أخيرًا، تنفّس التونسيون الصعداء وزالت مخاوفهم من وصول نبيل القروي المتهم بالفساد المالي والتهرب الضريبي إلى قصر قرطاج وحكم البلاد لـ5 سنوات مقبلة، كان سيُحدث فيها – لو حظي بالمنصب- تغييرًا جوهريًا سلبيًا على جميع المستويات، ناسفًا بذلك ما تبقى من بصيص أمل إقامة دولة العدل والمساواة والديمقراطية التشاركية الحقيقة في تونس.
فبعد جدل وانقسام واسعين عاشهما التونسيون خلال الأسابيع الثلاث الأخيرة، واصطفافهم وراء مرشحين اثنين لا ثالث لهما في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، كشفت النتائج الأولية التي نشرتها مراكز سبر الآراء في تونس، فوز المترشح المستقل قيس سعيد بنسبة تفوق الـ70% على خصمه نبيل القروي الذي تلقى ضربة قاصمة لم يكد وأنصاره يستوعبانها بعد، وسط فرحة عارمة لأنصار سعيد الذين خرجوا بالآلاف إلى الشوارع للاحتفال بهذا الانتصار الكبير، لأحد الساسة الجدد الذين دخلوا معترك الحياة السياسية من دون أي تاريخ سياسي أو نضالي كان.
أكثر من 70% من نسب المصوتين، ونحو 3 ملايين صوت أو يزيدون قليلاً، كانت النتيجة التي وصل بها قيس سعيد إلى قصر قرطاج
قيس سعيد، الرئيس التونسي الثالث بعد ثورة 14 من يناير، وصاحب الـ61 ربيعًا، لم يكن واحدًا من السياسيين الكلاسيكيين المعروفين على الساحة السياسية في تونس، بقدر ما كان ظاهرة تستحق الدراسة والوقوف عندها وتحليلها وتفكيك مضمون خطابها الشعبي البسيط، القائم على ثنائية الشباب ومناوئة الأحزاب، والتركيز على المحافظة على الهوية العربية الإسلامية لشعب عانى ويلات التغريب منذ نحو قرن ونصف.
أكثر من 70% من نسب المصوتين، ونحو 3 ملايين صوت أو يزيدون قليلاً، كانت النتيجة التي وصل بها قيس سعيد إلى قصر قرطاج، متفوقًا بذلك على الرئيسين اللذين سبقاه بعد 14 يناير، الأول منصف المرزوقي، بفضل التحالف الحزبي بقيادة حركة النهضة، والثاني الراحل الباجي قائد السبسي، بأكثر من نصف عدد الأصوات التي حصل عليها أستاذ القانون الدستوري.
لم يستطع التونسيون بأسرهم، أن يجمعوا على انتماء الرجل ولا هويته ولا أيديولوجيته، بين من يراه إسلاميًا أصوليًا، ومن يزعم أنه يساري متطرف، يظهر ما لا يبطن، خوفًا من انفضاض مسانديه من حوله
من قيس سعيد؟ وكيف وصل إلى قصر قرطاج؟ وما الأساليب والطرق التي انتهجها الرجل للفوز بهذه النتيجة التاريخية؟ ولماذا انتخبه 90% من الشباب وفضلوه على غيره؟ وهل يمتلك الرجل كاريزما الرئاسة وقالب السياسي المحنك أم لا؟ وهل يستطيع النجاح في تخطي الألغام المزروعة في كل شبر من التراب التونسي ومحيطها الإقليمي أم لا؟ كل هذه الأسئلة وأكثر، ستكون محور اهتمام المتخصصين في الاتصال السياسي ومراكز البحث الدولية المرموقة، التي لم تستطع إلى حد اللحظة، مثلما لم يستطع التونسيون بأسرهم، أن يجمعوا على انتماء الرجل ولا هويته ولا أيديولوجيته، بين من يراه إسلاميًا أصوليًا، ومن يزعم أنه يساري متطرف، يظهر ما لا يبطن.
لن نطيل الحديث في العموميات كثيرًا، فالرجل سبق أن كتبنا عنه وأبدينا رأينا عنه وعن برنامجه الانتخابي، لكن في هذه العجالة، سنحاول أن نتحدث عن أبرز النقاط التي ساهمت في الصعود الصاروخي للرجل واكتسابه شعبية جارفة من دون أي ماكينات حزبية أو مالية أو أجنبية تدعمه، وفق ما يؤكد هو ذلك، ووفق ما تؤكده جميع المعطيات المتوافرة لدينا.
