أوراق من القرن الثالث الهجري، وحقيبة يتمناها طبيب أو رجل أعمال في عصرنا، وبيوت وإكسسوارات وملابس من العصر المملوكي أو ربما من فيكتوريا سيكريت، وأخطاء في رسم شخصيات الصحابة، ولغة غير مناسبة لعصر وقوع الأحداث، وقبل كل ذلك أخطاء تاريخية ومحاولة لرسم شخصية “معاوية بن أبي سفيان” تميل حتى الآن إلى جعلها مثالية، أو على الأقل تعطيها حجمًا لا يتناسب مع دورها الحقيقي في صدر الإسلام.
ما سبق هو خلاصة ما يمكن قوله بعد مشاهدة كاتب هذه السطور لـ 4 حلقات من مسلسل “معاوية” الذي أنتجته شبكة إم بي سي السعودية، ممثلة في MBC Studios، بتكلفة إنتاج بلغت 100 مليون دولار، ليصبح ضمن أضخم الأعمال العربية إنتاجيًا إن لم يكن أضخمها على الإطلاق.
المسلسل كان حظه جيدًا، بسبب الدعاية المجانية التي سبقت عرضه، حتى ولو كانت دعاية سلبية، فقد لفتت الأنظار إليه وجعلت الجميع يرقبه بعد أن منعت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية عرضه، ومنع أو تحريم الأزهر الشريف -ممثلًا في هيئة كبار العلماء ولجنة الفتوى– له.
فقرارات المنع في عصر الفضائيات والإنترنت لا قيمة مادية لها، ناهيك عن فضول المشاهد لمتابعة هذا الممنوع، وبالتالي حقق الهجوم على المسلسل دعاية كبيرة له.
هذه الدعاية لو صادفها منتج جيد كانت الفائدة ستكون كبيرة، لأن المسلسل الذي يجسد كبار الصحابة وحياتهم لم يأت على قدر الطموح الفني، وبدا وكأن الجهة التي تنفق على إنتاج العمل أو تدير إنتاجه تفرض رؤيتها ووجهة نظرها على القائمين عليه، ما جعل مخرج المسلسل طارق العريان ينسحب منه، ويطلب حذف اسمه من على التتر.
لم يعلن طارق العريان سبب انسحابه، ولكن أحمد مدحت الذي أكمل العمل من بعده، قال إن جهة الإنتاج تدخلت في مشاهد المسلسل بشكل واسع وعدلت في بعضها وحذفت أخرى، وفقا لرؤيتها.
ووفقا لهذه التصريحات، نستطيع القول إنّ ما قُدِّم هو الرؤية الخاصة بشبكة إم بي سي السعودية، وأن القائمين على الإخراج والكتابة كان دورهم ثانويًا.
العمل ألفه عدد من الكتاب وهم: محمد اليساري، خالد صلاح، بشار عباس، غمار محمود، أحمد حسني، ولم يعلن عن الشخص الذي يقود هذه الورشة من كتاب متنوعي الاتجاهات بين الكتابة الصحفية والرواية والسيناريو، ما يدعم فكرة أن جهة الإنتاج نفسها هي التي هيمنت برؤيتها الذاتية على الرسالة التي تريد بثها في قلوب وعقول المشاهدين.
المسلسل جاء مبهرًا في تكوينه البصري والصوتي، بصرف النظر عن مدى مناسبة هذا الابهار للدراما نفسها، لكن يبقى المستوى عالميًا في التنفيذ.
لكن المسلسل هو دراما تاريخية تتناول أهم مراحل التاريخ الإسلامي وأكثرها قداسة، تتناول أعز وأهم شخصيات التاريخ بالنسبة للمسلمين، وبالتالي فإن المراجعة التاريخية للدراما ليست مسألة ثانوية هنا، بل أساسية.
في السطور التالية نتناول أبرز ما رصدناه من أخطاء في المسلسل من واقع الحلقات الأربع الأولى له، من حيث الوقائع والأحداث بما تشتمل عليه من أداء لغوي ومن موثوقية أحداث، ومن حيث الرؤية الإخراجية وتنفيذها وملاءمة الشخصيات لها، ناهيك عن الحبكات والتتابع الدرامي.
