أضحى شكل الحمّامات الزراعية البلاستيكية في قطاع غزة تحديدًا شرق محافظة خانيونس – الأكثر ملاءمة لزراعة الحمامات البلاستيكية – محزنًا جدًا، فقد أصبحت خاوية على عروشها لا يستطيع المزارع الفلسطيني زراعتها بأي نوع من الخضراوات نتيجة ملوحة المياه الجوفية، بسبب ضعف الخزان الجوفي. ويُرجع الفلسطينيون المشكلة بالأساس لشركة “موكوروت” الإسرائيلية، معتبرين أنها سرقت الخزان الجوفي الفلسطيني في قطاع غزة قبل الانسحاب عام 2005 وأتلفته على المستوطنات هناك.
في قطاع غزة لا تتجاوز نسبة المياه الصالحة للشرب 7%، وبقية المياه المستخدمة في المنازل هي مياه من نوعية رديئة لا تصلح للاستعمال الآدمي. ورغم أن الوصول للمياه الجوفية في قطاع غزة لا يخضع لقيود الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنه مستنزف بالكامل، حيث لعبت المستوطنات قبل الانسحاب عام 2005 دورًا مهمًا في تخريب الخزان الجوفي، إضافة لسوء الصرف الصحي الذي أتلف المتبقي من الخزان الجوفي في ظل تحذيرات الأمم المتحدة أن المياه في غزة لن تصلح للاستخدام البشري بحلول عام 2020.
البيوت الزراعية البلاستيكية في قطاع غزة نقلًا عن فلسطين اليوم
المشهد بدأ يتكرر بطريقة أكثر تعقيدًا في الضفة الغربية، فشركة “موكوروت” تبيع للفلسطينيين المياه بسعر أعلى من السعر الذي تبيع به للمستوطنين وبكمية أقل، إضافة لتحكمها الكامل بالمياه التي تزود بها الفلسطينيين في الضفة الغربية، كمًا وكيفًا، فتزيد من فترات القطع وتقلص كمية المياه.
فلا تتوقف شركة مكوروت عن سياسة التعطيش وقطع المياه عن مناطق مختلفة من الضفة الغربية، إضافة لتقليص كمية المياه التي يتم ضخها إلى مناطق السلطة الفلسطينية للنصف. جدير بالذكر أن القطع مستمر طوال الأعوام العشر السابقة، إضافة إلى أنه دون سابق إنذار ودون أي تنسيق مع سلطة المياه الفلسطينية.
كذلك اقتطعت حكومة الاحتلال الإسرائيلي المستحقات المالية لشركة مكوروت من إيرادات المقاصة للسلطة، واعترضت السلطة على التكاليف، حيث اعتبرت أن هناك تلاعبًا واضحًا في الأرقام المالية وقراءة عدادات المياه.
الأراضي الزراعية في منطقة الأغوار
شركة “مكوروت”، الفاعل الأساسي.. ما هي؟
شركة المياه الإسرائيلية وتُعرف بالعبرية بـ“مكوروت”، أي “منابع” أو “مصادر المياه”، أسستها الوكالة اليهودية عام 1937 بالتعاون مع الصندوق القومي اليهودي (كيرين كايميت) ومنظمة العمال العامة (الهستدروت). وفي عام 1956 أصبحت حكومة الاحتلال الإسرائيلي شريكة في هذه الشركة، ونالت الشركة عام 1959 امتيازًا للتنقيب والبحث عن المياه وتزويد مياه الشرب للبيوت ومياه الري للأراضي الزراعية.
تصنّف شركة مكوروت من الشركات الاحتكارية، إذ إنها الوحيدة المخوّلة بالتنقيب عن المياه وتزويد البيوت والأراضي والمصانع والمحلات المختلفة، وبدأت الشركة بتنفيذ مشروعات خاصة بالمياه في إفريقيا على وجه التحديد، وقد اتهمت صحيفة “هآرتس” العبرية الحكومة الإسرائيلية بسرقة مياه الفلسطينيين في الضفة الغربية فتعطي الفلسطينيين 20% بينما تعطي الإسرائيليين 80%.
