ترجمة وتحرير: نون بوست
يعتبر الهجوم الإسرائيلي باستخدام طائرات مسيّرة على هدف تابع لحزب الله في إحدى ضواحي بيروت الجنوبية في 25 آب/ أغسطس، والذي تبعته عملية انتقامية محدودة لحزب الله على الحدود الإسرائيلية اللبنانية بعد أسبوع، أولى الانتهاكات الكبرى للوضع الراهن الذي كان سائدا بين الطرفين المتخاصمين طوال 13 سنة الماضية. ومن غير المرجح أن تكون الأخيرة.
بعد مرور 10 أيام من حادثة بيروت، نشر الجيش الإسرائيلي تغريدة تضمّنت صورة جوية تظهر مجموعة من المباني بالقرب من بلدة النبي شيت في سهل البقاع. وفقا لـ”إسرائيل”، كانت المستودعات تحتوي على معدات إيرانية مستخدمة في تصنيع الصواريخ الموجهة بدقة لفائدة حزب الله. وقد تعهد الجيش الإسرائيلي قائلا “لن نسمح لهم بذلك”، مشيرًا إلى أن هذه المنشآت قد تكون الهدف التالي. ووفقًا للمصادر الإسرائيلية، استهدفت عملية 25 آب/ أغسطس برنامج الصواريخ لحزب الله، الذي كانت قد نجحت في إعاقته قبل سنة، وذلك بتدمير معدات إيرانية متطورة.
صواريخ موجهة بدقة
يتباهى حزب الله بامتلاكه لصواريخ موجهة بدقة، لكنه ينكر أنه يسعى إلى تطوير الإمكانات الإنتاجية المحلية. وقد أكّدت مصادر مقرّبة من هذا الحزب إن الهجوم الذي جدّ في شهر آب/ أغسطس كان في الواقع محاولة اغتيال فاشلة استهدفت شخصية رفيعة المستوى داخل حزب الله أو متحالفة معه.
طورت “إسرائيل” أنظمة دفاعية متقدمة متعددة المستويات لحماية نفسها من الهجمات الصاروخية، إلا أن ذلك لا يمنع حقيقة أنه يمكن التغلّب عليها
في كلتا الحالتين، كانت الجهود الإيرانية المزعومة لتزويد حزب الله بصواريخ موجهة بدقة، ومساعدته على إنشاء قدرة تصنيع محلية، تمثل مصدر قلق كبير بالنسبة لـ”إسرائيل” لأكثر من سنتين، ومن المحتمل أن تؤدي إلى حدوث المزيد من الهجمات في المستقبل القريب.
سلّطت دراسة حديثة شارك في تأليفها خبراء دفاع إسرائيليون وبريطانيون الضوء بشكل خاص على صواريخ متوسطة المدى على غرار زلزال-2، وهو سلاح بمدى حوالي 200 كيلومتر وحمولة تزيد عن 500 كيلوغرام، والتي يزعم حزب الله أنه يملك 14 ألف صاروخ منها مخزّنة في مكان بعيد.
وفقًا لهذا المصدر، سيحتاج فريق مدرب تدريبا جيدًا إلى ثلاث ساعات تقريبًا لوصل صاروخ من نوع زلزال-2 بمجموعة نظام التموضع العالمي، إضافة إلى إجراء تعديلات أخرى، بتكلفة تبلغ حوالي 10 آلاف دولار لكل صاروخ. ومن خلال هذه التحسينات، تصبح هذه القذيفة “الغبية” التي تتبع القوس الباليستي المتوقع، والذي قد يهبط على بعد مئات الأمتار من الهدف المقصود عند استخدامه بأقصى مدى له، سلاحًا دقيقًا يمكن برمجته لضرب موقع محدد مسبقًا بدقة بضعة أمتار.
لقد طورت “إسرائيل” أنظمة دفاعية متقدمة متعددة المستويات لحماية نفسها من الهجمات الصاروخية، إلا أن ذلك لا يمنع حقيقة أنه يمكن التغلّب عليها. حتى القبة الحديدية، وهي أكثر أنظمة الدفاع الجوي التي اختبرتها “إسرائيل” والتي وقع تصميمها لاعتراض أسلحة “غبية” قصيرة المدى مثل صواريخ القسام التي أطلقتها حماس خارج غزة، وقاذفة صواريخ الكاتيوشا التي استخدمها حزب الله خلال حرب 2006، لا يمكنها توفير الحماية الكاملة.
الأهم من ذلك، تعتمد أنظمة الدفاع هذه على حساب القوس الباليستي للصواريخ القادمة لتحديد موقع التأثير، مما يتيح لها تركيز الاعتراض على الصواريخ التي من المحتمل أن تصل إلى أهداف ثمينة فحسب. ولا يمكن تنفيذ هذا الأمر مع الصواريخ الموجهة بدقة، التي ستتبع مسار رحلة الصاروخ الباليستي خلال معظم مسارها، ولكن بعد ذلك ستغير مسارها للتوجه مباشرة إلى هدفها المبرمج قبل وقت قصير من التأثير.
