كحال جميع الخدمات التي تتطور لتواكب نمط الحياة المتغير بشكل مستمر، تتغير وسائل الإعلام وتتطور بشكل يُمكنها من الوصول للجمهور بما يتناسب مع نمط حياته، بل ويُمكنها أيضًا من البقاء وتفادي مصير بعض الصحف الورقية التي فشلت في مجابهة عصر السرعة. ففي العقد الأخير من الزمن، أصبحت وسائل الإعلام التقليدية تتجه لإضافة محتويات مرئية ومسموعة بالإضافة إلى محتواها التقليدي بطريقة تتناسب مع نمط الحياة السريع الذي نعيشه.
إلى جانب ذلك، نشأت الكثير من المؤسسات الجديدة المتخصصة في الإنتاج الرقمي، التي وجدت طريقًا سريعًا لها في سوق يحتاجها بالفعل، من أهم الأمثلة على هذا اجتياح البودكاست – محتوى صوتي موجود على الإنترنت – للعالم الرقمي ليسجل في العقد الأخير من الزمن حضورًا قويًا ومتزايدًا بشكل مستمر.
البودكاست.. التاريخ والتسمية
يُعرف البودكاست على أنه محتوى صوتي موجود على الإنترنت، يشبه محتوى الراديو ولكنه ليس راديو، ففي الوقت الذي يعتمد فيه الراديو على البث المباشر، يعتمد البودكاست بشكل أساسي على وجود الإنترنت. يعود أصل التسمية إلى عام 2004 عندما كتب الصحفي البريطاني بن هاميرسلي مقال رأي لصحيفة الغارديان عن المدونات الإذاعية عبر الإنترنت، قال فيه إنه يقترح تسمية هذه “الظاهرة” بالبودكاست، حيث تتكون الكلمة من قسمين: “بود” وهو الجهاز الشهير الذي صممته آبل لسماع الموسيقى، و”كاست” وهي كلمة إنجليزية تعني البث.
في الوقت الذي يظن الكثيرون أن إنتاج البودكاست يستغرق الكثير من الوقت والمال، فإن الحقيقة عكس ذلك تمامًا
منذ ذلك الوقت، تم إطلاق اسم البودكاست على هذا النوع من المحتوى الصوتي، وفي حين أنه لا توجد أي دراسات عن نسبة انتشار البودكاست في العالم العربي، لكن بحث Infinite Dial 2017 يقول إن انتشار البودكاست في الولايات المتحدة الأمريكية – بلد المنشأ – يزيد بنسبة 10% إلى 20% في كل عام، لكن المؤكد أن إنتاج البودكاست يزداد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة بالشرق الأوسط، خاصة في منطقة الخليج العربي والأردن ومصر.
فهل يقتصر إنتاج البودكاست على المؤسسات أم يمكن للصحفي تدشين البودكاست الخاص به ضمن ميزانية وإمكانات متاحة؟
في الوقت الذي يظن الكثيرون أن إنتاج البودكاست يستغرق الكثير من الوقت والمال، فإن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فيمكن للصحفي إنتاج البودكاست الخاص به دون الحاجة لمبالغ طائلة أو حتى إمكانات ضخمة، ولكن ما يحتاجه البودكاست فعلًا أن يعرف الصحفي الذي يقوم بهذا الإنتاج لماذا يقوم به وماذا سينتج. بمعنى آخر، يجب على الصحفي تقديم المحتوى الشيق والمفيد والمنافس كي يستقطب عددًا أكبر من المستمعين.
الأهم من ذلك هو الالتزام، فينبغي على الصحفي أن يعلم أن نجاح البودكاست مرتبط باستمراريته، لذلك، يحتاج الصحفي إلى الاستمرار في إنتاج الحلقات بشكل دوري حتى يضمن رابطًا أكبر وأعمق مع جمهوره، وفي الحقيقة فإن فرص نجاح البودكاست الجيد في العالم العربي مضمونة، ذلك لأن عدد العاملين في هذا المجال في العالم العربي أقل مما يحتاجه الجمهور.
خطوات إنتاج البودكاست
1- تحديد الموضوع الذي سيتناوله البودكاست
ذكرنا مسبقًا أنه يتوجب على الصحفي قبل أن يفكر في إنتاج المحتوى الخاص به، التفكير لماذا يريد إنتاج محتوى صوتي من الأساس، وما الذي يريد تقديمه للجمهور. في الواقع، إن الأسباب التي تدفع الصحفي لأن ينتج محتوى صوتيًا، مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالأسباب التي تجعل الجمهور يتجه للمحتوى المسموع، ومن أهم هذه الأسباب أن جمهور البودكاست -أغلبهم من جيل الشباب- يستمع لهذا المحتوى في أثناء ممارسة أعمال أخرى مثل القيادة ولعب الرياضة والتنقل في المواصلات العامة.
