ترجمة وتحرير نون بوست
وصلت كارولين كينج إلى نقطة فارقة في حياتها عندما وصلت المفاوضات إلى مرحلة معقدة وهي في طريقها إلى العمل، تكره كينج عملها لكنها كانت قادرة دائمًا على الاستيقاظ صباح كل يوم إثنين لتذهب إلى العمل، لكن في صباح هذا الإثنين قبل عامين لم تتمكن كينج أن تنهي تعقيد المفاوضات.
تقول كينج: “كنت أشعر أنني ممسوسة، كان جسدي يخبرني أن لا أذهب إلى العمل، لذا ذهبت إلى الطبيب”، كانت كينج قد أصابها الإرهاق من العمل بعد أن استمرت 17 في وظيفتها بشركة تصنيع دولية، حيث كانت تدير حسابات الشركة ومكتبها وتكنولوجيا المعلومات.
تضيف كينج: “كنت عاطفية جدًا وامتلئ بالدموع والغضب السريع في العمل، كان منطقيًا تمامًا ما قاله لي أحدهم أنني شخص مختلف خارج العمل”، تركت كينج التي تعيش في فيكتوريا العمل قبل عامين وتدير الآن عملها الخاص، لكن آثاره ما زالت باقية، حيث تقول: “بعد 3 أشهر من استقالتي كنت أفكر وأقول إنني أكره يوم الأحد ثم أدرك أنني لم أعد أكرهه”.
في تقرير عام 2018 لمركز “عمل المستقبل” في معهد أستراليا، وجد التقرير أن الموظفين في أستراليا ينهون نحو 312 ساعة عمل إضافية غير مدفوعة كل عام بما يصل إلى شهرين سنويًا، ووجد استطلاع آخر أجرته شركة “Medibio” لتقنيات الصحة النفسية أن ثلث الموظفين الذين يعملون في قطاع الشركات في أستراليا يعانون من أمراض نفسية ويعاني 31% منهم من التوتر والضغط.
بسبب تزايد القلق بشأن زيادة حوادث الإرهاق في العمل، أضافت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا الإرهاق إلى قائمة الظواهر المهنية
يقول ستيوارت تايلور مؤسس شركة “Springfox” لتدريبات القدرة على التحمل: “يعمل غالبية الأستراليين في الشركات بفلسفة النقدية، فلم نعد نعمل أسبوعًا عاديًا ونحظى بعطلة نهاية الأسبوع، هناك إحساس دائم بأنك على وضع الاستعداد حتى لو لم تكن تعمل”.
عام 1856 قام عاملو البناء في ملبورن بمسيرة نحو البرلمان يطالبون فيها بتحديد 8 ساعات للعمل يوميًا فقط، لتبدأ سلسلة من قوانين العمل التقدمية التي تضمن حق الموظفين بالتوقف عن العمل في وقت مناسب، ورغم أن هذه الحصانة محفوظة بدرجات متفاوتة في اتفاقيات العمل الحاليّة، ما زال هناك العديد من الموظفين الذي يعملون نفس ساعات العمل القديمة على حساب صحتهم الجسدية والنفسية.
يقول مايكل ليتر أستاذ علم النفس الصناعي والتنظيمي في جامعة فيكتوريا: “في هذه الأيام من يحصل على رواتب عالية هو من يعمل ساعات طويلة، كان معتادًا أن من يعمل كثيرًا هم الأشخاص الذين يحصلون على رواتب أقل فيعملون فترات أطول لتحسين معيشتهم”.
في إشارة إلى تزايد القلق بشأن زيادة حوادث الإرهاق في العمل، أضافت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا الإرهاق إلى قائمة الظواهر المهنية، لكنها لم ترق إلى كونها مرضًا، عرفت المنظمة الإرهاق على أنه استنزاف وشعور بالانفصال في العمل ويقلل الكفاءة المهنية في العمل.
يتفق ذلك مع حالة كينج التي كانت تحب عملها ومتفقة مع رئيسها القديم، لكنها تقول: “لقد كنت أشعر مع المدير الجديد بأنني بلا قيمة وأن رأيي لا يهم رغم أنني شهدت سنوات طويلة لنمو الشركة وتطورها”.
يقول ليتر الذي يدرس الإرهاق منذ الثمانينيات أن الطبيعة العالمية لعالم الأعمال قد تراجعت بسبب ساعات العمل الاعتيادية في أستراليا، ورغم أن الإرهاق أصبح أشد كثافة في أمريكا بسبب الرعاية الصحية المتقلبة وارتفاع مستوى ديون الطلاب، فإن الأستراليين يعانون أيضًا.
النساء أكثر عرضة للشعور بالإرهاق لأنهن يمتلكن سيطرة وسلطة أقل في عملهن
يضيف ليتر: “هناك بالتأكيد بعض الأشخاص في أستراليا الذين يعملون ساعات العمل المخصصة لهم ثم يذهبون إلى منازلهم، ومع ذلك أعتقد أن هناك شريحة في أستراليا على طرفي جدول الأجور المنخفضة والمرتفعة الذين يعملون عدد ساعات طويلة للغاية”.
