تسير المفاوضات بشأن الوضع في غزة بخطى متأرجحة على أقدام عرجاء، وسط إصرار ممنهج من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على وضع العراقيل تلو الأخرى أمام أي مسار من شأنه أن يبرد نسبيًا من حدة الأجواء المتصاعدة بعد انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة والضبابية التي تخيم على مفاوضات المرحلة الثانية.
وأمام هذا العناد المدفوع بضغوط قوية من اليمين المتطرف، أجرت الإدارة الأمريكية، في سابقة لم تحدث من قبل، مباحثات مباشرة مع مسؤولي حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) في الدوحة، وصفت بالإيجابية، وكانت على وشك الخروج بصفقة ثنائية، وهو ما أثار حفيظة الحكومة الإسرائيلية التي رأت في هذا التحرك تطورًا استثنائيًا قد ينسف ما سعت لترسيخه منذ عقود طويلة.
وبسبب العثرات التي وضعتها حكومة نتنياهو فشلت المفاوضات الأمريكية مع قادة الحركة في التوصل إلى نتائج ملموسة، لكنها فتحت الباب أمام مسار التفاوض المباشر بين الطرفين، وهو التحول الذي يمكن البناء عليه مستقبلا، ويحمل الكثير من الرسائل والدلالات التي أقلقت الإسرائيليين بشكل لافت، ما دفعهم لإعادة تقييم المشهد مجددًا.
ويترقب الوسط الفلسطيني والإسرائيلي معًا الزيارة المرتقبة للمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، المقرر لها الأسبوع المقبل، على أمل تحريك المياه الراكدة في هذا الملف الذي يعاني حاليًا من تجميد مؤقت لاتفاق وقف إطلاق النار مع تصاعد التكهنات بشأن عودة الحرب مرة أخرى وسط تحذيرات من تداعيات تلك الانتكاسة على حياة الأسرى المحتجزين لدى المقاومة من جانب، وعلى مستقبل المنطقة بأسرها من جانب أخر.
مفاوضات استثنائية بين أمريكا وحماس
انطلقت المباحثات المباشرة بين الولايات المتحدة وحماس بناء على طلب من إدارة الرئيس دونالد ترامب، وجرت على 4 جولات بالعاصمة القطرية الدوحة، حسبما كشف الصحفي الفلسطيني بقناة “الجزيرة” تامر المسحال، والذي أوضح أن الإدارة الأمريكية طلبت من الحركة الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الأميركية وهو ما رفضته حماس بشكل قاطع، لافتة أن الأسرى المحتجزين لديها والمجنسين بالجنسية الأمريكية هم في الأصل جنود إسرائيليين ومن ثم لا يمكن تحريرهم دون ثمن.
وأضاف المسحال أن 2 من الجولات الأربعة جرت مع وفد رفيع من الحركة بقيادة رئيسها خليل الحية، وحاول الطرفان خلالهما التوصل لصفقة جزئية يتم بموجبها الإفراج عن 5 جنود (جندي حي و4 جثث) يحملون الجنسية الإسرائيلية، وفي المقابل طالبت حماس بالإفراج عن 250 أسيرا فلسطينيا (100 من ذوي المؤبدات و150 من ذوي المحكوميات العالية).
ورغم الاعتراض بداية الأمر إلا أن المبعوث الأمريكي الذي قاد المفاوضات أبلغ الحركة في النهاية بالموافقة على هذا الطلب، وتم الاتفاق على ذلك في انتظار الرتوش الأخيرة، لولا تحفظ حكومة الاحتلال على 50 اسما من ذوي المؤبدات المشمولين بالاتفاق، وهو ما رفضته حماس، التي قالت إنها قد تقبل بالتدخل في 10 أسماء فقط.
وحاول المبعوث الأمريكي إنهاء الاتفاق بأسرع وقت ممكن قبل الثلاثاء الماضي، حيث كان مقررًا أن يخرج الرئيس ترامب خلال خطابه المطول ليعلن عن تفاصيل هذا الاتفاق، غير أن التسريبات التي خرجت قبيل هذا الموعد، وردود الفعل الغاضبة من الداخل الإسرائيلي، والعراقيل التي وضعتها حكومة نتنياهو، أفسدوا الأمر، ليعود المبعوث الأمريكي لإبلاغ حماس بتراجع ترامب عن الاتفاق وتمسكه بتسليم الأسرى الأمريكيين دون مقابل، وهو ما رفضته الحركة بحسب الصحفي الفلسطيني.
ورغم فشل إبرام الاتفاق إلا أن مصير المفاوضات بين الطرفين ليس معروفًا بعد، فقد يٌستأنف قريبًا أو يتم تجميده في الوقت الراهن، غير أن ثمة مؤشرات تذهب باتجاه عدم تحبيذ واشنطن لعودة الحرب مرة أخرى، وأنها تميل نحو تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق أو الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، وهذا ما سيتحدد خلال الزيارة المرتقبة التي من المقرر أن يقوم بها ويتكوف الأسبوع المقبل.
