تتجه الإدارة الجديدة في دمشق بخطى متسارعة للحفاظ على السلم الأهلي بعد أحداث الساحل السوري الذي شهد إثارة نعرات طائفية تمددت إلى ارتكاب انتهاكات بحق مدنيين، على خلفية تمرد قاده ضباط وعناصر من فلول النظام السابق طال قوى الأمن العام وقوات الجيش والمرافق الخدمية العامة.
وشكل استمرار هجمات فلول النظام في محافظتي اللاذقية وطرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، منذ 6 مارس/أذار الجاري، وارتباطاتها الإقليمية والدولية، تحدٍّ أمام إدارة دمشق القائمة على أنقاض بلاد منهكة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، تكافح للنهوض فيها تحت سطوة ضغوط داخلية وخارجية.
وأمام معترك تداعيات الهجمات في الساحل السوري وأصداء داخلية وخارجية تقوض جهود الحفاظ على وحدة سوريا على حساب إثارة الحروب الأهلية، اتخذت إدارة دمشق خطوات جدية تهدف إلى بسط الأمن والاستقرار بين المجتمعات المحلية وتعزيز السلم الأهلي في الساحل السوري.
إرساء الأمن والاستقرار
موجة تحريض ممنهجة من قبل حسابات منظمة على منصات التواصل الاجتماعي، تزامنت مع هجمات فلول النظام السابق، تهدف إلى إثارة قلاقل طائفية، وتوجيه الرأي العالمي والعربي حول التطورات التي يشهدها الساحل السوري، في محاولة من فلول النظام للاستفادة من الانتهاكات، غير المبررة، لصالحهم.
لكن على الجانب الآخر، نشبت خطابات ودعوات موازية تحت عنوان “الفزعة” لمساندة قوى الأمن العام التي تعرضت لهجمات في 6 من مارس/أذار الجاري راح ضحيتها أكثر من 250 عنصرًا، ما دفع إلى توجه مجموعات بينها حشود شعبية مسلحة، غير منظمة، ومقاتلين آخرين، غير سوريين، إلى الساحل السوري، للمشاركة في ردع الفلول، ما أدى إلى ارتكاب انتهاكات بحق المدنيين.
ورغم صعوبة تحديد الجهات المسؤولة عن الانتهاكات التي طالت المدنيين في الساحل السوري، تتجه أصابع الاتهام نحو فلول النظام السابق، نظرًا لدورهم في شن هجمات استهدفت مستشفيات عامة ومرافق حيوية أخرى، كما تشير التقارير إلى تورط مجموعات محسوبة على الفصائل العسكرية في هذه الانتهاكات، مما يزيد من تعقيد المشهد.
وفي ظل التطورات المتسارعة، تكفلت قوى الشرطة والأمن العام في وزارة الداخلية، ووحدات الجيش في وزارة الدفاع في فرض الأمن والاستقرار ضمن الحواضر السكانية الكبيرة، اللاذقية، وجبلة والقرداحة، وطرطوس، بانياس.
كما ترافقت مع إجراء جولات ميدانية من قبل القوى الأمنية والعسكرية على المجتمعات المحلية في مدن وبلدات شهدت انتهاكات بحق المدنيين، ونشرت أرقام تواصل لمكافحة التجاوزات، كما نشرت حواجز على طرقات رئيسية بهدف استعادة ممتلكات خاصة مسروقة من المواطنين.
وأعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع السورية، المقدم حسن عبد الغني، انتهاء المرحلة الأولى في استعادة الأمن والاستقرار في مدن الساحل، وبدء المرحلة الثانية، عبر عمليات أمنية وعسكرية تهدف إلى ملاحقة فلول وضباط النظام السابق في الأرياف والجبال التي تتخذها مقارًا لتنفيذ هجماتها ضمن المدن.
بعد استعادة الأمن والاستقرار في مدن الساحل، البدء في المرحلة الثانية التي تهدف إلى ملاحقة فلول وضباط نظام الأسد البائد في الأرياف والجبال pic.twitter.com/CuYVhkVwqW
— العقيد حسن عبد الغني (@hasanabdalgany) March 9, 2025
وأكد عبد الغني أن القوات السورية وضعت خططًا محكمة تهدف إلى فرض طوق على العناصر الفارة لضمان القضاء الكامل على أي تهديد أمني، وطالب الأهالي بالابتعاد عن مناطق العمليات العسكرية حفاظًا على سلامتهم.