وكما أشار ليتر فيبدو أن الإرهاق يؤثر على هؤلاء الذين يقعون في أقصى نهاية القائمة، فالمحامون التجاريون يعملون 100 ساعة في الأسبوع بالإضافة إلى موظفي الأعمال المؤقتة الذين يكافحون للحصول على الحد الأدنى من خلال توصيل الطعام إلى الشركة التي ينشغل محاموها بالعمل فلا يتمكنون من طهي الطعام.
يقول ليتر: “يعد العمل المؤقت معادٍ تمامًا لإطار العمل النقابي، أما عند أعلى طرف الجدول فإذا كنت ترغب في المنافسة العالمية فأنت بحاجة للتدافع طوال الوقت”، يقودنا ذلك إلى واحدة من أهم مظاهر الإرهاق وهي أنه يغلبك شعور ساحق بأن حياتك العملية ومهنتك خارج السيطرة.
في دراسة أجراها باحثون مؤخرًا بجامعة مونتريال تتبعوا فيها 2026 شخصًا – نصفهم من النساء – لمدة 4 سنوات، وجدوا أن النساء أكثر عرضة للشعور بالإرهاق لأنهن يمتلكن سيطرة وسلطة أقل في عملهن، يقول ليتر: “إذا كان الشخص يشارك في قرارات مهمة تؤثر على عمله فإن ذلك له دور كبير في الإرهاق، يحتاج الناس بشكل حقيقي إلى الاستقلال ولا أعني بذلك “أن أفعل أي شئ أرغب فيه”، لكنه يتعلق بالشعور بتحقيق شيء بدلاً من التصرف بناءً على قرارات أحدهم”.
كان هذا هو الوضع في حالة كينج التي شعرت بالإرهاق بسبب نقص القوة والسيطرة، تقول كينج: “عندما كان مديري يرغب في تحقيق شيء ما، كان يحب أن أقوم به في الحال، وإذا أردت أن استخدم أسلوبًا جديدًا لم يكن يسمح بذلك وكان يرغب دائمًا في أن يتم الأمر على طريقته حتى لو لم تكن الأفضل”.
بينما تمنحنا تكنولوجيا المعلومات فرص الوصول إلى مصادر كثيرة للعمل، فإنها أيضًا تعد مصدرًا للإلهاء
عمل تايلور مع العديد من الشركات للمساعدة في بناء المرونة في المواقف العصيبة، ويقول تايلور إن الرجال والنساء صغارًا كانوا أو كبار يمكنهم أن يشعروا بنقص السيطرة، ويضيف: “أعرف مديرين تنفيذيين يشعرون بعدم القدرة على السيطرة على ما يفعله مجلس الإدارة، لذا إذا كان مجال عملك لا يسمح بأي حرية فمن الأفضل أن تبدأ في البحث عن وظيفة أخرى، قد لا يكون الأمر سهلًا ويحتاج لبعض الوقت، لكن مجرد البدء في عملية البحث يمنحك بعض السيطرة”.
هناك فرق بين الشعور بالابتهاج والشعور بالإرهاق، فالقيام بالعمل المهم لا يسبب الشعور بالإرهاق سريعًا، بل إنه يحمس الناس، لكن المشكلة كما يقول ليتر أن الناس يضطرون للقيام بأعمال أخرى غير العمل الذي يحبونه من مهام إدارية سخيفة، ويضيف: “تُنتقد التكنولوجيا بسبب ذلك فهي تسمح للموظفين بالمشاركة في جميع أنواع الهراء الإداري مثل تدريبات الطاعة وملء الاستمارات والجداول الزمنية على الإنترنت، هذا العمل بلا معنى ويرهق الناس بشدة”.
لاحظ ليتر أن جيل الألفية أكثر عرضة للشعور بالإرهاق مقارنة بالفئات العمرية الأخرى، وهو ما تحدث عنه مقال شهير على موقع “بازفيد” يصف فيه معاناة الشباب الأمريكي، والوضع لا يختلف كثيرًا في أستراليا، فقد أجرت الجمعية النفسية الأسترالية استطلاعًا عن الضغوط والرفاهية ووجدت أن الشباب ما بين 18 وحتى 25 عامًا يعانون من مستوى رفاهية منخفض.
يقول ليتر: “في هذا الوقت تصبح أكثر عرضة للإرهاق وأنت بالكاد تبدأ العمل بعد انتهاء الجامعة التي تعد مكانًا أكثر مثالية، لذا يبدو أن هناك اختلافًا بين الواقع والرؤية المثالية للعمل، ويبدو أن المظاهر التكنولوجية للعمل ليست مساعدة لجيل الألفية”.
يضيف ليتر: “بينما تمنحنا تكنولوجيا المعلومات فرص الوصول إلى مصادر كثيرة للعمل، فإنها أيضًا تعد مصدرًا للإلهاء والأعمال الإدارية الكثيرة التي تضر بإنتاج العمل على المدى البعيد”، من وجهة نظر كينج قام الكثير منا بتوحيد هويته مع ما يفعله من أجل المعيشة، وتضيف: “أعتقد أن الكثير من الناس ضائعون والعمل يمنحهم تقديرًا للذات، وبعد كل ذلك لن يكون لديك الوقت لتدرك أنك غير سعيد بالعمل طوال الوقت”.
المصدر: الغارديان