على إيران وحتى على سوريا، وربما على دول عربية أخرى مثل ليبيا، وهو حاله حال الرئيس السوفيتي ميخائيل غوربتشوف الذي حصل عليها نتيجة تطبيقه للإملاءات الأمريكية، فهو المسرّع بانهيار الاتحاد السوفيتي لصالح الولايات المتحدة.
نوبل للسلام.. التاريخ الأكثر سخرية
بعض النظر عمَّا صاحب الجائزة المرموقة التي تبلغ قيمتها 9 ملايين كرونة سويدية، أي ما يعادل 800 ألف دولار، من جدل وانتقاد منذ أن أُقيم أول حفل لها عام 1901، بما في ذلك رفض الكاتب البريطاني برنارد شو تسلم الجائزة عام 1925، وصولاً إلى حجب الجائزة عام 2018 إثر فضيحة عن مزاعم بسوء سلوك جنسي تعرضت له ولية عهد السويد الأميرة فيكتوريا، فإن ما صاحب جائزة نوبل للسلام بوجه خاص كان الأكثر صخبًا.
وفي حين ترشح لهذه الجائزة تحديدًا أسماء لا علاقة لها بالسلام، غابت عنها أسماء يفترض أن تكون على رأس القائمة، على سبيل المثال، في نفس العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية، وقبل 8 أشهر من اجتياح ألمانيا لبولندا، برز اسم السياسي الألماني النازي أدولف هتلر كأحد المرشحين لنيل الجائزة من العضو في الحزب الديمقراطي الاجتماعي في البرلمان السويدي إيريك جوتفريد كريستيان براندت الذي وُجِّهت إليه الكثير من الاحتجاجات والاتهامات في ذلك الوقت بأنه يدعم الفاشية.
ليست المجازر فقط هي القاسم المشترك بين هتلر والديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني، فرفيق هتلر وشريكه في الحرب العالمية الثانية تلقى هو الآخر ترشيحًا لجائزة نوبل للسلام قبل شهر واحد فقط من غزو إيطاليا لإثيوبيا
بدأت علاقة القائد النازي مع جائزة نوبل للسلام منذ منتصف الثلاثينيات، فعلى إثر منح الصحفي والمعارض الألماني كارل فون أوسيتزكي هذه الجائزة عام 1935 من أجل إقدامه مطلع الثلاثينيات على فضح برامج إعادة تسليح ألمانيا، أمر أدولف هتلر بحظر استلام الألمان جوائز نوبل، فضلاً عن ذلك وجه أوامر صارمة للإعلام الألماني بتجنب الحديث عن جوائز نوبل.
لكن بعد 4 أعوام حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد أطلق براندت في خطابه إلى اللجنة المسؤولة عن ترشيح الأسماء على هتلر لقب “الفوهور”، ويعني مقاتل من أجل السلام أو أمير السلام على الأرض، وقال في خطاب ترشيحه إن الزعيم النازي “هدية من الله للقتال من أجل السلام وسوف يجلب السلم لأوروبا والعالم أجمع” على حد قوله، وأشار إلى كتاب “كفاحي” الذي ألَّفه هتلر باعتباره “أفضل وأهم قطعة أدبية في العالم”.
المثير للسخرية أن اللجنة النرويجية لجائزة نوبل أخذت اقتراح براندت على محمل الجد، لكنه سارع إلى سحب الترشيح بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأعلن أن الأمر كان “مزحة”، ومع ذلك ظل هتلر رسميًا من ضمن الأسماء التي ترشحت لجائزة نوبل للسلام، ليبقى ترشيحه وصمة في سجل الجائزة حتى لو لم يفز بها.
ليست المجازر فقط هي القاسم المشترك بين هتلر والديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني، فرفيق هتلر وشريكه في الحرب العالمية الثانية تلقى هو الآخر ترشيحًا لجائزة نوبل للسلام قبل شهر واحد فقط من غزو إيطاليا لإثيوبيا، ولم يُعرف فيم كان البعض يفكرون حين رأوا ترشيح الرجل الذي تخلص من خصومه السياسيين بمنتهى القسوة، واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد أعدائه.