وفي السياق ذاته، أكد قائد شرطة اللاذقية، المقدم مصطفى صبوح، عودة الحياة الطبيعية إلى أدراجها في اللاذقية وضواحيها، بعد العمليات العسكرية والأمنية التي جرت مؤخرًا، مشيرًا إلى أن وزارة الداخلية، ألقت القبض على عشرات العناصر من فلول النظام وحيدت آخرين، حسب تصريح لوكالة الانباء الرسمية “سانا”.
خطابات وازنة واتصالات مباشرة
لم تقتصر محاولات إدارة دمشق في فرض الأمن والاستقرار داخليًا، وإنما امتدت إلى وقوف مباشر على التطورات التي يشهدها الساحل السوري، حيث كثف الرئيس السوري، أحمد الشرع، ظهوره الإعلامي، وهذا يخالف ما اعتاد عليه السوريون من قبل سلطة نظام الأسد طيلة عقود ماضية.
بعد 24 ساعة على أحداث الساحل ظهر الشرع في تسجيل مصور، الجمعة 7 مارس/أذار، مع انكشاف حجم الانتهاكات بحق المدنيين، وتوسع الاختراق الأمني في الساحل السوري.
وفي أثناء تأديته صلاة الفجر، الأحد 9 مارس/أذار، في مسجد الأكرم ضمن حي المزة الدمشقي؛ ألقى الشرع كلمة طمأن خلالها السوريون حول الأحداث الدموية التي تشهدها البلاد.
كما نشر حساب رئاسة الجمهورية على منصة “إكس”، كلمة مصورة للشرع، أكد خلالها، أن المخاطر التي تواجهها سوريا ليست مجرد تهديدات عابرة، “بل هي نتيجة مباشرة لمحاولاتٍ انتهازيةٍ من قِبلِ قوىً تسعى إلى إدامةِ الفوضى، وتدميرِ ما تبقى من وطنِنا الحبيب”.
وأوضح الشرع في كلمته الأخيرة أن ما يحصل في بعض مناطق الساحل السوري ليست الأولى، وإنما حدثت قبل شهر ونصف واستطاعت الدولة اخمادها.
وأكد أن الدولة السورية لن تتسامح مع فلول الأسد الذين هاجموا قوى الأمن العام والشرطة والمدنيين، وعليهم تسليم أنفسهم فورًا؛ كما توعد بمحاسبة “كل من تورط في سفك الدماء أو استغل السلطة، فلا أحد فوق القانون”.
كلمة رئيس الجمهورية العربية السورية حول المستجدات الأخيرة في الساحل السوري #رئاسة_الجمهورية_العربية_السورية pic.twitter.com/zfOMEQIFZC
— رئاسة الجمهورية العربية السورية (@G_CSyria) March 9, 2025
وفي السياق ذاته، قدم الشرع تعازيه للناشطة السورية، هنادي زحلوط، خلال اتصال هاتفي، بعدما فقدت ثلاثة من إخوتها خلال أحداث الساحل السوري.
ونشرت الناشطة المقيمة في فرنسا، على صفحتها في منصة “فيسبوك”، أن الشرع عبر عن مواساته لعائلتها ولكل أهالي الضحايا، وأكد، تشكيل لجنة تحقيق تضم مجموعة من القضاة لمحاسبة المسؤولين عن الحادثة، وعبرت عن دعمها للجنة، واستعدادها للتعاون في تقديم شهادات ذوي الضحايا لتأخذ العدالة مجراها ويكون القانون سيدًا في سوريا.
وكانت الناشطة نعت إخوتها، أحمد وعبد المحسن، وعلي زحلوط، خلال بوست على صفحتها، جاء فيه أنهم: “قُتلوا أمس ونحتسبهم عند الله شهداء مع عشرات من رجال القرية الذين اقتيدوا من بيوتهم وتم إعدامهم ميدانيًا”. وختمت قائلةً: “نطلب فقط حماية حياة من تبقى من نساء وأطفال، أن نستطيع دفن موتانا”.