1- “سيغما كونساي “وأخواتها
هنا يكمن مربط الفرس الذي لم ينتبه إليه كثيرون من المنشغلين بمتابعة المشهد السياسي في تونس، فشركة “سيغما كونساي” المتخصصة في استطلاعات الرأي والمتحكمة في التلاعب بالنتائج وتوجيه اهتمامات الرأي العام المحلي والدولي خلال السنوات الأخيرة، كانت أول من أشار في نتائج استطلاعات الرأي إلى الصعود الصاروخي لأستاذ القانون الدستوري منذ نحو عام، يشاركه في التنافس على المركزين الأول والثاني نبيل القروي خصمه في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
تزامنًا مع هذه النتائج الشهرية المنشورة على عدد كبير من وسائل الإعلام التونسية المختلفة، كانت الأحزاب السياسية والشخصيات الوازنة في البلاد تكذب الزرقوني وشركته، متهمة إياه بخدمة أجندات مشبوهة ومحاولة التأثير على الرأي العام – ولهم حق في ذلك -، مقللين من احتمالية وصول الرجلين وخاصة سعيد إلى الدور الثاني من الانتخابات خاصة بعد ترشيح حركة النهضة لعبد الفتاح مورو أحد قيادييها التاريخيين للمشاركة في الدور الأول، كما كانت جميع المؤشرات والدلائل على الأرض، تؤكد استحالة أن يكون لسعيد مكان في الدور الثاني.
2- الخلايا الافتراضية اليقظة
لم نشأ أن نطلق عليها شبكات التواصل الاجتماعي، ففي الحالة الراهنة، كان لأنصار قيس سعيد شبه الغائب عن الإعلام والشوارع والمدن الكبرى خلال حملته الانتخابية، دولة منظمة على شبكات التواصل الاجتماعي، تقودها خلية نحل تعمل بانتظام بلا هوادة ولا توقف، ولكن ينقصها التنظم والإتقان، وتتميز بالعشوائية والشعبوية وخاصة إتقان فن التشهير ومهاجمة الطبقة السياسية بمختلف مشاربها بلا استثناء، مستعينة بعدد كبير من الصفحات الكبرى والمؤثرة، خاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” الذي تصل منشوراته إلى ملايين التونسيين.
خلال الشهر ونصف الأخير، كان للصفحات الكبرى الدور الأبرز في نحت اسم ورقم قيس سعيد على ورقة الانتخابات في أذهان الشباب الثائر بمختلف مشاربه
صحيح أن قيس سعيد لم يكن لوجوده تأثير على الأرض، فتنقلات الرجل التي لا تكاد تذكر بالمقارنة بخصومه المتحزبين، لم تؤت أكلها بالنظر لعدم جماهيريتها واتسامها بالتسرع وعدم التنظم والتحضير، ولكن صولاته وجولاته وتصريحاته وحواراته بعد 14 من يناير إلى حين دخول يوم الصمت الانتخابي، وصلت للسواد الأعظم من التونسيين الموجودين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأشهر هذه التصريحات، موقفه من قانون المساواة في الميراث، الذي أعرب فيه الرجل عن تمسكه بالنص القرآني قطعي الدلالة، ورفضه لكل محاولة للعبث بقانون الميراث في تونس، ومناقشته لمخالفيه بحجج عقلية أقنع في مجملها التونسيين المتشبثين بهويتهم العربية الإسلامية، والرافضين لهذا القانون الذي من شأنه تقسيم المجتمع وإثارة أزمات اجتماعية لن تنتهي.
خلال الشهر ونصف الأخير، كان للصفحات الكبرى الدور الأبرز في نحت اسم ورقم قيس سعيد على ورقة الانتخابات في أذهان الشباب الثائر بمختلف مشاربه، شباب كان له الدور الأبرز في اختيار ساكن قرطاج الجديد، فكل منشور يتحدث عن الرجل كان محل إعجاب تعليقات ومشاركة الآلاف، كما غير الآلاف من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، صورهم بصور سعيد، معلنين دعمهم له في الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية.
في ذات السياق، كان لهذه الحملات الافتراضية غير الممولة في مجملها على عكس خصوم سعيد، الوقع والأثر البالغ على الميدان، فهذه العدوى النافعة، أصابت المترددين في انتخاب الرجل، وأجبرتهم على التصويت لفائدته، بفعل الضغط الإلكتروني أو الميداني، فأنصاره غير المنظمين، أخذوا بزمام المبادرة ودعوا كل من يعترضهم لانتخاب أستاذ القانون الدستوري وقطع الطريق أمام خصمه “المافيوزي” وفق تعبيره.
