أعلنت عدد من الفصائل الفلسطينية في بيان مقتضب إدانتها للعملية العسكرية التركية شمال شرق سوريا، حيث دعت الفصائل الموقعة التي جاء على رأسها حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية جامعة الدول العربية والمنظمات الدولية لوقف ما سمته “العدوان التركي” على الأراضي السورية، أما حركة الجهاد الإسلامي فدعت في بيان لها “إلى وقف الاشتباكات ونزف الدم على أرض سوريا الشقيقة، وتوحيد كل طاقات الأمة نحو تحرير فلسطين واستعادتها من براثن الاحتلال الصهيوني”.
أما حركة حماس فأكد المتحدث الرسمي باسمها الدكتور سامي أبو زهري رفض حركته “الحملة الإعلامية الإسرائيلية ضد تركيا”، مؤكدًا أن “إسرائيل” ستبقى العدو وتركيا هي مهوى قلوب المسلمين في العالم”، فيما أكد وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي أن “فلسطين لم تصدر أي بيان بخصوص ما يحدث على الحدود السورية ولن تصدر”.
القضية الفلسطينية وتركيا
حققت القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة مكانة مميزة لدى فئات واسعة من المجتمع التركي، ففي استطلاع رأي نشره مركز ADA للدراسات والأبحاث، اعتقد 95% من الأتراك أن “إسرائيل” دولة عدوة للدولة التركية، وفي دراسة أخرى أعدتها جامعة كادر خاص في إسطنبول، جاءت “إسرائيل” في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الدول التي تشكل مصدر تهديد لتركيا، حيث أكد 70.8% من الأتراك أن “إسرائيل” مصدر تهديد للدولة التركية.
حضور القضية الفلسطينية لم يكن بالحضور الطارئ أو الجديد على أجندة الحياة السياسية التركية، حيث تفاعل الشعب التركي وقواه السياسية مع القضية الفلسطينية بمختلف مراحلها
لا يقتصر تفاعل الأتراك مع القضية الفلسطينية على مجتمع الإسلاميين الأتراك بل يمتد إلى كل فئات المجتمع التركي، حيث تحضر القضية الفلسطينية بقوة لدى مكونات اليسار التركي والتيارات القومية كذلك،
كما أن حضور القضية الفلسطينية لم يكن بالحضور الطارئ أو الجديد على أجندة الحياة السياسية التركية، حيث تفاعل الشعب التركي وقواه السياسية مع القضية الفلسطينية بمختلف مراحلها وقواه، فخلال الاجتياج الإسرائيلي لمدينة بيروت عام 1982 استشهد العشرات من المقاتلين الأتراك الذين قاتلوا في صفوف الفصائل الفلسطينية، سبق ذلك تطوع المناضل اليساري التركي دينز غزمش في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أثناء تواجدها في لبنان.
صورة هوية للمناضل اليساري دينز غزمش في أثناء تطوعه مع الجبهة الديمقراطية
كما تحضر مدينة القدس كرمزية قوية داخل المجتمع التركي، فالمسيرة المليونية التي خرج فيها الأتراك في مدينة قونيا احتجاجًا على إعلان “إسرائيل” مدينة القدس عاصمة لها عام 1980 كانت إحدى الحجج التي ارتكز عليها انقلاب 1980، ومع قدوم حزب العدالة والتنمية للسلطة وتبينه سياسات أفضت إلى انفتاح تركيا على قضايا الشرق الأوسط، نال حضور القضية الفلسطينية دفعة إضافية على المستوى الشعبي أجبر الأحزاب السياسية التركية على التعامل معها كمسلمة يجب التعامل معها، فخلال الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة التي تزامنت مع نقل السفارة شكّلت القضية الفلسطينية مادة للمزايدة بين مرشحي الرئاسة التركية.
نجم الدين أربكان خلال مظاهرات مدينة قونيا 1980
الوجود الفلسطيني في تركيا في عين الاستهداف
أدت المكانة الكبيرة التي حققتها القضية الفلسطينية في تركيا خلال السنوات الأخيرة إلى جعلها محط الاستهداف الإسرائيلي الذي يرى في الوجود الفلسطيني في الساحة التركية مصدر تهديد لما تمتلكه الساحة التركية من ممكنات عمل على رأسها العمق الشعبي والرسمي الذي تحظى به القضية الفلسطينية.
وأمام هذه المعطيات، تشهد الساحة التركية في الشهور والأيام الأخيرة حالة من الاستهداف الممنهج والمقصود للوجود الفلسطيني في تركيا وخاصة السياسي منه، حيث تجلى ذلك في مستويين أساسيين:
المستوى الأول: يتمثل في محاولات نزع الشرعية السياسية عن الوجود الفلسطيني من خلال تجريمه أمام الدولة التركية ابتداءً، والمجتمع الدولي لاحقًا، وذلك من خلال إلصاق تهم “الإرهاب” على نشاطات وفعاليات الوجود الفلسطيني في تركيا، واتهامها بالإخلال بالأمن العام لدول المنطقة.
