في كتابه “جنون المستديرة” يحكي الكاتب الإسباني خوان بيورو، فيما يحكي، عن علاقة الكرة بالحرب، وعن الفساد المالي والسياسي، فيشير إلى أن بعض الحكام الطغاة وشيوخ النفط وزعماء المافيا وتجار المخدرات والسلاح دخلوا عالم كرة القدم واختاروا أن يتصدروا المشهد في أندية كبيرة وشهيرة، كنوع من إحداث توازن مع جرائمهم وفسادهم.
فيذكر أن الكرة كانت سببًا في التبشير بكسر كبرياء الألمان في الحرب العالمية الثانية، وعلاقة نتائج الفوز والهزيمة بالديمقراطية في أمريكا، وأن الكرة تعد الميدان الذي طوّقت من خلاله الديمقراطيات الغربية الدوافع البدائية، لكن الغريب في الأمر أن البلدان نفسها التي تنادي بتطبيق القانون والمساءلة أصبحت تقبل وجود مؤسسات تعد – بالمعنى الدقيق للكلمة – بؤرًا إجرامية، ويأتي على رأس هذه المؤسسات المؤسسة الأكثر شهرة المعروفة باسم “الفيفا”.
ويلمح الكتاب الصادر بترجمة محمد عثمان خليفة عن “العربي” للنشر والتوزيع إلى تبرئة كرة القدم ذاتها من كونها سببًا في العنف، وإنما هي دومًا تشهد ذلك نتيجة أزمات خفية، ويضرب مثالًا بحرب كرة القدم عام 1969، حيث تزامنت الحرب بين هندوراس والسلفادور مع مباراة بين البلدين، ويؤكد أنها لم تندلع بسبب ما جرى على أرض الملعب، بل بسبب العلاقات المسمومة بين البلدين لأسباب متعددة سابقًا.
أولتراس “ريد ستار” الصربي كتيبة عسكرية
ينقل عن كتاب “كيف فسرت كرة القدم العالم: نظرية عولمة جديدة” سردًا لفكر تلك الجماعات المتعصبة وسط جماعة أولتراس فريق “ريد ستار” بلجراد على سبيل المثال، حيث كان سلاح جماعة الأولتراس المختار هو الهراوة المعدنية، حتى وإن كانت الأمور لا تصل أبدًا إلى التخطيط للقتل بين مشجعي فريق الدولة (كما يقولون)، وإن كان أغلبهم منخرطين في أنواع الجريمة المنظمة.
ترجع القصة إلى ظهور ضابط القوات الخاصة في العصر الشيوعي “زيليكو رازناتوفيتش”، قبل أن ينتقل إلى عالم العصابات، بعد أن هرب من سجنه في بلجيكا بتهمة السطو المسلح
وهنا يسترجع بيورو الحكايات التي سمعها في أثناء سفره إلى يوغوسلافيا في بدايات الثمانينيات، حيث مزيج من الصرب والكروات والسلاف والمونتجريين، وكانت تلك التوترات العرقية تظهر واضحة في المشاحنات العنيفة بين مشجعي فريق “ريد ستار” و”دينامو زجرب”، وما هي إلا سنوات حتى اندلعت الحرب المتوقعة التي انتهت إلى تأسيس كل عرق لدولته الخاصة.
ترجع القصة إلى ظهور ضابط القوات الخاصة في العصر الشيوعي “زيليكو رازناتوفيتش”، قبل أن ينتقل إلى عالم العصابات، بعد أن هرب من سجنه في بلجيكا بتهمة السطو المسلح، بعد ثلاث سنوات، واتجه إلى هولندا حيث ألقي القبض عليه أيضًا، ونجح في الهرب مجددًا ليعود إلى بلجراد، لتنجح علاقات والده الطيار الحربي السابق في إلحاقه بالسلك الأمني في يوغوسلافيا، ولقبوه بـ”أركان” لأنه كان ينجح في قنص الجنود البوسنيين.
ولأنه مشجع متعصب لفريق “ريد ستار”، فقد استغله “سلوبودان ميلوسوفيتش” لاختراق جماعة الأولتراس، للعمل على توجيه حماسهم فيما يحقق غايات الحزب، وبالفعل تمكَّن أركان من السيطرة عليهم، وبدأ يهيمن على المدرجات، وصار جميع من في الملعب من المشجعين ينصاع لأوامره.
يتزايد عدد محبي أسطورة أركان حتى الآن، رغم النقلة التي قام بها من عالم الإجرام إلى أنشطة غير قانونية لا يجرؤ أحد على معاقبته عليها
وتحققت أهداف “ميلوسوفيتش” من تجنيد “أركان” بتكوين ميليشيا عسكرية من أفراد جماعة الأولتراس، وأطلقوا عليها “نمور أركان”، وكان لها دور في الهجمات الصربية عامي 1991 و1992، وهكذا تحول العنف العفوي في المدرجات إلى تكتيك عسكري منظم في حرب حقيقية، وصار “أركان” بالنسبة للصرب شخصية شهيرة مثل نجوم “البوب”، قبل أن تختتم حياته بشكل عنيف مثل الجزء الأكبر من حياته، حيث قتل على يد شخص في لوبي أحد الفنادق.