تضخيم دور معاوية: مسلم قبل الفتح وقائد في اليرموك
حاول القائمون على العمل تضخيم دور معاوية بن أبي سفيان، في الفترة الإسلامية الأولى، عن طريق نسج روايتين دراميتين إيحائيتين عنه خلال العمل.
الأولى: توحي بأنه كان مسلما قبل فتح مكة، والثانية توحي بأنه كان من كبار القادة العسكريين والسياسيين خلال خلافة أبي بكر وبدايات خلافة عمر بن الخطاب.
موعد إسلام معاوية بن أبي سفيان محل خلاف، بين رأي يقول بأنه كان من الطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة، وآخر يقول إنه كان قد أسلم قبل الفتح ولكنه كان يكتم إسلامه.
يقول ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” عن معاوية: “وأما إسلامه عام الفتح (فتح مكة) مع من ذُكِر، فمتفق عليه بين العلماء، سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلامه إلا عام فتح مكة”.
الرواية التي تقول إن معاوية أسلم قبل فتح مكة، تستند إلى ما حكاه معاوية نفسه والتي نقلها الواقدي، ومفادها أن الإسلام وقع في قلبه في عام الحديبية، وعلمت أمه وأبوه بذلك وغضبا منه، ويوم فتح مكة قابله النبي ورحب به.
لكن شمس الدين الذهبي يشكك في الرواية ويسوق حجة قوية لدحضها، ويؤكد أن معاوية كان من الطلقاء يوم مكة، حيث يقول في “سير أعلام النبلاء”: “الواقدي لا يعي ما يقول، فإن كان معاوية كما نقل قديم الإسلام، فلماذا يتألفه النبي؟”، أي إذا كان معاوية قد أسلم قبل فتح مكة فلماذا كان يعتبره النبي من المؤلفة قلوبهم الذين يعطيهم أموالا ليحببهم في الإسلام.
وكان النبي قد أعطى معاوية مائةً من الإبل وأربعين أوقية من الذهب بعد غزوة حنين، تأليفا لقلبه على الإسلام وفقًا للواقدي نفسه الذي نقل رواية إسلامه قبل الفتح.
ما سقناه قد يجعل الرواية الأرجح هي أنه أسلم عام الفتح، وليس قبله، ومع ذلك تبنى المسلسل سياقا دراميا يعضد من الرواية الضعيفة.
موعد إسلام معاوية بن أبي سفيان محل خلاف، بين رأي يقول بأنه كان من الطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة، وآخر يقول إنه كان قد أسلم قبل الفتح ولكنه كان يكتم إسلامه
ففي المسلسل ينادي صبيا في الشوارع: “جيش محمد قادم، من دخل المسجد فهو آمن، من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، وخلال هذا النداء كانت الكاميرا تصور معاوية (الفنان لجين إسماعيل) وهو يتوضأ ويصلي.
وسبق هذا المشهد مشاهد أخرى لم تقل صراحة إن معاوية قد أسلم، ولكنها تومئ بذلك، حيث دار بينه وبين أمه هند بنت عتبة (الفنانة سهير بن عمارة) حوارا دراميا يقول لها فيه:
بني أمية لم يتأخروا عن أمر إلا اتباع محمد، فلا يعقل أن يكون كل قريش على صواب وتؤمن بمحمد ما عدا بني أمية.
فردت عليه هند بشراسة: أتدرك شر ما تقول، واللات والعزى أهون عليّ أن تتبع محمدًا بعدما فعل بنا ما فعل.
مشهد آخر يشير إلى ذلك، وهو يوم إعدام الصحابي خبيب بن عدي بن مالك بن عامر الأنصاري في مكة، بحضور أبي سفيان ومعاوية، حيث كان خبيب يدعو على قريش بالهلاك، فرد أبو سفيان وأمر السياف بقتله سريعًا، قائلًا: “اقتله قبل أن يصيبنا دعاؤه”.
