بعد وعود حكومية وتطمينات سياسية وتهديدات أمنية ورصاص الميليشيات، توقفت التظاهرات أو بالأحرى أوقفت بالحديد والنار إلى ما بعد مراسم أربعينية الحسين، مع عدم وجود أي وعود بإيقاف لوبيات الفساد أو توفير الخدمات وتشغيل العاطلين في نفس هذه الفترة لقدسيتها!
يميل نفوذ إيران الأقرب وبشكل واضح إلى اتهام الولايات المتحدة وحلفائها بدعم التظاهرات أو الوقوف خلفها ويغضون الطرف عن جميع المسببات التي أوصلت العراقيين إلى طريق مسدود وفقدان الأمل بالتغيير من فقر وفساد وغياب للخدمات وأزمة الثقة بالطبقة السياسية على تنفيذ وعودها الانتخابية بتوفير المشاريع والوظائف وفرص العمل ومحاربة الفساد. لو وضعنا جانبًا الأسباب التي دفعت الشباب العراقي للخروج والتظاهر – رغم عدم إمكانية ذلك – إلا أننا سنفترض جدلاً بصحة فرضية الميليشيات ونفوذ إيران الأقرب ونزج بالتظاهرات في سياق الصراع الأمريكي الإيراني ونبحث ما فعلته الولايات المتحدة وما فعلته إيران من أدوات.
قبيل انطلاق التظاهرات كان “رئيس هيئة الحشد الشعبي” فالح الفياض في واشنطن يناقش مع الإدارة الأمريكية ملفات عدة، ومن المؤكد أن أحد موضوعات النقاش كان تحييد العراق – على الأقل – من الصراع الأمريكي الإيراني بعد وجود أدلة تثبت مشاركة الحرس الثوري الإيراني وميليشيات عراقية في الهجوم على شركة أرامكو السعودية وانطلاق الهجمات من الحدود العراقية الإيرانية، ناهيك عن هجوم سابق نفذته على الأرجح ميليشيات “حزب الله العراقي” التي تسيطر على منطقة النخيب على الحدود العراقية السعودية في محافظة الأنبار التي تُطلق تهديداتها بشكل علني للسعودية أو مساندة الحوثييين في اليمن.
لم تُثبت الميليشيات ولا الحكومة العراقية ولا أي جهة، صلة أمريكية أو صهيونية أو سعودية مباشرة بالتظاهرات وكانت مجرد تهم سخيفة وباطلة يكررها أصحاب الحجج الضعيفة
منذ أشهر والولايات المتحدة وحلفاؤها ناقشوا بشكل مستمر محاربة إيران، وقد خصصوا أموالاً لمحاربة أدواتها من خلال الحرب الفكرية كجزء منها، التي تتضمن كشف ما تقوم به إيران وميليشياتها من فساد ومتاجرة بالدين والمخدرات والجنس، إلخ، وأنتجت قناتا “الحرة عراق” الممولة أمريكيًا والـ”bbc” الممولة بريطانيا وثائقيات تخص المرجعيات والفساد الديني والأخلاقي المنتشر في (المدن المقدسة) التي بيَّنت أن الكثير من المعممين أشبه ما يكونون بزنادقة يتكئون على أعمدة المراقد، وقد أحدث ذلك ضجة في الوسط الشعبي الشيعي في العراق، لأنه ضرب للعمود الفقري الذي تبني إيران نفوذها وكل سياساتها عليه بطريقة أو بأخرى.
كان ذلك من أهم الدوافع التي دفعت الشباب لحرق صور كانت سابقًا تحمل قدسية في نفوسهم، مع بعض مقرات الأحزاب الدينية الفاسدة التي قمعت ميليشياتها التظاهرات بوحشية، هذا إن صدقنا بفرضية الميليشيات السابقة طبعًا.
لم تُثبت الميليشيات ولا الحكومة العراقية ولا أي جهة، صلة أمريكية أو صهيونية أو سعودية مباشرة بالتظاهرات، وكانت مجرد تهم سخيفة وباطلة يكررها أصحاب الحجج الضعيفة الذين ليس لديهم أي مشروع لبناء العراق إلا الاستفادة من امتيازات السلطة والقوة والنفوذ وإلقاء فشلهم على الآخرين بطريقة لم تعد تنطلي على أحد حتى جمهورهم الحزبي.
لقد ازداد حجم الوعي السياسي لدى الجيل الجديد من الشباب العراقي خاصة في الوسط الشيعي الذي كانت تُمارس عليه سياسة تجهيل ممنهجة جعلته يُصدق أسطوانات الأحزاب الدينية
من جهة أخرى أثبتت الأحداث والقمع بالرصاص الحي والتصريحات والمواقف صلة الميليشيات والكثير من الأحزاب والسياسيين وحتى الحكومة العراقية بإيران، من خلال تقديم مصالحها ورواياتها على رواية المتظاهرين السلميين ومعالجة الأسباب التي دفعتهم دفعًا إلى النزول للشوارع والمطالبة بحقوق مشروعة وبأدوات سلمية قوبلت برصاص القناصة والمولوتوف.
أخيرًا، لقد ازداد حجم الوعي السياسي لدى الجيل الجديد من الشباب العراقي خاصة في الوسط الشيعي الذي كانت تُمارس عليه سياسة تجهيل ممنهجة جعلته يُصدق أسطوانات الأحزاب الدينية الفاسدة وميليشياتها من خطر المندسين والبعث والمتطرفين، واللعب على وتر التناقضات الطائفية لتبرير السياسات التي تضر العراق وتصب في مصلحة إيران وتملأ جيوب الفاسدين ومافيات السلطة والدين، وهذا على الأرجح ما دفعهم لاستخدام القوة المفرطة وغير المبررة لإنهائها، لكن انتهاء التظاهرات لفترة لا يعني أنهم اقتنعوا بالوعود أو خافوا من الرصاص ما دامت أسبابها باقية دون معالجات حقيقية.