فرضت الصورة نفسها كأحد الأضلاع الرئيسية في العمل الصحفي، وكيان مستقل بذاته، قادر بمفرده أن يطرح العديد من الإشكاليات والمقاربات الفلسفية، وأن يغوص في أسبار المعاني والدلالات، فهي لم تعد رفاهية لإثراء المضمون كما كانت في السابق، لكنها تحولت إلى مدرسة شاملة، ينبثق منها فصول وفروع، تُعد المناهج لأجل دراستها، وتُنظم في وصفها القصائد، فالصورة – كما يقولون في الأثر- بألف كلمة.. وأكثر.
وللوقوف على قيمة ومكانة ودلالة الصورة وما تطرحه من مضامين معمقة، وتفرضه من معارك فكرية وفلسفية محتدمة، يمكن المقارنة بين صورتين، لكل منهما قصة وحكاية، ومن خلفهما أمواج متلاطمة من الدلالات والمعاني، يثيران منذ الوهلة الأولى حزم لا متناهية من التساؤلات والاستفسارات، وينتهيان عند قناعات لا تقبل الجدل، ويقين منزه عن الشك.
الصورة الأولى لقائد معركة الطوفان يحيى السنوار، الذي ارتقى شهيدًا في السادس عشر من تشرين أول/أكتوبر 2024، تلك الصورة أحدثت زلزالًا مدويًا في الوسط العربي والإسرائيلي على حد سواء، ونسفت بمفردها دون شرح أو تأويل عشرات السرديات التي حاول الاحتلال ترويجها على مدار سنوات عدة، فكانت الصورة القاضية، التي يمكن اعتبارها نقطة تأريخ جديد لرمزية المقاومة والقيادة.
أما الصورة الثانية، فتلك التي التقطتها عدسات الكاميرات المتطورة للعاهل الأردني، عبدالله الثاني، خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في البيت الأبيض، عقب اللقاء الذي جمعهما، الثلاثاء 11 شباط/ فبراير 2025، والذي ناقش مقترح التهجير المزعوم ومخطط توطين الغزيين خارج فلسطين.
صورتان يفصل بينهما زمنيًا شهران وخمسة وعشرون يومًا، لكن البون في المعنى والدلالة يتسع لعقود طويلة، إحداهما تداعب نجوم الإباء والكرامة والعزة وترسم بأحرف من ذهب أسطورة تتناقلها الأجيال تلو الأخرى، لمعنى الفداء والبذل في سبيل الله والقضية والوطن، والأخرى تطرق أبواب الذل والخذلان على أعتاب السيد الأمريكي، وتقدم نموذجًا مُخزيًا لمعنى التبعية وانعدام الاستقلال والارتماء في أحضان الانبطاح.
المقاومة مداد الكرامة ولحن الخلود
لو لم يكن تسريب صورة السنوار والمقطع الذي وثق لحظاته الأخيرة قبل الاستشهاد، تم بشكل عفوي غير مقصود، من عناصر الجيش الإسرائيلي، ودون الرجوع إلى القيادة العليا في الكابينت، لقيل إنها صورة مرسومة بفرشاة فناني غزة العظام، لتخليد اسم شهيدهم وقائد حركة المقاومة، فكل عناصر الصورة كان فريدًا واستثنائيًا في الشكل، وعميق الدلالة والمعنى، ومُتخم بالرسائل والمؤشرات.
جاءت صورة الاستشهاد عظيمة في كل تفاصيلها، فقد رحل المناضل مشتبكًا في الميدان، جالسًا فوق كرسيه بكل إباء وعزة، ممتشقًا مسدسه وبعض القنابل اليدوية، متدثرًا بجعبةٍ عسكرية وكوفية أخفى بها وجهه، وعلى رأسه أثار رصاصة ومثلها في قدمه، ومن قبلهما شظايا قذيفة دبابة أصابت يده اليمنى، فبترت جزءًا منها، فيما أمسك بيداه الأخرى عصاه يحارب بها المسيرة التي جاءت لتوثق تلك اللحظات الخالدة التي سيحفرها التاريخ في سجلات العظماء.
قد تكون ثوان معدودات في حسابات الزمن التقليدية، لكن أمامها تقف كل قواميس اللغة عاجزة عن الوصف، فالمشهد في رمزيته يبلغ من الوضوح ما يغنيه عن التوضيح، ومن الهيبة ما يغنيه عن التهييب، ويسطر لحالة استثنائية في هذا الظرف العبثي، حالة تُحيل الميت حيًا، والمهزوم منتصرًا، وتقلب الطاولة على العدو فتحول نصره هزيمة وأفراحه أتراحًا.