ويتزايد عدد محبي أسطورة أركان حتى الآن، رغم النقلة التي قام بها من عالم الإجرام إلى أنشطة غير قانونية لا يجرؤ أحد على معاقبته عليها، مثلت نموذجًا حيًا على حقبة عجيبة مرت بها منطقة البلقان، وحلقة دموية أوشك الصرب على أن يعتادوها، كانت حقبة أقرب إلى أسراب الغربان التي تنطلق لتحوم فوق الملعب كلما أحرز “ريد ستار هدفًا”.
إعدام ثلاثة لاعبين بأمر هتلر لفوزهم على الألمان في مباراة كرة
عام 1942، وخلال الاحتلال النازي لمدينة “كييف” الأوكرانية، كان اللاعبون القدامى لفريق دينامو كييف يعملون في مخبز السجن، وفي الصيف، بدأت مباريات كرة القدم من جديد وأسس الخبازون الشيوعيون فريقًا أطلقوا عليه اسم “البداية”، تفوق الفريق على فريق آخر للمواطنين الأوكرانيين قبل أم يهزموا فريقًا من المجر.
كانت الرياضة واحدة من أهم المحاور التي ارتكزت عليها الأيديولوجية النازية
وفي 28 من يوليو أصدر ستالين قرارًا رقم 227 الذي لخصه في عبارة واحدة: “لا خطوة واحدة إلى الخلف”، وقد أطاع الأوكرانيون القرار بشكل عملي، وفازوا في المباراة 5-1، وعلى الرغم من أن هؤلاء السجناء لم يفعلوا شيئًا مما يعتبر كسرًا للقواعد، فإنهم جرحوا الكرامة الجيرمانية.
فقد كانت الرياضة واحدة من أهم المحاور التي ارتكزت عليها الأيديولوجية النازية، وعليه سعى “فلاكليف” للانتقام في المباراة التالية في 9 من أغسطس، حين توجّه إلى الحَكَم (وكان عضوًا في الحزب النازي الحاكم) إلى غرفة تغيير ملابس الفريق الأوكراني قبل المباراة وأخبرهم بضرورة تأدية التحية النازية في أثناء خروجهم إلى الملعب، ومع ذلك عندما صاح أفراد فريق فلاكليف: “هايل هتلر”، ردد فريق الخبازين بشكل عفوي “فيتسكولت هورا!”، ومعناها تحيا الرياضة (شعار الفرق السوفيتية).
وكان للون الأحمر الذي ارتداه الفريق الأوكراني دور في زيادة حدة التنافس، لأنه بمثابة تأكيد على تمرد الفريق الذي تكوّن من خبازين أوكرانيين، بل وشيوعيين أيضًا.
وانتهى الشوط الأول بهزيمة الألمان 3-1، رغم مجاملات الحكم الفجة، وفي الاستراحة ذهب أحد الحكام وتحدث مع السجناء بكل صراحة عن عواقب فوزهم بتلك المباراة، فاتفق اللاعبون على أنهم لن يسمحوا لأنفسهم بالهزيمة، وفازوا بالمباراة 5-3.
العجيب أن الجيش الروسي عندما استعاد “كييف”، اعتبرهم متعاونين لأنهم لعبوا مباراة كرة قدم مع العدو، وقد ظهر أول تقرير صحفي عن الموضوع 1959، وقت أن كانت صحة الناجين تتدهور وبدأوا يفقدون ذاكرتهم
كانت مصيبة الألمان الأكبر في قيام أليسكي كليمنكو على مراوغة كل المدافعين حتى صار أمام الشباك، ولكنه بدلًا من أن يسجل أعاد الكرة إلى منتصف الملعب، كإهانة للاعبي النازية، وربما كان ذلك سبب اختياره، وكان أصغر لاعبي الفريق، ليكون من بين أول دفعة أعدمت في معسكر الاعتقال.
وبعدها أخضع الجيش النازي اللاعبين الأكثر شهرة من فريق البداية للتعذيب حتى ماتوا، بينما نقل الآخرون إلى معسكر اعتقال “سيريتس”، وكان طعامهم رغيف خبز صغير يوميًا، وفي 1943، قرر رئيس المعسكر خفض تلك الحصة أيضًا، ولم يكن هناك ما يكفي من الطعام المتاح في المخازن ليبقى الجميع على قيد الحياة، فقرر رئيس المعسكر تصفية واحد من كل ثلاثة من السجناء، ومات ثلاثة من أعضاء الفريق في اليوم نفسه.
العجيب أن الجيش الروسي عندما استعاد “كييف”، اعتبرهم متعاونين لأنهم لعبوا مباراة كرة قدم مع العدو، وقد ظهر أول تقرير صحفي عن الموضوع 1959، وقت أن كانت صحة الناجين تتدهور وبدأوا يفقدون ذاكرتهم.