لم يدخل النظام الإسرائيلي “مقلاع داوود”، الذي صُمّم لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى على غرار زلزال-2، مرحلة التشغيل إلا في سنة 2017
لتوفير حماية فعالة، سيتعين على نظام الدفاع اعتراض جميع الصواريخ القادمة، وهي مهمة تكاد تكون مستحيلة إذا لجأ العدو إلى الحشد العسكري ودمج الصواريخ “الذكية” مع الصواريخ “الغبية”. قد تؤثر طرق الاعتراض “اللينة”، على غرار التشويش على نظام تحديد التموضع العالمي أو هجوم انتحال الشخصية، على أنظمة الدقة إلى حد ما، لكنها لا تزال غير خاضعة للاختبار، ومن غير المرجح أن تكون فعالة ضد هجمات الحشد.
بالإضافة إلى ذلك، لم يدخل النظام الإسرائيلي “مقلاع داوود”، الذي صُمّم لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى على غرار زلزال-2، مرحلة التشغيل إلا في سنة 2017، ولم يعمل كما كان متوقعًا في المناسبة الوحيدة التي وقع تطفعيله فيها حتى الآن.
تجنب المواجهة
في ظلّ تركّز أغلب البنية التحتية الحيوية لـ”إسرائيل” في منطقة مركزية صغيرة، قد تكون بضع ضربات كافية لشل البلاد. وهذا تحديدا السيناريو الذي سلّط حزب الله الضوء عليه لسنوات في الرسائل التي يوجهها لاستبعاد خطاب “إسرائيل” الذي تشتد خطورته يوما بعد يوم.
تؤكد مصادر حزب الله قبولها من حيث المبدأ أن “إسرائيل” قادرة على إلحاق أضرار هائلة بلبنان. لكنها تستبعد احتمال وقوع هجوم شامل، أو حتى تصعيد خطير، زاعمة أن تل أبيب تتجنّب ردة فعل حزب الله العنيفة. ويبدو أن تبادل إطلاق النار المحدود على الحدود الجنوبية التي أعقبت هجوم الطائرات المسيّرة في 25 آب/ أغسطس يشير إلى أنه في الواقع، ما زال الجانبان حريصان على تجنب المواجهة.
جنود إسرائيليون يقومون بدوريات في المنطقة الحدودية بين شمال “إسرائيل” ولبنان في الثاني من شهر أيلول/ سبتمبر.
مع ذلك، لم يدخل حزب الله و”إسرائيل” في مواجهة مباشرة مع بعضهما البعض بصورة منفردة، إذ أنهما على طرفي نقيض من الصراع الإقليمي بين الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين من جهة، وإيران وحلفائها، أو ما يسمى “بمحور المقاومة”، من جهة أخرى. وفي ظلّ تصاعد الصراع الإقليمي الكبير خلال الأشهر الأخيرة، الذي بلغ ذروته بشنّ هجمات على منشآت نفطية في السعودية في 14 أيلول/ سبتمبر، تزداد الأوضاع تأزما في شرق البحر الأبيض المتوسط.
لم يترك حزب الله أي مجال للشك في أن الحركة تعتبر نفسها جزءًا من هذه المواجهة الكبرى. ووفقًا للأمين العام للحركة حسن نصر الله، الذي تعهد مؤخرًا بالولاء للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، فإن “الحرب على إيران تعتبر بمثابة حرب على كل محور المقاومة. وشنّ حرب على الجمهورية الإسلامية يعني زجّ المنطقة بأكملها في حرب”.
أشارت مصادر مقرّبة من هذا الحزب بشكل علني إلى أنه في حال شُنّ هجوم على إيران يهدد بقاء الجمهورية الإسلامية، فإن حزب الله سينضم إلى صف طهران. وفي الأوساط المغلقة، أعربت هذه المصادر عن اقتناعها بأن هجوم حزب الله على “إسرائيل” والذي سيلحق أضرارا جسيمة بها سيجبر الولايات المتحدة على إلغاء أي حملة متواصلة ضد إيران.
“قواعد لعب كوريا الشمالية”
قارن بعض المحللين الاستراتيجية الإيرانية بالاستراتيجية التي تتبعها كوريا الشمالية لحماية برنامجها النووي ضد الضربات الأمريكية من خلال جعل سول، عاصمة كوريا الجنوبية والتي يعيش فيها حوالي 150 ألف مواطن أمريكي، رهينة لمدفعيتها التقليدية المتطورة وترسانة الصواريخ.
مع اقتناع “إسرائيل” بأن لبنان بصدد تطوير قدرتها على الانتقام والردع بشكل كبير، فإن الاستراتيجية السابقة لمهاجمة خطوط الإمداد التابعة لحزب الله عبر سوريا لم تعد كافية
وفقًا لـ “قواعد لعب كوريا الشّمالية” المزعومة، فإن قدرة إيران على إلحاق أضرار جسيمة بحلفاء الولايات المتحدة – سواء بشكل مباشر أو من خلال مجموعات مثل وحدات الحشد الشعبي العراقية والحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان- توفر لطهران حصنا منيعا ضد أي عمل عسكري من قبل الولايات المتحدة.