ولقد أجرى الله الكريم سننه بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، فالسنوار الذي عاش لأجل قضية بلاده، دفع لأجلها سنوات وسنوات من عمره وصحته، من ماله وحريته، قضى منها نحو 23 عامًا في سجون الاحتلال، ليخرج بعدها حاملًا الراية، أكثر استئسادًا على العدو مما كان عليه قبيل دخوله، ما كان له أن يموت ألا بتلك الكيفية، مرفوع الرأس، شامخ القامة، يناضل بما تبقى من نبض وما بقي من أنفاس.
ويا له من شرف عظيم أن يكتب القائد السياسي سطره الأخير في حياته وهو يقاتل عدوه حتى بعصاه، ليعاين على الهواء مباشرة وعلى مرأى ومسمع من الجميع هذا المشهد الأسطوري، تلك المشهدية الرمزية التي لم يقف الجيل الحالي ولا الذي سبقه على تجربة حيّة كتلك، وهو ما أكسبه احترام الجميع، الخصوم قبل الحلفاء، ليتحوّل السنوار من قائد سياسي وعسكري لحركة مقاومة إلى أيقونة ومصدر إلهام للأجيال القادمة والتي يليها.
الخذلان يورث الانبطاح والتبعية
على الجانب الأخر من المشهد، حيث صورة العاهل الأردني الذي بدا وكأنه قد حٌشر في حجر زاوية ضيق، لغة الجسد تبلغ من الوضوح ما يغنيها عن التوضيح، تقوقع إلى الداخل، جلوس هزيل، راس محني، تقاسيم وجهه تعكس الانكسار، حركات شفاه ويداه ومخرجات الألفاظ تشي بالكثير عن المسكوت عنه.
الصورة في مجملها رسمت لوحة قاتمة من الذل والانبطاح وفقدان السيادة والاستقلالية، وهزيمة نفسية مُنكرة أمام الرئيس الأمريكي، وبعيدًا عما أثير بشأن الترجمة الخاطئة لبعض التصريحات التي قيلت في هذا اللقاء، إلا أن الصورة في مضمونها كانت بليغة للغاية، وهو السبب في الجدل التي أحدثته والذي فاق في تأثيره ووقعه جدل التصريحات نفسها.
ظهور العاهل الأردني في صورة المهزوز غير القادر على التعبير صراحة عن موقف بلاده من قضية تهجير الغزيين، خشية إغضاب ترامب وإدارته، حصاد مرّ لعقود طويلة من التفريط في سيادة المملكة، وإخضاعها لتبعية الولايات المتحدة تارة، ودول أوروبا تارة أخرى، ورهن قرارها السياسي ومن ثم الاقتصادي بإرادات وأجندات أجنبية، حتى لو كان الثمن التفريط في ركائز الأمة وقضاياها المصيرية.
ولطالما تلقت القضية الفلسطينية والمقاومة تحديدًا، تحت ولاية عبدالله الثاني المستمرة منذ عام 1999 وحتى اليوم- ضربات موجعة، استهدفت قادتها واستراتيجيتها، وخضعت للكثير من محطات الابتزاز والتصيد، كل ذلك في مقابل الحفاظ على كرسيه وعرشه من أي تهديد، خاصة مع توجسّه من أنه لن يبقى في منصبه إذا ما تخلى عنه حلفاؤه في المعسكر الغربي.
صورتان من بين آلاف الصور التي التقطتها عدسات الكاميرات للعديد من الشخصيات والأحداث والمواقف، غير أنهما يجسدان مفارقة عجيبة ودلالة مكتملة المعاني، فشتان شتان بين من يعيش لأجل هدف وغاية، ودفاعًا عن قضية يؤمن بها، يحيا لأجلها وفي سبيلها يموت، شامخ الهامة والقامة، وبين من يضرب بكل المرتكزات القومية والدينية عرض الحائط حفاظًا على حفنة مساعدات أو رضى الوصي، فالأول يترسخ في ذاكرة الأجيال ما دامت الحياة، والثاني تطمسه تفاصيلها مهما جرت بروزتها وتلميعها بمساحيق التجميل المزيفة.