والأكثر من مجرد الترشيح أن موسوليني تلقى خطابيّ تزكية وليس خطابًا واحدًا، وإن كان الأمر على سبيل السخرية، وبحسب موقع “هيستورى” فإن الخطابين تعرضا للاختفاء من سجلات أرشيف نوبل، ولذا “لا يمكننا أن نعرف تحديدًا أسباب ترشيح موسوليني، لكننا نعرف أن من رشحا موسوليني كانا أستاذ قانون في ألمانيا وآخر من فرنسا”.
ولا تعلن لجنة نوبل عن أسماء المرشحين أو جنسياتهم، ولكن الجهات التي يحق لها أن ترشحهم، والتي تشتمل على برلمانيين ووزراء من كل الدول وفائزين بالجائزة وبعض الأساتذة الجامعيين، يمكن لها أن تعلن عن اسم الفرد أو المنظمة التي رشحتها، ولكن هذا لا يعني أن من رشحته قد قبلت اللجنة ترشيحه.
وكواحد من المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، رشّح الزعيم الروسي جوزيف ستالين مرتين في العامين 1945 و1948، ويبدو أن هذا كان لجهوده في إنهاء الحرب العالمية الثانية، لكن قيادته الحصار العنيف من برلين، ما سبب 65 ألف حالة وفاة، وتنفيذ أكثر من 25 ألف أسير حرب بولندي، وتنظيم حملة سياسية يشار إليها فيما بعد باسم “الإرهاب العظيم”، وقيادة القوات لاغتصاب النساء على طول الطريق، لم ينهِ الحروب، بل زادها دموية.
وفي عام 2001، حصل الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو على ترشيح للحصول على جائزة نوبل للسلام، ولكن الأمر الأكثر إثارة للصدمة هو السبب الذي جعل مؤيده، عضو البرلمان النرويجي، هالجير لانجلاند، يرشحه، وبغض النظر عن جرائم كاسترو الماضية ضد الإنسانية، دافع لانجلاند عن ترشيحه بقوله: “ماذا يفضل الناس؟ حق التصويت أو المدارس والتأمين الصحي والسكن والمواد الغذائية المجانية مثلما يحصل في كوبا”.
لم يفز كاسترو الذي أطاح بحكومة فولغينسيو باتيستا بثورة عسكرية بالجائزة، فهناك هناك الكثير من البلدان التي يتعايش فيها كل من التصويت والحقوق الأساسية في التعليم والرفاهية دون تقييد الحرية، لكنه في نفس الوقت ليس خاسرًا، ففي عام 2014، فاز بجائزة كونفوشيوس للسلام التي أرادت منها الصين مضاهاة جائزة نوبل.
في عام 2014، تم ترشيح فلاديمير بوتين، الرجل المرتبط بغزوات العصر الحديث، من قِبل الأكاديمية الدولية للوحدة الروحية والتعاون بين شعوب العالم. ليس من الغموض على الإطلاق أنها مجموعة ضغط مناصرة لروسيا أرادت أن يتم الاعتراف ببوتين لجهوده في استخدام العمل غير العسكري لحمل الحكومة السورية على تسليم أسلحتها الكيماوية، على الرغم من دور روسيا كمورد رئيسي لأسلحة نظام بشّار الأسد.
كان كافيًا بالنسبة للجنة نوبل للنظر إلى بوتين في ترشيحات لاحقة على أنه غزا أوكرانيا من هذه النقطة، لكن في النهاية، لم يفز لأن سوريا كانت “متأخرة عن الجدول الزمني في تسليم أسلحتها”، وهي الطريقة المهذبة لقول إن سوريا قللت من أوامر بوتين.
من مفارقات الجائزة المرموقة أيضًا حصول شخصيات عليها لم تعد بدورها الآن تحت الأضواء، ففي عام 1997 كانت الجائزة من نصيب الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية ومنسقها الناشط الأمريكي جودي وليامز،، لكن بلادها، أي الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب روسيا والسعودية والإمارات، لم توقع عليها اتفاقية أوتاوا الدولية لحظر الألغام حتى الآن.
