يترنّح منعم في فراشه ويتأفف من صباح استيقظ فيه على صراخ أهالي القرية، وشجار قد يحتد في بعض الأحيان إلى درجة إشهار أسلحة بيضاء والتهديد بها، “لا بد أنه أب غاضب من حرمان طفله يوم أمس من دوره في الحصول على حصته من الماء، ليعود وهو يجر الدابة بغالونات فارغة، لأن الخزان لا يكفي جميع أهل القرية” يقول منعم، وهو شاب في عقده الثاني من العمر، لكنه عازم على النزوح بعيدًا عن مسقط رأسه، حيث يوجد أكبر سد في المغرب.
“كل شيء متوافر.. إلا الماء”
“في قريتنا كل شيء متوافر باستثناء الماء، وأرضنا البورية لم تعد تعطي كما في الماضي، فقد جفت الكثير من الآبار ومنابع الماء، ويعتقد الكثير من الناس أننا في نعيم الماء لأننا قريبون من سد الوحدة”، يحكي الشاب بأسف شديد إلى “نون بوست” عن مخاوفه من ارتفاع درجة الحرارة عن المتوسط المعتاد وعدم انتظام هطول الأمطار وغيرها من أعراض التغيرات المناخية التي باتت تهدد استقرار عيش الأهالي، وترغمهم على النزوح نحو هوامش المدن، حيث تنعدم شروط العيش الكريم.
حتى إن وصلت باكرًا لتحصل على دورك ضمن أوائل الناس الذين سيرتوون من الخزان، لن تحصل عليه، وسيضيع وسط الفوضى وجنون العطش. مع الشروق تكون الغالونات والبراميل متوسطة الحجم موضوعة في ساحة يجتمع فيها أهالي قرية “العرقوب”، في انتظار قدوم الخزان الذي لن يعطي كل عائلة أكثر من 200 لتر من الماء غير الصالح للشرب، وحسب منعم فإن “هذه الكمية من المياه لا تكفي لحاجيات التنظيف وشرب الماشية، أما النباتات فقد لفحتها الشمس وقتلها العطش، ولا يتبقى لها أي قطرة ماء”.
يضيف منعم أن قريته تعاني من العطش مثل بعض القرى الأخرى القريبة من ثاني أكبر سد في إفريقيا، بمسافة لا تتجاوز 10 كيلومترات، بحيث لا تتوافر على منابع ماء تقاوم موجات الحر المتوالية، فسرعان ما تجف العيون والآبار، وحتى البرنامج الوطني للماء الصالح للشرب لم يشمل هذه القرى بإنشاء صنابير تعفي الناس من عناء رحلة البحث عن الماء الصالح للشرب.
الطريق نحو المنبع شاق وعسير
“هناك عين لا تجف اسمها مَقُّوجة لكنها بعيدة بمسيرة أربع ساعات ذهابًا وإيابًا”، يتحدث إلينا طفل من فوق دابة وضع عليها غالونات فارغة، متجهًا صوب منبع الماء الذي تقصده الكثير من القرى لتروي عطشها.
كان الطفل طَه يحاول الإسراع للوصول إلى المنبع قبل أن يجده مكتظًا بالناس ويضطر للانتظار ساعات طوال، “فالناس لا يحترمون الدور، ويستهترون بأصغرهم سنًا، فكثيرًا ما أخذوا مني دوري، لأنني طفل خجول”، يتذكر طه أنه قبل أيام معدودات، دفعته امرأة من أمام الصنبور وأخذت دوره، ليضيع وسط الزحام، “وجدت نفسي بعيدًا عن الصنبور وشعرت باحتقارهم لطفولتي، وتمنيت أن أكبر بسرعة، بكيت تلك اللحظة لكن لم يهتم لأمري أحد”، يعيد لنا طه هذه القصة بلهجة شخص ناضج، كما لو أن قساوة العيش في البادية سرقت منه طفولته.
يحدث أن يصادف طه جارتهم عائدة من المنبع، وهي امرأة في عقدها الخامس، تمشي وراء دابتها الحاملة لغالونات مليئة بالماء، ثم يسألها عن الوضع هناك، “هل يوجد الكثير من الناس؟”، تجيبه “لحسن الحظ، لا يوجد زحام كثير ولكن أسرع قبل أن يتقاطر الكثير من الناس”.