تحول مفاجئ
لم يكن قلق حكومة الاحتلال ولا النخبة الإسرائيلية من إجراء مباحثات بين الإدارة الأمريكية وحماس من فكرة المباحثات ذاتها، إذ أنها منذ اليوم الأول للحرب وهي تجري ما بين القاهرة والدوحة وواشنطن، لكن الفارق هنا أنها -وفي سابقة لم تحدث من قبل- جرت بشكل مباشر بين قادة الحركة ومسؤولين من الإدارة الأمريكية وبطلب مسبق من الرئيس ترامب.
كانت المفاوضات في السابق تتم عبر الوسيطين، المصري والقطري، الذين يتحدثان باسم الحركة ويتفاوضان نيابة عنها بعد التشاور مع قادتها بعيدًا عن طاولة المفاوضات الرئيسية التي تضم ممثلين عن الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، ولم يكن للحركة ولا قادتها أي حضور يذكر.
اليوم الوضع تغير بشكل مقلق، فالمفاوض الأمريكي يجلس على طاولة واحدة مع زعيم حركة حماس وبعض قادتها أربعة جولات كاملة، يتبادلان فيها الرؤى ويستعرضان وجهتي النظر المختلفة دون وسيط، فلأول مرة تقدم الحركة رؤيتها للجانب الأمريكي وجها لوجه، وهو الأمر الذي – رغم فشل تلك المفاوضات- أقلق الإسرائيليين من جانبين:
الأول: أن مجرد التفاوض مع حماس على طاولة واحدة وبشكل مباشر هو اعتراف ضمني بالحركة ككيان رسمي له حضوره وكينونته، وممثلا عن الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو ما ينسف السردية الإسرائيلية التي حاولت الترويج لها لسنوات طويلة بشيطنة حماس واعتبارها منظمة إرهابية لا يمكن الجلوس معها وجها لوجه، هذا بخلاف الإقرار بسيطرتها على المشهد كقوة ذات حضور وثقل، مما يفند بشكل جذري مزاعم الاحتلال بالقضاء عليها خلال الحرب.
حماس التي من المفترض أن تكون مُبادة بعد سنة ونصف حرب، يأتيها الأمريكي ليتفاوض معها مباشرة عن أسراه وآخرين وملفات أخرى.
— mohammed haniya (@mohammedhaniya) March 5, 2025
الثاني: الجلوس مع حماس والاستماع بشكل مباشر من قادتها، بمعزل عن الكيان الإسرائيلي، خطوة تعكس دلالتين، أولها فقدان ثقة الإدارة الأمريكية في المفاوض الإسرائيلي الذي يتعمد وضع العراقيل أمام أي مسار للتهدئة، وهو ما يضع ترامب وإدارته في مأزق ويظهره بمظهر الضعيف في مواجهة نتنياهو، أمام عائلات الأسرى والشارع الأمريكي بصفة عامة.
هذا بخلاف القلق الإسرائيلي من إبرام اتفاقات ثنائية بين أمريكا وحماس، تجد تل أبيب نفسها مرغمة على تنفيذها، بعد أن تٌجبر عليها كأمر واقع، مما يزيد من حجم الضغوط الممارسة على حكومة نتنياهو، والتي تعاني حتى اليوم من تداعيات اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمته مع المقاومة عبر الوسطاء كانون الثاني/ يناير الماضي، وتحاول التنصل منه بأي طريقة كانت.
الرسالة الواضحة
التفاوض الأمريكي المباشر مع حماس كان رسالة واضحة للحكومة الإسرائيلية، مؤكدة على أن العرقلة الممنهجة لمسار التفاوض والتلكؤ في إطلاق سراح الأسرى وإشعال الموقف لمعاودة الحرب لصالح أهداف شخصية، سيقابله تحرك منفرد لإجراء المباحثات المباشرة مع المقاومة بمعزل عن إسرائيل.
وعليه جاء الإعلان عن توجه وفد التفاوض الإسرائيلي إلى الدوحة، برئاسة نائب رئيس “الشاباك”، لاستكمال المفاوضات بشأن صفقة التبادل، حسبما أعلن مكتب رئيس حكومة الاحتلال، الذي أشار إلى أن هذه الخطوة تأت استجابةً لطلب الوسطاء وبدعم من الولايات المتحدة، وبعدما أجرى نتنياهو تقييماً للوضع بشأن المفاوضات.