ويُتبع هذا المشهد بآخر للصبي معاوية وهو يقول لأبيه: لم نكذب محمدًا وأصحابه إن كنت توقن أن دعاءهم يصيبنا، وصوتهم يصل إلى السماء فيستجاب له؟
وهذان المشهدان غير حقيقيان، فالرواية التي يوردها ابن هشام في سيرته عن إعدام أو ضرب عنق خبيب، تقول نقلًا عن معاوية نفسه:
حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقًا من دعوة خُبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دُعي عليه، فاضطجع لجنبه زلّت عنه.
أي أن ما حدث هو أن معاوية كان بصحبة أبيه وقت إعدام خبيب، وحين دعا عليهم، طرحه أبوه أرضًا وأنامه على جنبه، لأن قريشا كانت تعتقد أن من اضجع على جنبه لا تصيبه دعوة الداعي عليه.
ولم تورد الرواية أي شيء عن معاتبة معاوية لأبيه، بل يقول ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: “بعض الكذابين زعم أنه -معاوية- عَيّر أباه بإسلامه، وهذا كذب بالاتفاق من أهل العلم بالحديث.
وكل هذه المشاهد تبدو منصبة حول هدف واحد، وهي الإيماء بأن معاوية كان مسلمًا قبل فتح مكة، وكان يلوم أباه وأمه لأنهم لم يسلموا، على خلاف ما ذكرناه نقلًا عن ابن تيمية والذهبي.
وبعد فتح مكة يواصل صناع المسلسل محاولتهم لتحميل معاوية أكثر مما يحتمل، ولاسيما أثناء الغزوات، بمحاولة إبراز دوره دراميًا بشكل أكبر مما تؤكده الوقائع التاريخية.
كأن مؤلف المسلسل، بعد أن ضخم من حقيقة إسلام معاوية المبكر، يحاول تضخيم حجم معاوية السياسي والعسكري، بين مجتمع الصحابة الكبار، ويعطيه دورًا أكبر بكثير من دوره في ذلك الوقت
فلم يكن معاوية ضمن قادة جيوش فتح العراق أو الشام في عهد أبي بكر، ومع ذلك نجده في المسلسل يحضر مجلس استراتيجي يجتمع فيه الخليفة أبو بكر بعمر بن الخطاب و3 آخرين من كبار الصحابة (أهل الحل والعقد)، ليتشاوروا فيما يفعلوا بعد انتهاء حروب الردة.
ويتكلم معاوية في هذا المجلس (رغم أنه لم يكن من أهل الحل والعقد) ويوصي أبا بكر بإرسال سرايا لاستطلاع أراضي الفرس والروم، وأن يتدرب المسلمون على القتال في السهول والأودية والمستنقعات التي توجد في الشام والعراق ولا توجد بين جزيرة العرب.
وكأن مؤلف المسلسل، بعد أن ضخم من حقيقة إسلام معاوية المبكر، يحاول تضخيم حجم معاوية السياسي والعسكري، بين مجتمع الصحابة الكبار، ويعطيه دورًا أكبر بكثير من دوره في ذلك الوقت؛ فهذا المجلس لو حدث، يفترض أن يحضره أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والقعقاع بن عمرو، لأنهم قادة الجيوش التي وجهها أبو بكر إلى الشام والعراق، حسبما تتفق المصادر، ولكننا لا نجد أغلبهم في المشهد، ونجد معاوية هو الذي يتكلم ويوصي الخليفة أبا بكر.
مشهد آخر ينعقد فيه مجلس حرب بين قادة الجيوش أثناء موقعة أجنادين، وهم: خالد بن الوليد، وأبو عبيدة، وعمرو بن العاص، ومع ذلك يحضره معاوية الذي لم يكن ضمن قادة المعركة، كما هو ثابت تاريخيًا.
مجلس حرب آخر للتحضير لمعركة اليرموك، وخلاله يتحدث خالد بن الوليد، القائد العام للجيش، ويعطي المهام إلى أبو عبيدة بن الجراح ليتولى قيادة منطقة الوسط، وإلى عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة لتولي الميمنة، وإلى يزيد بن أبي سفيان ليتولى الميسرة، على أن يتولى خالد قيادة فرقة خيالة سريعة ومعه زراز ابن الأزور لتساند أي ضعف في صفوف الجيوش.