طه متحدثًا لـ “نون بوست”
أراضٍ دون قنوات للري
يعود إلينا طه ويقول: “هذه المرأة منذ أن توفي زوجها وهي تقوم بكل شيء، لقد ترك لها طفلة تعيلها، والآن هي من ترعى الغنم وتجلب الحطب والماء، وتشتغل في الضيعات الفلاحية البعيدة، فكل فجر تأتي حافلات لتقل النساء والرجال الذين يودون الاشتغال بالزراعة بمقابل لا يتجاوز 7 دولارات في اليوم”، ولا يفوت طه أن يبدي استغرابه من عدم ربط أراضي قريته بقنوات للري، كما هو الحال بالنسبة للضيعات الفلاحية في مناطق الغرب التي تمتد على مقربة من نهر “ورغة” الذي أقيم عليه السد الكبير.
سنة 1997 تم تدشين سد الوحدة على تراب أقاليم وزان وفاس وتاونات، بطاقة استيعابية بلغت 3 مليارات و800 مليون متر مكعب، وتوخى تشييده حماية مناطق الغرب من فيضانات نهر ورغة وتوسعة رقعة الأراضي المسقية بسهول منطقة الغرب، فضلاً عن توليد الطاقة الكهرومائية، وكان الملك الراحل الحسن الثاني من أمر ببناءه، حيث لُقب بـ”باني السدود” لاهتمامه المبكر بالماء، وشهد عهده تشييد 125 سدًا كبيرًا، بينما تضم المملكة حاليًّا 140 سدًا كبيرًا و250 من السدود الصغرى، وعدد من السدود الأخرى المبرمج تشييدها مستقبلاً.
سياسة السدود وحدها غير كافية لمواجهة أزمة العطش التي باتت تهدد المغرب خلال العقود المقبلة بسبب التغيرات المناخية كارتفاع درجات الحرارة وتوالي سنوات الجفاف وعدم انتظام التساقطات، إذ إن الحكومة المغربية ملزمة بالبحث عن بدائل كإقامة محطات لتحلية مياه البحر، رغم تكلفتها الباهظة، فضلاً عن وضع قوانين وتطبيقها من أجل الحفاظ على المياه الجوفية من الاستنزاف المفرط.
سد الوحدة
نصيب الفرد من الماء في تراجع
حذّرت منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” من الإفراط في استخراج أكثر من نصف المياه الجوفية في المغرب، الذي أدى إلى تراجع مستمر في منسوب هذه المياه التي تدار بأنماط غير مستدامة، وشددت المنظمة التابعة للأمم المتحدة على أن الإدارة المستدامة للمياه في النشاط الزراعي شرط أساسي للقضاء على الجوع والتكيف مع التغيرات المناخية، ويستخرج المغاربة 833 مليون متر مكعب من المياه الجوفية، حيث تصل نسبة الإفراط في الاستخراج إلى 255% من المستوى المستدام للاستخراج في الحالات القصوى.
التوزيع المتباين لمصادر المياه في المغرب يجعل العديد من الجهات عرضة للفقر المائي، وتتزايد حدة هذا الخطر بمقدار نقص مصادر المياه من آبار وأنهار ومياه جوفية، مما يؤثر على قدرة تلبية الناس لحاجياتهم من الماء. في هذا السياق خبراء البنك الدولي في تقرير سابق أكدت عليه الوقائع لاحقًا أن حجم الموارد المائية بالمغرب لا يتجاوز 22 مليار متر مكعب من المياه السطحية و4 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية، بما يمثل 700 متر مكعب لكل فرد سنويًا، لكن هذه الحصة مرشحة للانخفاض إلى 500 متر مكعب سنويًا في 2030 وإلى أقل من 350 متر مكعب مع مطلع سنة 2050.
مع سيل التحذيرات هذا حلّ الخريف، وتناثرت حبات الماء بهدوء لتبعث رائحة الأرض الجافة، ثم تكاثفت قطرات أول المطر لتغسل أوراق الشجر من الغبار وبيض الحشرات وبصق الطيور، وتطلع الناس إلى السماء وفي قلوبهم المغمومة بهجة وأمل بنهاية موسم العطش، ولو إلى حين، فالظمأ وندرة الماء يحوّلان العيش إلى قطعة من نار تحت سماء لا تقوى العين على النظر صوبها، إذ تسطع الشمس ويشتد حرها باكرًا، وخزان الماء قد نفد وعاد أدراجه ليعود في اليوم الموالي، وربما لا يعود في بعض الأحيان.