وبعد أن بهت بريق الفوز بهذه الجائزة الرفيعة، وصفها ويليامز بأنها عبء لا يوصف، وهو الوصف الذي أكده الرئيس الفنلندي السابق مارتي أهتساري الحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 2008، بقوله: “يطلب عادة من الحاصلين على جائزة نوبل للسلام ضم توقيعاتهم إلى القوائم الكثيرة التي تطلق نداءاتها لأهداف مختلفة، لذا فإن عبء المسؤولية على معظم الحاصلين على هذه الجائزة ثقيل للغاية”.
وعلى مدار العقدين الماضيين، ارتفع عدد المرشحين، وأصبح يتجاوز اليوم 300 شخص، لذلك ليس من المستغرب أن تظهر بعض الأسماء “الغريبة”، ففي العام 2001، رشح أحد النواب السويديين الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) لهذه الجائزة، وبرر ترشيحه بأن الرياضة لديها “القدرة على خلق تواصل عالمي إيجابي” والمساهمة في “عالم أكثر سلامًا”.
لكنه لم يكن الأول الذي يفكر بهذه الطريقة، ففي العام 1956، رشح جول ريمي الذي أنشأ مسابقة كأس العالم في كرة القدم لهذه الجائزة أيضًا، وفق الصحفي أنطوان جايكوب مؤلف كتاب “تاريخ جائزة نوبل”، وفي العام 1998، وجد مايكل جاكسون نفسه مرشحًا لجائزة نوبل السلام، ولكن رغم أن مزاعم التحرش الجنسي بالأطفال لم تكن قد ظهرت إلى الواجهة، لم تقنع رسالة “ملك البوب” التي مفادها “شفاء العالم” اللجنة.
هذه الأسماء المذكورة في الأعلى، التي يرى الكثيرون أن لا علاقة لها بالسلام، ربما تجعلنا نظن أن أي شخص يمكنه الترشح لنوبل للسلام، وأنه بالتأكيد سيتستمتع أسماء مثل المهاتما غاندى وإليانور روزفلت وجيمس جويس، وغيرهم كثيرًا بأضواء نوبل، فقد كان غاندي على وشك الفوز، وترشح عدة مرات كان آخرها قبل أيام من اغتياله عام 1948، وهو ما وصفه المدير السابق للجنة نوبل النرويجية جير لونديستاد بأن “غياب غاندي من قائمة الحائزين على جائزة نوبل يعتبر أكبر إغفال في تاريخ الجائزة”.
جائزة المفارقات السياسية
كان أول دافع لإثارة الجدل عن جائزة نوبل للسلام في تاريخها حين تم التركيز على منحها للناشطين في ميدان السلام، وخاصة المفاوضين الرئيسيين في المعاهدات الدولية، بما في ذلك الدبلوماسيون والسياسيون الذين يقومون بأعمال معقدة وصعبة وسرية لصنع السلام.
ووفقًا لهذا الأمر المستحدث، مُنح وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر الجائزة عام 1973، لدوره في التفاوض بشأن الانسحاب الأمريكي من فيتنام إلى جانب نظيره الفيتنامي وقائد البعثة لي دوك ثو، وبالفعل حدث هذا، بعد ضغط عسكري من أمريكا التي دعمت لمدة 20 عامًا أحد الأطراف في فيتنام، بينما دعمت روسيا والصين طرفًا آخر.
كانت أيادي الحاصلين على الجائزة (ثو وكيسنجر) ملطخة بالدماء، حيث كان الأول قائدًا في اتحاد استقلال فيتنام ضد الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي، أما الثاني، فكان مسؤولاً عن حملة تفجير استهدفت خطوط إمداد المتمردين في كمبوديا
في المقابل، رفض ثو الجائزة التي رأى أنها مُنحت لوزير خارجية دولة “معتدية”، لأنه استطاع أن يقود مفاوضات دولته للخروج من الدولة الأخرى، وأشار حينها إلى أن محادثات باريس للسلام لم تؤد في الواقع إلى إنهاء القتل، فقد استمرت الحرب لمدة سنتين بعد المحادثات حتى الانتصار النهائي للفيتناميين الشماليين.
ورغم إدراكها أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في نهاية يناير/كانون الثاني لم يؤد إلى استعادة السلام، قالت لجنة نوبل المكونة من 5 أعضاء في البرلمان النرويجي، التي تختار الفائز بجائزة السلام وفقًا لإرادة ألفريد نوبل، إن العالم بأسره مدين بفضل الرجلين الذين قدّموا “مواهبهم وحسن النية” للمفاوضات الصعبة التي استمرت أكثر من 3 سنوات.