3- نبذ الطبقة السياسية الكلاسيكية
منذ انهيار نظام بن علي وهروبه إلى السعودية، وعلى مدار نحو 9 سنوات متتالية، سئم عدد كبير من التونسيين لا سيما الشباب منهم، من الخطاب السياسي الكلاسيكي كما نبذوا السواد الأعظم من السياسيين المعارضين الغارقين في تخوين بعضهم والفاشلين في إدارة حكم البلاد، لذلك، كان لخطاب قيس سعيد البسيط القائم على دغدغة المشاعر والاعتزاز بالثورة والانتساب لها – وهو حق لا جدال فيه -، صدى بالغًا في صفوف الفئة الثائرة على النخبة السياسية، وهي الفئة التي صنعت الفارق في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، وصعدت بسعيد لمنافسة نبيل القروي في الدور الثاني.
أمام هذا الكره الكبير الذي أصبح يكنه الشباب خاصة للطبقة السياسية الراهنة، وبفضل استقلاليته ووقوفه على نفس المسافة من جميع الأطراف، استطاع خطاب قيس سعيد وبرنامجه الانتخابي القائم على إعادة رسم الخريطة السياسية والنظام السياسي في البلاد
كان لخطاب ساكن قرطاج الجديد أثر بالغ على غالبية محبيه ومناصريه، فالرجل لم يغير خطابه ولم يطوره منذ نحو 9 سنوات، بل حافظ عليه وعلى المفردات التي يستعملها، مظهرًا في كل ظهور إعلامي له، انتصارًا لشهداء وجرحى الثورة، ونقدًا بالغًا للفساد الإداري والمالي المستشري في البلاد، ومشددًا في ذات السياق، على استقلاليته السياسية عن كل الأطراف المشاركة في صنع المشهد السياسي في تونس.
أمام هذا الكره الكبير الذي أصبح يكنه الشباب خاصة للطبقة السياسية الراهنة، وبفضل استقلاليته ووقوفه على نفس المسافة من جميع الأطراف، استطاع خطاب قيس سعيد وبرنامجه الانتخابي القائم على إعادة رسم الخريطة السياسية والنظام السياسي في البلاد، أن يجذب مئات الآلاف من الشباب، الذي رأى في الوقت نفسه، في خطاب وبرنامج المترشح الآخر، وسيلة للتندر، سرعان ما بلورها إلى محتوى بصري ومكتوب، أطاح بالإمبراطوريات الإعلامية والمليارات التي صرفت في الداخل والخارج، لإيصال نبيل القروي إلى رئاسة تونس.
4- العربية الفصحى سر الجاذبية
منذ أول طلوع له على الشعب التونسي في نشرة الأخبار الرئيسية أوائل العام 2011، فاجئ قيس سعيد التونسيين باستخدامه اللغة العربية الفصحى دون غيرها في تحليل وتبسيط المفاهيم والإشكالات القانونية الدستورية التي كانت تمر بها البلاد في تلك الفترة، ما خلف حالة من الإعجاب في صفوف متابعيه خلال تلك الفترة، ممن رأوا في الرجل مثالًا على الصرامة والجدية والفصاحة التي لم يعهدوها في وقت سابق عند أي ضيف تستضيفه وسائل الإعلام التونسية المحلية.
رغم زحمة الخطابين الثوري والمضاد له خلال السنوات الأخيرة، فشلت النخبة السياسية بيمينها ويسارها ووسطها في تونس، في استمالة الشريحة الأهم في المجتمع وهي الشباب
خطاب بسيط، وتكثيف من استخدام عبارات وجمل فريدة طمأنت كثيرًا من التونسيين وأضحكتهم في نفس الوقت، على غرار (الدستور أكله الحمار، تحية من أعماق الأعماق…) وغيرها من المصطلحات التي لطالما رددها في مناسبات عديدة، رسخت في مخيال فئة واسعة من الشعب التونسي.
5- الشباب كلمة السر
خلال الانتخابات التي عاشتها تونس خلال السنوات الأخيرة، تؤكد الإحصائيات الرسمية لهيئة الانتخابات، عزوفا شبابيا رهيبا عن المشاركة في الحياة السياسية والتصويت في الانتخابات، بسبب فشل الطبقة السياسية بلا استثناء، في الوفاء بوعودها الانتخابية وإقناع الشباب ببرامجها وفشلها عمليا في إخراجه من الدوائر المظلمة التي دخلها، رغم المحاولات المستميتة من قبل جميع الأحزاب السياسية لدغدغة مشاعر هذه الفئة لاستمالتها واستقطابها في مواسم الذروة السياسية.