تشكيل لجنة تحقيق مستقلة
في مسار موازي لجهود إدارة دمشق في تحقيق السلم الأهلي ومحاسبة الجناة الذين أجرموا بحق المدنيين في الساحل السوري، أصدر الرئيس الشرع، قرارًا رئاسيًا، نص على تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل التي وقعت في 6 مارس/أذار الجاري.
وتتألف لجنة التحقيق، من قضاة ومحامين، هم القاضي جمعة الدبيس العنزي، والقاضي خالد عدوان الحلو، والقاضي علي النعسان، والقاضي علاء الدين يوسف لطيف، والقاضي هنادي أبو عرب، والعميد عوض أحمد العلي، والمحامي ياسر الفرحان.
قرار رئاسي بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري#رئاسة_الجمهورية_العربية_السورية pic.twitter.com/DMYEt4rizL
— رئاسة الجمهورية العربية السورية (@G_CSyria) March 9, 2025
وتضمنت مهام اللجنة “الكشف عن الأسباب والظروف والملابسات التي أدت إلى وقوع تلك الأحداث”، إضافة إلى “التحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون وتحديد المسؤولين عليها”، و”التحقيق في الاعتداءات على المؤسسات العامة ورجال الأمن والجيش وتحديد المسؤولين عنها”، وإحالة كل “من يثبت تورطهم بارتكاب الجرائم والانتهاكات إلى القضاء”.
ونص القرار على منح اللجنة الأحقية في الاستعانة بمن تراه مناسبًا لأداء مهامها، مشيرًا، إلى رفع تقارير التحقيقات إلى رئاسة الجمهورية في مدة أقصاها ثلاثون يومًا من تاريخ صدور القرار.
وأشاد سوريون في نزاهة الشخصيات التي اختيرت لإجراء التحقيقات على مواقع التواصل الاجتماعي، كونهم خبراء وأكاديميون يسعون إلى تحقيق العدالة طيلة سنوات عملهم السابقة.
وينحدر القاضي المنشق عن النظام السابق، منذ عام 2012، جمعة العنزي، من الرقة، وحاصل على إجازة في الحقوق، وماجستير في القانون الجزائي، ويشغل عضوًا مؤسسًا في مجلس القضاء السوري، وعضو مشارك في منظمة العفو الدولية، وعضو نقابة المحامين سابقًا.
أما القاضي والمستشار القانوني، خالد الحلو، ينحدر من الحسكة، وشغل منسق مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية، بينما القاضي علي النعسان، من حلب، ويحمل إجازة في الحقوق.
كما تضمنت اللجنة القاضي هنادي أبو عرب، وهي حاصلة على إجازة في الحقوق، ودكتوراه في القانون الجنائي، وماجستير في القانون، وشغلت منصب مستشارة في الهيئة الاستشارية السياسية لمجلس الوزراء بين عامي 2003 و2011، وقاضية صلح أولى، وقاضية بداية مدنية، وعضو هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية.
بينما العميد أحمد العلي، حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، شغل رئيس فرع الأمن الجنائي في دمشق، قبل انشقاقه عن النظام السابق في عام 2012، وشكل مطلع عام 2013 لواء درع الراية للعمل ضد النظام إلى جانب الجيش السوري الحر.
في حين ينحدر المحامي ياسر الفرحان من الحسكة، وحاصل على إجازة في الحقوق، وتنقل بين عدة مناصب في الائتلاف، حيث شغل عضو الهيئة السياسية، واللجنة القانونية، ورئيس اللجنة القانونية لوفد أستانا، ومستشار الهيئة العليا للمفاوضات.
لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي
وإلى جانب اللجنة السابقة، أصدر الرئيس أحمد الشرع قرارًا رئاسيًا يقضي في تشكيل “لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي” في الساحل السوري، وذلك بالاستناد على المصلحة الوطنية، والتزامًا بتحقيق السلم الأهلي بين مكونات الشعب السوري.