حيث جاءت عدد من الحوادث كشواهد على هذا التوجه، ومنها ما نشره الإعلام الإسرائيلي من تصريحات تتهم حركة حماس باتخاذ الأراضي التركية كمركز للتجسس على الدول المجاورة والتخطيط لشن هجمات مسلحة بحق عدد من الجهات السياسية المختلفة.
يأتي البيان الذي وقعت عليه عدد من الفصائل الفلسطينية في سياق غير مفهوم، فالفصائل الكردية التي تقاتلها تركيا تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وتحظى بدعم “إسرائيل” وتحمل أطروحات وأفكار تنادي بتقسيم الأراضي السورية
المستوى الثاني: وهو المستوى الأخطر من عمليات الاستهداف ويتمثل في محاولة زعزعة المكانة المميزة التي حققتها القضية الفلسطينية لدى شرائح واسعة في المجتمع التركي من خلال محاولات الزج باسم القضية الفلسطينية في عدد من الموضوعات الخلافية داخل الشارع التركي، وذلك من خلال تمويل عدد من المواقع الإخبارية والصفحات الإلكترونية المتحدثة باللغة التركية، كما تنشط هذه الجهود على وسائل التواصل الاجتماعي التركية، فخلال اليوم الثاني لعملية نبع السلام تصدر هاشتاغ “Filistin” تويتر التركي، بعد شائعات تحدثت عن إدانة فلسطين للعملية العسكرية التركية، ومشاركتها في التوقيع على بيان جامعة الدولة العربية المدين للعملية.
بيان الفصائل والشارع الفلسطيني
أمام هذه المعطيات وغيرها، يأتي البيان الذي وقعت عليه عدد من الفصائل الفلسطينية في سياق غير مفهوم، فالفصائل الكردية التي تقاتلها تركيا تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وتحظى بدعم “إسرائيل” وتحمل أطروحات وأفكار تنادي بتقسيم الأراضي السورية وإنشاء كيان مستقل على الأراضي التي تسيطر عليها وهذا ما يجعله محل رفض من كل أطراف الأزمة السورية وعلى رأسها النظام السوري وإيران.
كما أن التدخل التركي في الأراضي السورية لم يكن الأول والوحيد، فقد سبقه تدخل إيراني وروسي وأمريكي مما يدعو إلى مزيد من الاستغراب عن الأسباب التي دفعتها لإصدار هذا البيان والموقف.
أما على صعيد تفاعل الشارع الفلسطيني مع بيان الفصائل، فقد هاجم عدد كبير من النشطاء والمغردين موقف الفصائل الفلسطينية متذكرين موقف منظمة التحرير من غزو الكويت وانعكاساته على المجتمع الفلسطيني هناك، حيث استغرب الباحث والكاتب صداق أبو عامر قائلاً “إدانة بعض الفصائل الفلسطينية للعملية العسكرية التركية شمال سوريا #نبع_السلام دون التطرق للوجود العسكري الأمريكي غير الشرعي ودعمه لمليشيات انفصالية تهدد وحدة سوريا يؤكد أن جزءًا من الحالة الفلسطينية بات قرارها مختطف لصالح عواصم قوى الثورة المضادة التي تتحرك بدورها على إيقاع المايسترو الإسرائيلي”.
أما الصحفي الشاب محمد النعامي فأكد “الحكومة الفلسطينية خطت خطوة بالاتجاه الصحيح بالامتناع عن اتخاذ موقف بخصوص العملية التركية ضد الأكراد ولكن الفصائل الفلسطينية ضربت بعرض الحائط مصالح الشعب الفلسطيني واتخذت مواقف رسمية بين مؤيد ومعارض (حسب مصدر التمويل)، لنتذكر ما فعله الموقف الفلسطيني بخصوص غزو الكويت بنا في الخليج”.
وبدروه هاجم الصحفي الفلسطيني إسماعيل كايا، الفصائل الفلسطينية الموقعة على البيان متهمًا إياها بالغباء السياسي، وعدم مراعاة حال “عشرات آلاف الفلسطينيين من طلاب ومرضى وجرحى يتعالجون في مستشفياتها وعاملين في مجالات مختلفة”.
ختامًا، كان الأولى بالفصائل الفلسطينية الموقعة على البيان الاتعاظ من حركة التاريخ والنأي بالشعب الفلسطيني وقواه السياسية عن الدخول في مراهنات سياسية غير محسوبة العواقب والنتائج، فالواجب صنعه هو النظر بجدية وشمولية لمصالح الشعب الفلسطيني والعمل على تعزيزها، وتحصينها شعبيًا ومجتمعيًا من خلال تطوير سياسات منفتحة على كل الأطراف بما يضمن حضور القضية الفلسطينية في جميع المحافل والمواقع، ومن غير أن تخلّ بثوابتها.