مشهد مجلس الحرب يفترض أنه مغلق على قادة الجيش فقط، ولكننا نجد شخصين آخرين -فقط- دخيلان عليهم، وهما معاوية ووالده أبو سفيان، اللذان تركز عليهما الكاميرا في محاولة للإيماء للمشاهد بأن دورهما كان قياديًا في “اليرموك”.
صحيح أنهما حضرا المعركة، وقيل إن أبا سفيان فقأت عينه خلالها، حسبما يشير ابن حجر العسقلاني في “الإصابة في تمييز الصحابة”، وغيره، ولكن أبا سفيان أو معاوية لم يكونا من القادة، بل إن أخيه يزيد ابن أبي سفيان هو الذي كان من القادة وليس هو.
أخطاء إخراجية: ثياب عمر المرقعة ولغة أهل الشام وأوصاف الصحابة
كثير من النشطاء والنقاد يتناولون يوميًا أخطاءً إخراجية وتاريخية، وسنحاول فيما سنعرض الابتعاد عنها، والتركيز على أخرى، ومنها أخطاء مبدئية في اختيار الشخصيات نفسها، بجانب أخطاء في السياق التاريخي، بجانب اللغة.
مصادر التاريخ تركت أوصافًا للصحابة حين نطبقها على من هم في المسلسل نجد خللًا في بعضها، منها مثلًا أن عمر بن الخطاب كان بائن الطول، أي طويل بشكل مبالغ فيه (يفوق الناس طولًا)، وكان أصلع الرأس بل شديد الصلع، كبير اللحية، والبعض قال إن في أطرافها صهبة، أي لون أصفر مخلوط بحمرة وبياض، بحسب “تاريخ الخلفاء” للسيوطي، الذي نقل عن ابن سعد، والحاكم، وابن عساكر وغيرهم.
وهذه الأوصاف لا تنطبق على الشخصية التي رسموها في المسلسل، والتي أداها الفنان سامر المصري، وهو ليس بائن الطول بل متوسط، ولحيته كانت مهذبة صغيرة، ولم يبدُ أصلع الشعر أبدًا.
من ذلك أيضًا أن الصحابي أبو عبيدة عامر بن الجراح كان أهتمًا، بعد أن كسرت أسنانه الأمامية وهو ينزع حلقتين من المخفر في وجنتي النبي، يوم غزوة أحد، حسبما تنقل المصادر، ومنها سيرة ابن هشام، وهو ما لم يتوفر في الفنان الذي أدى الدور.
أحسن المخرج في جعل الشخصية التي تؤدي دور الصحابي عبد الرحمن بن عوف بها عَرَج، فقد كان قد أصيب يوم أحد إصابة جعلته يعرج باقي حياته، حسبما يشيع بين المصادر، ومنها “سير أعلام النبلاء”، ولكن الخطأ أن عبد الرحمن كان أيضًا قد فقد مقدمة أسنانه يوم أحد، وهو ما لم يظهر في الشخصية التي أدت دوره.
كذلك يفهم من كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي أن هند بنت عتبة والدة معاوية كانت سمينة ممتلئة الجسد، وهو أمر لم يتوفر في الفنانة سهير بن عمارة التي أدت دورها.
أما عن المشاهد نفسها، فلعل ما لم يلتفت إليه كثيرون هو مشهد مسير عمر بن الخطاب إلى إيلياء أو القدس، فلم يكن الفنان سامر المصري يرتدي ثوبًا مرقعًا، ولم يكن راكبًا جملًا، ولم تكن فيه كثير من الأوصاف التي تركتها لنا المصادر.
يكفي أن ترى مشهد مسير عمر إلى إيلياء، ومشهد دخوله إليها في المسلسل، ثم تقرأ النص التالي لتلمس الفارق الكبير بين المسلسل والتاريخ.. ينقل ابن كثير في “البداية والنهاية” عن أبي العالية الشامي:
قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحْل بلا ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف، هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا، هي حقيبته إذا ركب، ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد دسم وتخرق جيبه.
فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس، فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه، وأعيروني قميصًا أو ثوبًا.
فأتي بقميص كتان فقال عمر: ما هذا؟ قالوا: كتان. قال: وما الكتان؟ فأخبروه، فنزع قميصه فغسل ورقع، وأتي به، فنزع قميصهم ولبس قميصه.
