ما زالت تداعيات إعلان كوريا الشمالية انسحابها من المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، بشأن برنامجها النووي التي جرت آخر جولاتها في ستوكهولم برعاية الحكومة السويدية، تلقي بظلالها على العالم، في ظل تحديها ترامب، وإبقاء التفاوض في كفة والاستمرار في الاستعراض العسكري في كفة أخرى، حتى يصل الأمريكان إلى حلول ترضيها، وليس العكس.
الاندفاع في قرار الانسحاب أثار العديد من الأسئلة، وأصبح الجميع يريد معرفة الأسباب، وانطلقت التحليلات التي تشير إلى تقديم كوريا الشمالية درسًا في صلابة التفاوض لكل خصوم أمريكا وخاصةً منطقة الشرق الأوسط، بالتراجع عن المفاوضات وعدم الاستسلام للصورة الذهنية الجديدة لأمريكا التي ترفع فورًا لواء المحاصرة الاقتصادية والتهديدات والحرب النفسية، إذا رفضت دولة ما تنفيذ سياساتها، وتحليلات أخرى تؤكد أن عودة كوريا من جديد للتهديد ببرامجها النووية والباليستية، تهور غير محسوب، سيعود بالضرر على البلاد وكيم نفسه، بينما ذهب طرف آخر إلى استنتاج يفرض طريق ثالث، من واقع التاريخ الطويل للعلاقات بين البلدين.
استفزاز مقصود أم ماذا؟
تصر كوريا الشمالية على التعامل بندية مع إدارة الرئيس ترامب، لذا لم تتوقف عن إجراء المزيد من الاختبارات الصاروخية، وآخرها إطلاق صاروخ جديد من غواصة، الأمر الذي شكل إحراجًا شديدًا للرئيس الأمريكي.
يبدو أن كيم يعلم جيدًا أن التدافع أصبح السمة الرئيسية للعلاقات بين القوى الكبرى الرئيسية في الساحة الدولية، ولن يكون طرف بمفرده مهما كان وزنه وثقله السياسي والعسكري والاقتصادي، بإمكانه أن يحقق نصرًا حاسمًا على طرف آخر
صدّر كيم جونغ أون الزعيم الكوري، صورة عصماء له ولعائلته التي طالما أعلنت التحدي للولايات المتحدة، لذا فمحاولة إيجاد صيغ أخرى في العلاقات مع القطب الأوحد للعالم، لا يعني التراجع أو الركوع أمام ترامب، بل على العكس، أثبت كيم أنه قادر على ممارسة المزيد من الأكروبات السياسية التي يعشقها، بعدما تخلى عن جميع الاتفاقات والتفاهمات السابقة التي أقرتها قمتا سنغافورة وهانوي مع الرئيس ترامب، ونصت في أهم بنودها، على وقف التّجارب الصارخية، بشقّيها النووي والباليستي.
ويبدو أن كيم يعلم جيدًا أن التدافع أصبح السمة الرئيسية للعلاقات بين القوى الكبرى الرئيسية في الساحة الدولية، ولن يكون طرف بمفرده مهما كان وزنه وثقله السياسي والعسكري والاقتصادي، بإمكانه أن يحقق نصرًا حاسمًا على طرف آخر.
ولا تتوقف هذه المعادلة على المعارك العسكرية، ولكن تمتد إلى جميع ألوان الحياة، بالنظر إلى المعركة التجارية الدائرة منذ سنوات بين الولايات المتحدة والصين التي لم تنته حتى الآن بإعلان فوز أحدهما.
المثير في الأزمة الكورية الأمريكية أن طول الانتظار دون حل، جعل كيم يدير ماراثون المفاوضات على طريقته، فهو الآن الذي يوجه الإنذارات لواشنطن
صحيح أن الدفة تميل في المعركة لصالح أمريكا، لكن الصين توسع في المقابل نطاق انتشارها التجاري والاقتصادي من خلال سلسلة من الشراكات، وآخرها مشروع إحياء طرق الحرير، دون أدنى اكتراث بالعقوبات الأمريكية.
المثير في الأزمة الكورية الأمريكية أن طول الانتظار دون حل، جعل كيم يدير ماراثون المفاوضات على طريقته، فهو الآن الذي يوجه الإنذارات لواشنطن، وأعلن على لسان المتحدث باسم خارجيته أنه يمهل الإدارة الأمريكية، حتى نهاية العام الحاليّ للتقدم باقتراحات مقبولة، لحل القضايا العالقة بين البلدين.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف نصنف موقف كوريا الشمالية؟ وهل السياسة التي تتبعها مع الولايات المتحدة، صلابة تفاوضية بالفعل، تقدم دروس عدة في الطريقة المثلى للتعامل مع الولايات المتحدة، أم تهور قد يدمر كوريا للأبد، أم الفيصل هو طريق ثالث؟
الطريق الثالث.. الحل الأفضل دائمًا
حتى نجيب عن هذا السؤال، يجب أولاً استعراض تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين أمريكا وكوريا الشمالية، وكيف كان مسار العلاقة، وما الذي تغير فيها خلال أوقات التوتر والصداقة، وهل استطاعت أمريكا إثناء كوريا عن حيازة المزيد من الأسلحة أم لا.