وتتألف لجنة السلم الأهلي من ثلاث شخصيات، حسن صوفان، وأنس عيروط، وخالد الأحمد، بينما تتضمن مهامها، التواصل المباشر مع الأهالي في الساحل السوري والاستماع إليهم، وتقديم الدعم اللازم لهم بما يضمن حماية أمنهم واستقرارهم، والعمل على تعزيز الوحدة الوطنية في المرحلة الحساسة.
قرار رئاسي بتشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي#رئاسة_الجمهورية_العربية_السورية pic.twitter.com/YjBPg3KxAT
— رئاسة الجمهورية العربية السورية (@G_CSyria) March 9, 2025
وينحدر حسن صوفان من محافظة اللاذقية، وحاصل على بكالوريوس في الاقتصاد، واعتقل على يد نظام الأسد في سجن صيدنايا وخرج في صفقة تبادل أسرى عام 2016، وقاد حركة أحرار الشام الإسلامية، وعين محافظًا للاذقية بعد سقوط النظام البائد.
بينما ينحدر أنس عيروط، من مدينة بانياس في طرطوس، وحاصل على إجازة في الشريعة، ودكتوراه في الاقتصاد الإسلامي، وتولى رئاسة مجلس قيادة الثورة في بانياس، وترأس محكمة الاستئناف في وزارة العدل بحكومة الإنقاذ في إدلب، وكلف بعد سقوط النظام بتسيير أمور محافظًا لطرطوس قبل أن يتم تعيين أحمد الشامي محافظًا جديدًا.
بينما ينحدر خالد الأحمد، من مدينة حمص، وهو من أبناء الطائفة “العلوية”، حيث كان عضوًا في الحزب السوري القومي، وشغل منصب مستشارًا أمنيًا وسياسيًا لرأس النظام المخلوع بشار الأسد من عام 2011 حتى مغادرته الأراضي السورية عام 2018.
أهمية خطوات إدارة دمشق
دعوات السوريون منذ اندلاع أحداث الساحل السوري في 6 مارس/أذار الجاري، لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات، لاقت استجابة من قبل إدارة دمشق، ما يعكس دورها المحوري في بسط الأمن والاستقرار ويحقق العدالة لذوي الضحايا، ويساهم في تعزيز السلم الأهلي بين السوريين.
ويرى الباحث والكاتب، بسام السليمان، أن إدارة دمشق تعاملت مع تمرد الفلول في الساحل السوري في خطوات بدأت في تكثيف وجود قوى الأمن العام وإخراج المجموعات غير المنضبطة، لا سيما المجموعات ذات الطابع المناطقي والعشائري، والمتشددة.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن إدارة دمشق تسعى إلى فتح قنوات اتصال مباشرة مع المجتمعات المحلية في الساحل السوري بما يضمن تعزيز السلم والأمن والاستقرار وسلامة المواطنين”.
وأضاف، أن قرارات تشكيل لجنة تحقيق وتقصي الحقائق، ولجنة عليا للسلم الأهلي، خطوة بالاتجاه الصحيح نحو فتح قنوات اتصال بين المجتمع المحلي والدولة، والتأكيد على محاسبة فلول النظام السابق الذين أرادوا أن يدخل المجتمع السوري في حرب أهلية طائفية، وتقسيم سوريا، فضلًا عن محاسبة المتورطين في الانتهاكات.
وأوضح، أنه بأي حرب يمكن أن تحصل أخطاء، لكن من الضروري ألا تمر دون محاسبة، ويجب أن يعي المواطن السوري أنه تحت القانون، لأن النظام السابق دمر مفهوم الدولة والقانون، وقام على النهب والسرقة والقتل، لذلك خطوات دمشق ترسم صورة مختلفة للدولة لدى السوريين، مشددًا، على ضرورة أن تشمل خطوات الحل فتح مسارات تعزيز الاقتصاد والمشاركة السياسية.
ختامًا.. لا تزال إدارة دمشق رهينة اختبارات داخلية وخارجية وتمر بمنعطفات إثبات قدرتها أمام السوريين أولًا على إدارة البلاد المنهكة، والمجتمع العربي والدولي ثانيًا في موازنة مصالحها الاستراتيجية في ظل أطماع القوى الإقليمية والدولية تسعى إلى تفكيك سوريا وتقويض جهود دمشق الرامية إلى تحقيق الاستقرار في شتى المجالات.