ما مصادر المياه الفلسطينية؟
هناك مصدران للمياه في فلسطين: السطحية التي تنشأ من مياه الأمطار وتشمل الأنهار والبرك والبحيرات والجداول والينابيع، وتمثل 35% من كمية المياه المستخدمة، وتعتبر المياه الجوفية المصدر الثاني للمياه، وهي المصدر الوحيد للمياه العذبة وتشكل 75% من مجموع مصادر المياه في فلسطين، ويمثل الحوض الجبلي أهم الأحواض المائية في الضفة الغربية.
لقد تحولت المستوطنات في الضفة الغربية إلى مدن، تحول فيها المستوطنون إلى مقيمين دائمين يملكون الأرض ومصادرها خصوصًا مصادر المياه، ويسيطر الاحتلال الإسرائيلي على الخزان المائي الأهم في غور الأردن، وشركة “موكوروت” تورد المياه للضفة الغربية رغمًا عن أنف الفلسطينيين ووفق اتفاق أوسلو المنقوص.
أصل المشكلة
وفق المادة (5) لاتفاق أوسلو لترتيب المياه، فإن الولاية تشمل سلطة السلطة الفلسطينية على كل الأمور التي تقع داخل ولايتها الإقليمية والوظيفية والشخصية وتغطي أراضي قطاع غزة ومنطقة أريحا كما هو محدد في المادة (1) باستثناء المستوطنات والمنشآت العسكرية، وتشمل الولاية الإقليمية الأرض وما في باطنها والمياه الإقليمية، طبقًا لشروط هذه الاتفاقية.
ورغم أن السلطة حصلت على اعتراف إسرائيلي بضرورة إشراكها في إدارة وتشغيل وتنمية كل شبكات المياه والصرف الصحي في المناطق الفلسطينية، فإن الاتفاقية لم تتطرق لحقوق الفلسطينيين في مياههم الجوفية أو السطحية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا لموضوع السيادة على الموارد المالية وإن كانت الولاية لا تفيد نفس المعنى، والأهم من ذلك أن الاتفاقية شرّعت شركة “مكوروت” في مناطق السلطة الفلسطينية فيما يتعلق بالمستعمرات والمنشآت العسكرية، لتزود السلطة الفلسطينية بمياه محددة مدفوعة الثمن ضمن علاقة “تجارية”.
إدارة مياه المستوطنات في شركة مكوروت الإسرائيلية صعبت على الفلسطينيين مراقبة المياه الجوفية، مما أعاق السياسة الوطنية المائية الفلسطينية، وقد اعتبرت منظمة العفو الدولية الإجراءات التي تتبعها شركة “موكوروت” بتغطية من الحكومة الإسرائيلية هي “احتلال مياه”.
تجاهل احتياجات الفلسطينيين لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على استحقاقات الحياة
تستخدم “إسرائيل” المياه كما يحلو لها، متجاهلة احتياجات السكّان الفلسطينيين، إذ تفرض على سكّان الضفة الغربية وقطاع غزة أزمة حادة في المياه التي في معظمها من صنيعة البشر، وتضطر السلطة الفلسطينية إلى شراء المياه من شركة “مكوروت” الإسرائيلية، بكميات تبلغ ضعف الكميات المحددة في الاتفاقيات، وتتحكم “مكوروت” في كمية المياه الموجهة للفلسطينيين في الضفة الغربية وتوزيعاتها، هذه الأزمة ضمن المقاربة اللاسياسية، حيث يظهر شكل جديد من الاقتراحات الإسرائيلية لحلول تكنولوجية تشمل تمددها السريع في المنطقة العربية التي تعاني من أزمة مياه، أهمها محطات التحلية ومعالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها، بما يتقاطع مع الأردن ومصر أو في مناطق إفريقية.