مع اقتناع “إسرائيل” بأن لبنان بصدد تطوير قدرتها على الانتقام والردع بشكل كبير، فإن الاستراتيجية السابقة لمهاجمة خطوط الإمداد التابعة لحزب الله عبر سوريا لم تعد كافية، إذ يجب إطلاق عمليات ضد أهداف في لبنان قصد تعطيل الإنتاج بنجاح. على عكس سوريا التي تمثل هدفا سهلا لضربات “إسرائيل” بفضل علاقاتها الجيدة مع روسيا، فقد تؤدي هذه الهجمات في لبنان إلى تصعيد تسعى تل أبيب إلى تجنبه. فمنذ نهاية حرب سنة 2006، تعهد نصر الله مرارًا وتكرارًا بأن أي هجوم إسرائيلي على لبنان سوف يستدعي ردا “مناسبا”.
في الحقيقة، ساعدت مثل هذه التهديدات على إقناع “إسرائيل” بالتراجع في قراراتها، رغم تقدّم حزب الله في إعادة بناء وتوسيع قوته العسكرية بشكل كبير. لكنهم وضعوا الحزب في مأزق وأجبروه على الرد إذا قامت “إسرائيل” فعلا بالهجوم، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة خطر التصعيد. لذلك، يجب توقع المزيد من المشاحنات، لأن “إسرائيل” سوف تبحث عن طرق مختلفة لتعطيل برنامج التصنيع المزعوم لحزب الله دون اللجوء إلى حرب مباشرة.
لعبة الدجاج
بناء على ذلك، فإن المناوشات التي تشتمل على الصواريخ والطائرات دون طيار لا يمكن التنبؤ بها، ما يجعلها أقرب إلى لعبة الدجاج التي يخسر فيها من يغمض عينيه أولا. وفي الأخير، يجد كلاهما نفسيهما في حرب يزعمان أنهما لا يبحثان عنها. وحتى أفضل ردود الفعل تتّصف بعدم قدرتها على التنبؤ. فلو تمكنت عملية حزب الله في غرّة أيلول/ سبتمبر من قتل طاقم المركبة العسكرية التي هاجمتها، لربما كان رد فعل “إسرائيل” مدوّيا، ولزاد التصعيد إلى أعلى مستوياته.
بعد 13 سنة من الحفاظ على الوضع الراهن، تتفاوض “إسرائيل” وحزب الله الآن على قواعد جديدة للاشتباك عن طريق الصد والرد، وهي سياسة خطيرة قد يؤدي خطأ جسيم واحد فيها إلى دفع كلا الطرفين إلى حد التدمير المتبادل
من المرجّح أن تتخذ الأمور منعطفا آخر بسبب خطأ تقني. فعلى سبيل المثال، إذا هاجم حزب الله خلال هذا التصعيد منشآت عسكرية أعمق داخل “إسرائيل” باستخدام أسراب صاروخية، ولم تنحرف سوى قذيفة واحدة عن مسارها لتضرب مدرسة بدلاً من ذلك، فكل الرهانات ستلغى، وستكون الضربة الإسرائيلية الضخمة شبه مؤكدة.
بعد 13 سنة من الحفاظ على الوضع الراهن، تتفاوض “إسرائيل” وحزب الله الآن على قواعد جديدة للاشتباك عن طريق الصد والرد، وهي سياسة خطيرة قد يؤدي خطأ جسيم واحد فيها إلى دفع كلا الطرفين إلى حد التدمير المتبادل. وبالتالي، يتعين على الجهات الخارجية التي لها روابط مباشرة مع كلا الجانبين، وعلى وجه الخصوص روسيا، أن تقف في حالة تأهب قصوى للتدخل بمجرد أن تبدأ الأمور في الخروج عن السيطرة. ومع ذلك، لكي يتجنب الوضع على الحدود الإسرائيلية اللبنانية أخطر السيناريوهات، فمن المؤكد أنه سيتعين تغيير السياق الإقليمي.
بالنسبة لـ”إسرائيل”، إن احتمال بقاء مركز اقتصادها وبنيتها التحتية تحت رحمة ما تأكدت أنها صواريخ إيرانية يظلّ غير مقبول. كذلك، إن سياسة “الضغط الأقصى” التي تتبعها واشنطن، والسلوك الإيراني العدواني الذي تثيره، تزيد من ضرورة التركيز على هذا التهديد. ومن جهة أخرى، إن الحد من التوترات الإقليمية للجانبين قد يدفعهما إلى التخلي عن السلوك بالغ الخطورة الذي ينخرطان فيه الآن، والعودة إلى الوضع الراهن المتمثل في الردع المتبادل الذي أبقى الحدود بين “إسرائيل” ولبنان هادئة لفترة أطول من أي وقت مضى خلال نصف قرن.
المصدر: ميدل إيست آي