◾️تحقق تقدم بالمحادثات بين واشنطن وحماس
➖هيئة البث العبرية: المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر (الكابينت) سيجتمع في وقت لاحق، الأحد، لتحديد صلاحيات وفد إسرائيلي سيسافر إلى #الدوحة غدا الاثنين، لمواصلة مفاوضات تبادل الأسرى
https://t.co/gJdaA4Vvp6 pic.twitter.com/H1uCtrT7gD
— Anadolu العربية (@aa_arabic) March 9, 2025
وكان وفد أمني إسرائيلي قد زار القاهرة الأربعاء الماضي حيث التقى مسؤولين بجهاز المخابرات العامة، وذلك لمناقشة المقترح المصري بشأن إدارة قطاع غزة في المرحلة المقبلة، واستئناف إدخال المساعدات والمواد الإغاثية، وتحريك مفاوضات المرحلة الثانية لاتفاق وقف إطلاق النار.
وبعد يومين من زيارة الوفد الإسرائيلي، كان وفد من قيادة حماس بالقاهرة، يناقش سبل بدء مفاوضات المرحلة الثانية وإلزام الاحتلال الإسرائيلي بها وآليات تطبيق مخرجات القمة العربية، فيما أكد المتحدث باسم الحركة عبد اللطيف القانوع أنّ جهود الوسطاء المصريين والقطريين مستمرة لاستكمال تنفيذ مراحل الاتفاق، وأن حماس جاهزة لخوض مفاوضات المرحلة الثانية، لافتا إلى أن المؤشرات كانت إيجابية في هذا الشأن.
زيارة ويتكوف.. هل تحمل جديدًا؟
في ظل هذا المشهد المُتخم بالتعقيدات والمناورات والضبابية، يترقب الجميع الزيارة المرتقبة للمبعوث الأمريكي، ويتكوف، تلك الزيارة التي من المقرر أن تكون الأسبوع المقبل، وفق ما ذكرت بعض المصادر، بعد سلسلة من التأجيلات غير المسببة، في محاولة لكسر الجمود الحالي في تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
ويميل ويتكوف للحوار السياسي كلغة للتفاوض مع فصائل المقاومة والوسطاء، لحلحلة الوضع المتجمد حاليًا، لكنه في الوقت ذاته يتبنى نفس الرؤية الترامبية القائمة على ثنائية الترغيب والترهيب، العصا والجزرة، متوعدًا حماس بـ”خيار بديل لن يكون جيدا” في حال فشلت المفاوضات.
وسيحاول المبعوث الأمريكي الذي يتحدث بطبيعة الحال بلسان الكيان الإسرائيلي التوصل من خلال تلك الزيارة إلى تحقيق هدف حكومة الاحتلال حيث تمديد المرحلة الأولى من اتفاق غزة مقابل هدنة مؤقتة، يتم بمقتضاها إطلاق سراح الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، دون الالتزام بتعهدات المرحلة الثانية والتي على رأسها الانسحاب الكامل من قطاع غزة وإدخال المساعدات دون شروط والبدء في عملية إعادة الإعمار.
#عاجل | أكسيوس عن مسؤولين أمريكيين:
– ويتكوف سيصل إلى #الدوحة قادما من #السعودية بعد مشاركته في اجتماع أمريكي أوكراني
– لم يتضح بعد إذا كان ويتكوف سيلتقي مسؤولين من حماس أم مفاوضين إسرائيليين ووسطاء فقط
– ويتكوف أراد جمع كل الأطراف في مكان واحد لعدة أيام من المفاوضات المكثفة… pic.twitter.com/cygbqueglH
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 9, 2025
وتعي حماس جيدًا خطورة تمديد المرحلة الأولى دون الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، حيث المخطط الأمريكي الإسرائيلي الرامي إلى تجريد الحركة من ورقة الأسرى التي تعد الورقة الأهم بحوزتها والأكثر تأثيرًا على طاولة المفاوضات الحالية، وعليه تحاول قدر الإمكان المناورة مع واشنطن والوسطاء لإكمال بقية مراحل الاتفاق، رغم ضيق المساحة التي تناور فيها.
وكانت الحركة قد أبدت مرونة كبيرة في مسار المفاوضات من أجل الحفاظ على التهدئة وإنهاء معاناة الغزيين ووضع حد لتلك الحرب الممتدة لأكثر من 480 يومًا، حيث أعلنت بشكل واضح أنها لن يكون لها أي دور في حكم غزة ما بعد الحرب، وموافقتها على تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي لإدارة قطاع غزة “إلى حين استكمال ترتيب البيت الفلسطيني”، لتلقي الكرة في ملعب المقترح المصري العربي كخطة بديلة لخطة التهجير التي طرحها ترامب وأربك بها حسابات المنطقة بأسرها.
وفي الأخير تبقى المؤشرات الإيجابية بشأن الدخول في مفاوضات المراحل التالية من اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، بعد أسابيع من تعثر المباحثات جراء العراقيل الإسرائيلية، في طور التقييم المبكر ومرحلة جس النبض، حتى وصول المبعوث الأمريكي الأسبوع المقبل، لتبقى كافة الاحتمالات واردة وباب السيناريوهات مفتوحًا على مصراعيه، ففي ظل وجود نتنياهو وترامب فلا تعهدات مضمونة وكل شيء وارد.