عام 1992، وقعت الكوريتان، على معاهدة تلزم الدول بوقف انتشار الأسلحة والتكنولوجيا النوويتين وتعزيز التعاون السلمي في مجال الطاقة النووية، وبصفة خاصة إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، وإلزام كلا البلدين باستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط.
حتى عام 2000 تبادلت الولايات المتحدة وكوريا الشمالية استضافة زيارات حسن النوايا، واستمرت العلاقات بشكل جيد، قبل أن تقرر كوريا من جديد الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 2003
بعد هذا التاريح بعام واحد فقط، رفضت كوريا الشمالية، عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأعلنت عزمها الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، قبل أن تتدخل الدبلوماسية الأمريكية، وتقنع “بيونغ يانغ” بتعليق الانسحاب من المعاهدة، وخضعت بالفعل لعمليات تفتيش انتهت في مارس 1994.
استمرت العلاقات الإيجابية بين البلدين، واضطر الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي ساعد بلاده في حل الأزمات الدبلوماسية، للسفر إلى كوريا، والاجتماع مع كيم إيل، مؤسس الدولة وزعيمها، ووضعت زيارته حجر الأساس للاتفاق بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية لتجميد بناء المفاعل النووي وإنتاج البلوتونيوم مقابل شحنات مساعدات من الوقود ومزايا أخرى.
حتى عام 2000 تبادلت الولايات المتحدة وكوريا الشمالية زيارات حسن النوايا، واستمرت العلاقات بشكل جيد، قبل أن تقرر كوريا من جديد الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 2003.
تدخلت الولايات المتحدة هي الأخرى من جديد، وأقنعت كوريا بعد مفاوضات ماراثونية استمرت 3 سنوات، بإغلاق مرافقها النووية مقابل مساعدات الوقود، والمضي قدمًا في تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة واليابان.
منذ عام 2009، وكيم جونغ أون ـ الرئيس الحاليّ ـ يسيطر تمامًا على المشهد، وأصبحت بلاده تعلن التحدي بشكل واضح للمؤسسات الدولية والولايات المتحدة
لم تستطع كوريا الانتظار كثيرًا لتعود لنفس اللعبة بعد عامين فقط، وأعلنت إطلاق صاروخ أشعل الغضب في مجلس الأمن الدولي، ولم تتحمل الإدارة الكورية ردة فعل المجتمع الدولي، لتعلن انسحابها من المعاهدة، مع عدم الالتزام بأي اتفاق تم التوصل إليه من قبل، وهذه المرة بالغت في رد فعاها، وطردت المفتشين النووين وأبلغت المسؤولين في الوكالة الدولية للطاقة النووية أنها ستستأنف برنامجها النووي.
منذ عام 2009، وكيم جونغ أون ـ الرئيس الحاليّ ـ يسيطر تمامًا على المشهد، وأصبحت بلاده تعلن التحدي بشكل واضح للمؤسسات الدولية والولايات المتحدة، وتعلن إجراء اختبارات محرمة، انتهكت بها القانون الدولي، بما في ذلك ثلاثة اختبارات نووية وإطلاق 40 صاروخًا موجهًا في الفترة من 2016 إلى 2017.
منتصف يونيو 2018، جرت مياه جديدة في النهر بين أمريكا وكوريا الشمالية، وعقد أول اجتماع مفاجئ بين زعيمي البلدين في سنغافورة، بعد سلسلة من الإهانات والتهديدات، وصلت حد التهديد باستخدام الأسلحة النووية، ووقّع ترامب وكيم بيانًا مشتركًا، يؤيد من جديد إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية وإقامة علاقات جديدة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
بعد ذلك عقد الزعيمان قمة ثانية في هانوي بفيتنام، فبراير الماضي، كما اجتمعا لفترة قصيرة في يونيو بالمنطقة الكورية منزوعة السلاح، قبل أن تعود العلاقة للبرود مرة أخرى، كما كانت طوال تاريخها، وبالتالي التصريحات الهجومية التي أطلقها كيم تدور في نفس النسق، شد وجذب ومقايضات بالملف النووي، ثم هدوء وتفاهم من جديد.
ما يؤكد هذه الفرضية، تصريحات الرئيس الأمريكي على هامش أعمال الدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة بمدينة نيويورك، التي أكد فيها بعد عودة العلاقات مع كوريا الشمالة للمنطقة الباردة وظهور قلق دولي من التهديدات المبطنة لكيم ردًا على عدم إسراع أمريكا في التفاوض مع بلاده، أن إدارته لا تفكّر في فرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية.
لقاء تاريخي بين ترامب وكيم جونغ أون على الحدود بين الكوريتين
أثنى ترامب عبر المزيد من المدح، على العلاقات الجيدة مع زعيمها كيم جونغ أون، بعد عقد قمتين وصفهما بالناجحتين للغاية، وألمح إلى ترتيب قمة جديدة تجدد الثقة بينهما، على أمل ألا تعود فترة التوتر من جديد، بعد مرحلة من التصريحات العبثية على مدار العام الماضي، ما يؤكد أن علاقة كوريا الشمالية والولايات المتحدة، في الغالب، حالة منفصلة عن العالم، فهي تمشي في مسارات متعرجة وتعود من جديد لحميمية محفوظة مسبقًا، ويبدو رضى البلدين عن ذلك تمامًا!