في الوقت ذاته، كانت أيادي الحاصلين على الجائزة (ثو وكيسنجر) ملطخة بالدماء، حيث كان الأول قائدًا في اتحاد استقلال فيتنام ضد الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي، أما الثاني، فكان مسؤولاً عن حملة تفجير استهدفت خطوط إمداد المتمردين في كمبوديا، علمًا بأن هذا الهجوم تسبب في مقتل نحو 100 ألف شخص.
عقب منح الجائزة لكيسنجر، استقال عضوان من لجنة نوبل احتجاجًا على ذلك، وقرر كيسنجر عدم حضور الحفل وتبرع بالجائزة المالية للجمعيات الخيرية، وفي سنة 1975، أي بعد سقوط مدينة سايغون (هو تشي منه حاليًّا)، حاول كيسنجر استعادة الجائزة، رغم أن هذا غير مسموح به وفقًا لقواعد الجائزة.
كان اختيار كيسنجر وثو مفاجأة كبيرة في ذلك الحين، وكانت هناك توقعات بأنه سيكون الأكثر إثارة للجدل للجوائز منذ تأسيسها عام 1901، لكن أكبر المفارقات في تاريخ الجائزة لم تتوقف عند هذا الحد.
كيسنجر يصافح وزير الخارجية الفيتنامي الشمالي لي دوك ثو في باريس بعد نجاح المفاوضات لوقف إطلاق النار في حرب فيتنام
مفارقة سياسة أخرى للجائزة المرموقة تمثلت في حصول الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على جائزة السلام عام 2009 رغم أنه لم يمض على تقلده منصب الرئاسة في البيت الأبيض أكثر من 9 أشهر لم يقدم فيها إنجازات كبيرة في مجال السلام العالمي، وبدا أن اللجنة أولت أهمية خاصة لرؤية أوباما وسعيه من أجل عالم خال من الأسلحة النووية، لكن المنتقدين قالوا وقتها إن اختياره كان سياسيًا لكونه أول رئيس أسود لأمريكا وحسب.
تزامن ذلك مع بروز اسم وزيرة شؤون المرأة في أفغانستان سيما سامار باعتبارها الاسم الأقوى ضمن المرشحين للجائزة بسبب مساهماتها في تعليم البنات ودعم حقوق المرأة في أفغانستان بمرحلة طالبان وما بعدها لدرجة تعرضها للاعتقال في 1984، وكتعويض عن ذلك، فازت سامار عام 2012 بجائزة “لايفيلهود” التي يطلق عليها في الغالب جوائز نوبل البديلة.
عام 2018، رفضت لجنة جائزة نوبل سحب جائزة نوبل للسلام التي حصلت عليها زعيمة ميانمار أون سان سو تشي عام 1991، في ضوء تقرير للأمم المتحدة أفاد أن جيش ميانمار ارتكب عمليات إبادة جماعية بحق مسلمي الروهينغيا.
وباعتبارها الحاكم الفعلي للبلاد، كان بإمكان أونغ سان سو تشي وقف أعمال الإبادة الجماعية، لكنها لم تعلن رفضها للحملة التي يقوم بها الجيش ضد المسلمين في ولاية راخين (أراكان)، ولم تتخذ أي قرار لحماية الروهينغا. وبدلاً من ذلك، أدانت “لجنة المعلومات” التي اختارتها سو تشي بعناية، التغطية الدولية للمجازر واصفة إياها بأنها مجرد “أخبار مزيفة”، بل وصفتهم سو تشي بأنهم أجانب دون جنسية، ومهاجرون غير شرعيين، وبنغالية من بنغلاديش.
على العموم، يمكن لمختلف هذه الأمثلة أن تكشف ما إذا كانت جائزة نوبل عادلة أو تخضع لأحكام السياسة، كما يمكن لأسباب الانتقادات التي توجه عادة للفائزين بها أن تعفيهم من تهمة التواطؤ في الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، لكنها يمكن أن تلقي الضوء على السبب الذي ألهمهم لخيانة القيمة المعنوية للجائزة.