ترتبط الحلول التكنولوجية الإسرائيلية بالاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا والبنية التحتية سوف تضمن بألا تعود المياه مصدرًا للنزاعات والصراعات والحروب
وقد دأب الاحتلال الإسرائيلي طوال عقود على اقتراح حلولٍ تكنولوجية لمعالجة هذا الشح، كمحطات التحلية ومعالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها، ولعب المانحون الدوليون دورًا رئيسيًا في تعزيز نهج الاحتلال الإسرائيلي، فعلى مدار مسار المساعدات الدولية الكبيرة التي بلغت قرابة 35 مليار دولار منذ عام 1993-2018 الموجهة للسلطة فقط، لم ينشئ المانحون أي محطات تحلية مياه بحر إستراتيجية للفلسطينيين، ولا محطات صرف صحي تمنع تسرب المياه العادمة للخزان الجوفي.
ترتبط هذه الحلول التكنولوجية الإسرائيلية بالاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا والبنية التحتية سوف تضمن بألا تعود المياه مصدرًا للنزاعات والصراعات والحروب، غير أن هذه الحلول التكنولوجية تتجاهل العناصر الاجتماعية والسياسية والثقافية لحق الفلسطينيين في المياه.
هذه التقانة الإسرائيلية الجديدة في الحالة الفلسطينية بالذات تنطوي على دوافع سياسية بحتة، ومحاولة لصرف الأنظار عن تسيس أزمة المياه الفلسطينية، عبر وضعها في إطار التغيرات المناخية الحاصلة، لكن الاحتلال الإسرائيلي يستفيد قطعًا من تقدمه التكنولوجي في المياه مع الحفاظ على سيطرته على مياه الضفة الغربية، ومسؤوليته في الأساس عن أزمة المياه في قطاع غزة، بعد سرقة المياه الجوفية طول أعوام في المستوطنات، وهنا يطرح تساؤل: هل يمكن للفلسطينيين الاعتماد على قدرة التكنولوجيا في زيادة وفرة المياه في سياق الاحتلال؟
تضطر السلطة الفلسطينية لشراء مياه من شركة “مكوروت” الإسرائيلية بكميات تبلغ ضعف الكميات المحددة في الاتفاق
تشير معطيات سلطة المياه الفلسطينية في عام 2016 أن معدل الاستهلاك اليومي للمياه في الضفة الغربية للاستخدام المنزلي والتجاري والصناعي – لا يشمل الزراعة – بلغ 82.3 لتر بعد خصم الهدر، وهي كمية أدنى من الحد الذي توصي به منظمة الصحة العالمية 100 لتر يوميًا للفرد، ولأن إحصائية سلطة المياه الفلسطينية شملت الاستخدام التجاري فإن الاستهلاك اليومي للفرد يبلغ أقل من82.3 لتر.
لذا تضطر السلطة الفلسطينية لشراء مياه من شركة “مكوروت” الإسرائيلية بكميات تبلغ ضعف الكميات المحددة في الاتفاق، وتفيد معطيات سلطة المياه لعام 2016 أن السلطة تشتري من شركة “مكوروت” 69 مليون لاستخدام الضفة الغربية، مع العلم أن حصة المستوطنين أو الفرد في الاحتلال الإسرائيلي من المياه في الخزان الجوفي الفلسطيني الذي تسيطر عليه مكوروت تفوق عشرة أضعاف الفلسطيني في الضفة الغربية.
وهكذا، فإن شركة “موكوروت” هي إحدى الشركات التي تمثّل نزع السيادة على الأرض الفلسطينية من السلطة، فهي تراكم الاستحقاقات المالية على السلطة الفلسطينية من ناحية، وتزيد معاناة الفلسطينيين في الحصول على المياه للشرب أو الاستخدام الزراعي، وتمنعهم من حفر الآبار في مناطق “ج”، مما يهدد الوجود الفلسطيني على أرضه بالكامل ويمهد لتهجير ممنهج جديد.