فقال له الجلومس: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل. فأتى ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فركبه فقال: احبسوا احبسوا، ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا، هاتوا جملي، فأتي بجمله فركبه.
أخيرا أظهر المسلسل أهل الشام يتكلمون اللغة العربية بنفس لهجة أهل قريش، وذلك في اجتماعات معاوية في دمشق مع أعيان وتجار المدينة، وفي مشاهد كثيرة أخرى، وهو أمر يخالف الحقيقة التاريخية تمامًا.
في هذا التوقيت، وقت فتح المسلمين لدمشق وبلاد الشام، لم تكن لغة أهل الشام هي العربية، وإن سكنت قبائل عربية في الشام، وإن قامت إمارة عربية في جنوبي شرق الشام (الغساسنة).
فحتى لغة الغساسنة (عرب الشام) كانت خليطًا بين اللغة العربية واللغة الآرامية، ولم تكن عربية سليمة، وكانوا يرتبطون بسوريا أكثر من ارتباطهم بشبه الجزيرة العربية، حسبما يخبرنا أحمد أمين في كتابه “فجر الإسلام”.
ويوضح أحمد أمين أن لغة أهل دمشق وأهل الشام عمومًا باستثناء عربهم تنوعت بين الآرامية واليونانية، ولكن بعد دخول الإسلام أخذوا يتعلمون اللغة العربية تدريجيًا، وما يدل على ذلك ماديا وجود قرى سورية حتى الآن تتكلم اللغة الآرامية.
عمل بهذا الحجم وهذه الحساسية الدينية والتاريخية، كان يمكن أن يكون أدق من ذلك بكثير، خاصة وأن بعض المشاهد أقل درامية وأقل إثارة من النص التاريخي نفسه
قد يرد صناع المسلسل بأن توحيد اللغة هدفه تبسيط السياق الدرامي، ولكن المسلسل لم يلتزم بذلك، فهناك مشاهد تظهر لغتين للحوار وترجمة، منها مثلا مشهد أبو سفيان وهو يتحدث إلى هرقل، وبالتالي كان من الأدق أن يراعي المسلسل ذلك، ويظهر التنوع اللغوي بين سكان بلاد الشام وقتها.
فاللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب والتواصل، فهي في أحد جوانبها تعبير عن أحوال الناس وثقافتهم، وهي في ذاتها جزء من التاريخ ومن التراث، وقد وجهت انتقادات كثيرة لصناع المسلسل تتهمه باستخدام لغة لا تليق بالحقبة الزمنية التي تناولها، ومنها مثلا قول “هند بنت عتبة” لمعاوية وهو رضيع مولود: أنت أعظم إنجازاتي! وهي عبارة غير مستساغة أو شائعة وقتها على ألسنة الناس، بل هي من الجمل المستخدمة في عصرنا الحالي.
أخيرا فإن ما سقناه ليس هو فقط ما وجه للمسلسل من انتقادات، فقد اتهم باستخدام ديكور وأزياء تعود للعصر المملوكي وليس الجاهلية وصدر الإسلام، منها استخدام الورق السمرقندي الذي يعود للقرن الثالث الهجري، وليس إلى القرن الأول، واستخدام الطبيب الذي يعالج ابن معاوية لحقيبة تبدو وكأنها تعود إلى زماننا، واتهم كذلك بالقفز بالأحداث سريعًا دون تمهيد، بشكل مربك للجمهور يجعله يتوه بين الأحداث.
عمومًا، لا يوجد عمل فني يخلو من نواقص أو يسلم من نقد، وخاصة المسلسلات التاريخية التي يسهل المقارنة بينها وبين ما يقوله التاريخ، ولكن عمل بهذا الحجم وهذه الحساسية الدينية والتاريخية، كان يمكن أن يكون أدق من ذلك بكثير، خاصة وأن بعض المشاهد أقل درامية وأقل إثارة من النص التاريخي نفسه، كما مشهد دخول عمر بن الخطاب إلى القدس، بشكل يحيلنا إلى اتهام القائمين إنتاجيًا على المسلسل بالتقصير، سواء كان التقصير عمدًا كما يرى البعض، أو سهوا كما هو الحال في أي منتج بشري.