حكايات التأميم مع (الزملكاوية)
وفي كتابه “زملكاوي أنا” يعرض عمر طاهر بعض العقبات ذات الظل السياسي التي تعرض لها نادي الزمالك المصري، وأبرزها تأميم أملاك رئيسي مجلس إدارة متتاليين في عصر جمال عبد الناصر، وقد بدأت الحكاية، عام 1956، حين تولى عبد اللطيف أبو رجيلة رئاسة النادي، وصاحب فترة رئاسته للنادي نقل المقر وبناء مدرج كبير وملاعب ومنشآت مبهرة في مكانه الجديد، إلا أن كل ذلك انتهى بتأميم أملاك الرجل.
عبد اللطيف أبو رجيلة
أورد عمر طاهر تفاصيل ذلك في كتاب آخر له هو “صنايعية مصر”، فذكر أن أبو رجيلة كان أول من أدخل مشروع الأتوبيس في مصر، وأسند للحكومة المصرية مهمة استرداد بقية أمواله من بنوك إيطاليا التي كوّن بها ثروته، وحين احتاجت البلاد للسلاح تبرع في سبيل ذلك، ووضع أتوبيساته تحت تصرف الجيش في حرب العدوان الثلاثي، إلا أن يد التأميم طالته بسبب الوشاية، فسافر بعدها إلى إيطاليا مرة أخرى ليبدأ من الصفر بعد أن بنى أكبر مدرج في تاريخ الزمالك حتى ذلك الوقت، وفاز الزمالك معه بأول بطولة دوري، إلا أن ما أحزنه أنه بعد عودته إلى مصر وجد اسمًا آخر غير اسمه على هذا المدرج، إلى أن رد له أحد مجالس الإدارة هذا الحق بعد وفاته مرة أخرى.
استمرت رحلة البحث بعدها عن رجل أعمال آخر، حتى ظهر علوي الجزار صاحب شركة “الشيخ الشريب” (نوع من الشاي حقق شعبية كبيرة في مصر لسنوات طويلة)، وكان أيضًا رئيس مجلس إدارة كوكاكولا في مصر، وصاحب سينما الفانتازيو الشهيرة في ميدان الجيزة، قبل أن تطال ممتلكاته التأميم.
ووردت القصة على لسان الناقد الرياضي محمود معروف “عبد الناصر كان يشاهد المباراة تليفزيونيًا، وكان الجزار يجلس في المقصورة بجوار رئيس ريال مدريد، وحدث أن أشعل كل واحد منهما سيجارًا فخمًا، فسأل عبد الناصر عن الشخص الذي يدخن السيجار إلى جوار الضيف الأجنبي، فقالوا له علوي الجزار، فسألهم “وده أممناه ولا لسة؟”، وكانت الإجابة “لسة”، فكان القرار عنيفًا، حيث وجد الجزار قوة تنفيذ القرار تنتظره عند بيته، وكان أول ما فعله الضابط أن نزع من يده ساعته الروليكس، وسحب منه سيارته الفارهة”.
الكرة وسياسة مبارك
ولأن الكرة طريق مضمون للتواصل مع الجماهير، فقد كان الحديث عن توريث جمال نجل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك على أشده في فترة تألق فيها المنتخب المصري بشكل غير مسبوق، حيث فاز ثلاث مرات متتالية بكأس الأمم الإفريقية، في 2006 و2008 و2010.
وفي أواخر عام 1998 (الذي فازت فيه مصر أيضًا بكأس الأمم الإفريقية) ظهر جمال على الساحة لأول مرة، تحت مظلة “جمعية المستقبل” التي أعلنت بناء 15 ألف وحدة سكنية لمحدودي الدخل، ومن بعدها تكرر ظهور نجل الرئيس في مناسبات مختلفة، وبخاصة المتعلقة بكرة القدم برفقة شقيقة الأكبر.
وفي سبتمبر 2007 تحديدًا، وفق تقرير على موقع “مصراوي”، عُلِّقت لافتة كبيرة مكتوب عليها “بطولة الأساتذة الأولى لخماسيات كرة القدم”، وكانت دورة رمضانية برعاية ومشاركة ابني الرئيس، داخل إستاد خماسي بمدينة “بالم هيلز” بالسادس من أكتوبر، شارك في البطولة أندية الأهلي والزمالك وبالم هيلز، ومن إسبانيا برشلونة وفالنسيا، أُذيعت المباريات على الهواء مباشرة على التليفزيون المصري، وأفردت الصُحف مساحة خاصة لتغطية تفاصيلها، وكان جمال بطلًا للعناوين الصحفية سواء خسر فريقه أم فاز.
ومؤخرًا، وبعد انتهاء البت في العديد من القضايا التي كانا متهمين فيها بعد يناير 2011، اختار الشقيقان الظهور لأول مرة عبر وجودهما في مباراة كرة قدم أيضًا، لكن في المدرجات العادية هذه المرة، بوصفها ما زالت الطريق الأسهل للظهور بين الناس.