خطاب قيس سعيد البسيط، وعربيته الفصحى السليمة في مجملها، وفشل خصومه في الابتعاد عن الصراعات الأيديولوجية والاصطفاف السياسي الدولي والإقليمي، كانت هي الأخرى، أسبابا كافية لإقناع الشباب التونسي بضرورة التصويت لسعيد
هذه الخيبات الشبابية من الأحزاب السياسية الراهنة، ورفض كثيرين للتخندق والتحزب والاستقطاب السياسي، كانت كلمة السر التي استطاع قيس سعيد فك شفراتها وحلها، حيث نجح الأخير في تسويق صورته كمستقل حامل لهموم الشباب ومؤمن بقدراتهم في الإصلاح والتقدم ببلادهم، للحصول على ثقتهم ودعمهم في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، حتى أن بعض الأرقام تشير إلى أن 90 في المائة من الشباب المشارك في الانتخابات، اختار التصويت لسعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
6- التمسك بالهوية العربية الإسلامية
في شهر أغسطس 2017، وعد الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي المرأة التونسية بالتقدم بمبادرة تشريعية للمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، ما أحدث ضجة وانقساما مجتمعيا حادا لم تنته تداعياته إلى الآن، كما انقسم فقهاء القانون في تونس إلى قسمين، مساند للمساواة ورافض لها، وكان على رأس هؤلاء الرافضين أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد.
نالت مواقف قيس سعيد من المثلية الجنسية والمجاهرة بالإفطار والدعم الأجنبي للجمعيات التغريبية وغيرها من المسائل الأخرى، استحسان متابعيه وأنصاره
سعيد، كان أحد الفقهاء القانونيين القلائل الذين أعلنوا صراحة موقفهم الرافض من هذه المبادرة التشريعية، مؤكدا قطعية النص القرآني في هذه القضية، وتفريقه بين العدل والمساواة، وهو ما لم يتراجع عنه إلى آخر لحظة، لعلمه واقتناعه بحقيقة لا جدال فيها بأن تحطم حلمه ومشروعه السياسي سيبدأ وسينتهي مع الموافقة على هذه المسألة الشائكة، التي ترفضها شريحة واسعة من المجتمع التونسي.
في سياق متصل بالهوية العربية الإسلامية، نالت مواقف قيس سعيد من المثلية الجنسية والمجاهرة بالإفطار والدعم الأجنبي للجمعيات التغريبية وغيرها من المسائل الأخرى، استحسان متابعيه وأنصاره، ممن رأوا في الرجل القدرة على المحافظة على الهوية المجتمعية وتعزيزها، بعيدا عن كل تدخل في نمط حياة التونسيين، ومعتقداتهم، وتضييق على عباداتهم مثلما كان يحدث قبل 14 يناير 2011.
7- المناظرة الرئاسية الثانية
لم تكن هذه الأسباب وحدها من صنعت الفارق الكبير في نتائج الانتخابات بين قيس سعيد ومنافسه نبيل القروي والذي وصل إلى أكثر من 45 نقطة، فالمناظرة الرئاسية الأخيرة، التي شاهدها أكثر من 6 ملايين تونسي، والتي أظهر فيها أستاذ القانون الدستوري حضورا لافتا أكثر من خصمه، كانت هي الأخرى حاسمة في ترجيح كفته، لا سيما بعد الظهور الضعيف للقروي، العاجز عن الإقناع والإيضاح والإيجاز.
ففي المناظرة الرئاسية الأخيرة، استطاع قيس سعيد تسجيل نقاط عديدة في مرمى خصمه، خاصة فيما يتعلق بالجانب القانوني وصلاحيات رئيس الجمهورية، وهو الميدان الذي أقنع فيه سعيد وتخبّط فيه القروي وأتى بالعجائب التي لم يسبقه إليها أحد، على غرار تأكيده تفعيل قانون الإرهاب المفعّل أصلا منذ العام 2015، وإنشاء محاكم استثنائية الممنوع بنص الدستور التونسي.
كل هذه الأسباب وأكثر، كانت وراء صعود الأكاديمي التونسي من بعد تقاعده إلى كرسي قرطاج، لحكم تونس خلال السنوات المقبلة، والسؤال المطروح اليوم، هل ينجح أستاذ القانون الدستوري المتشبّع بروح القانون وفقهه، في إثبات جدارته بالنسبة القياسية التي تحصل عليها في الانتخابات، أم أن مفاجئة غير سارة ستنتظر التونسيين وخاصة منهم المناصرين له؟ لننتظر ونترقّب!