إذا أراد الصحفي تقديم محتوى على مستوى جيد، فيجب عليه أن ينتج محتوى مفيد يزيد من معرفة وثقافة الجمهور، وفي نفس الوقت يكون مسليًا وممتعًا
عدا عن ذلك، فإن هناك عدد كبير من الناس ممن لا يحبون القراءة، لكنهم في الوقت ذاته يريدون زيادة مستوى ثقافتهم، فيجد هؤلاء في البودكاست الحل الأمثل لهذه المعضلة. إذًا، إذا أراد الصحفي أن يقدم محتوى على مستوى جيد، فيجب عليه إنتاج محتوى مفيد يزيد من معرفة وثقافة الجمهور، وفي نفس الوقت يكون مسليًا وممتعًا. في هذه المرحلة، يجب على الصحفي أن يكون قادرًا على تحديد الموضوع الذي ستغطيه حلقات البودكاست، هل هو موضوع اجتماعي، ثقافي، تعليمي، ديني، سياسي، إخباري، أو حتى محتوى ترفيهي بحت.
2- تحديد شكل البودكاست
هناك أشكال عديدة لحلقات البودكاست، وغالبًا يتم اختيار شكل البودكاست بالنظر إلى المواضيع التي سيتناولها، ومن هذه الأشكال المنتشرة:
حلقات حوارية: من الممكن أن تكون حلقة البودكاست عبارة عن مقابلة مع شخص واحد. في هذا النوع، يطرح المقدم الأسئلة على الضيف ويناقش الموضوع بشكل موسع، ولا يحتاج هذا النوع من البودكاست الكثير من العمل والوقت، حيث إنه يتطلب وقتًا أقل في عملية المونتاج.
حلقات واقعية ذات نص معد مسبقًا: يعتبر هذا النوع من الحلقات الأكثر شيوعًا، وتتطلب الكثير من العمل لإنجاحها، فقبل العمل على نص الحلقة، يجري المعد بحثًا معمقًا عن موضوع الحلقة، يقود هذا البحث بالضرورة إلى معرفة الأشخاص الذين يحتاج إجراء مقابلات معهم كي يخدموا محاور الحلقة المختلفة، ويكون عدد المقابلات في الغالب 2-4 مقابلات مختلفة.
بعد الانتهاء من المقابلات يبدأ المعد بكتابة النص بشكل يتلاءم مع المقاطع الصوتية للمقابلات، حتى تبدو الحلقة انسيابية ومنطقية، وكأن جميع الضيوف كانوا يجلسون في غرفة واحدة. يستغرق التحضير لهذا النوع من الحلقات أسبوع واحد على الأقل حتى تبدو الحلقة بجودة عالية.
في المؤسسات المختصة، يقوم أكثر من شخص بإتمام هذه المهام المختلفة لتوفير الوقت، لكن هذا لا يعني أبدًا أن الصحفي الواحد غير قادر على إتمام هذه الخطوات جميعها بمفرده.
حلقات ذات طابع إخباري: في هذا النوع من البودكاست يحضر مقدم الحلقات ملخصات لأهم الأحداث التي تشغل الشارع في العالم، وتقوم الصحف العالمية في الغالب بهذا النوع من البودكاست الذي يمكنها من نشر الأخبار التي تنتجها لنسخها الورقية ولكن بطريقة أكثر حداثة وعصرية.
3- تحضير جدول زمني
قد لا تبدو هذه الخطوة مهمة لمن يقوم بعمل بودكاست للمرة الأولى، ولكن تحضير جدول زمني لتحضير الحلقات وعرضها خطوة تأخذ القليل من الوقت، ولكنها توفر الكثير منه فيما بعد، يقوم الصحفي في هذه الخطوة بتحديد الوقت الذي ستستغرقه كل خطوة من خطوات إعداد الحلقات ما بين البحث والتحضير والتسجيل، بالإضافة إلى الوقت الذي سيتم على مداره عرض جميع الحلقات، هل ستكون حلقات يومية أم أسبوعية أم شهرية؟ وكم عدد حلقات البودكاست؟ حيث يمكن أن يكون للبودكاست الواحد عدة مواسم، يحمل كل موسم موضوعًا جديدًا.
من المهم أن يتناسب طول الحلقة مع الموضوع المطروح، فلا يشعر المستمع بأي نوع من الرتابة أو الممل أو التكرار
في هذه المرحلة أيضًا، يحدد الصحفي مدة الحلقة، فلا يجوز أن يكون الفرق كبيرًا بين الحلقات في المدة، بل يجب أن تخضع جميع الحلقات لنفس المعدل، ولكن، ما أنسب مدة لحلقة البودكاست الواحدة؟ في الحقيقة لا يوجد جواب ثابت عن هذا السؤال، فمن الممكن أن يبلغ طول الحلقة 15 دقيقة أو نصف ساعة أو حتى ساعة، المهم أن يتناسب الطول مع الموضوع المطروح، فلا يشعر المستمع بأي نوع من الرتابة أو الممل أو التكرار.
4- اختيار هوية صوتية مميزة واسم للبودكاست
مع انتشار البودكاست أكثر وأكثر كل يوم، فإن اختيار هوية صوتية مميزة تمكن من يسمع حلقات هذا البودكاست لاحقًا من معرفة اسم البودكاست قبل أن يسمعه، خطوة ذكية جدًا. يستطيع الصحفي أن يشتري ملفًا صوتيًا مميزًا ليستخدمه في بدايات ونهايات الحلقات وكفواصل بين المقابلات، ومن المهم هنا التشديد على كلمة يشتري، لا أن يحمل من الإنترنت، لأنه لا يجوز أن يقوم الصحفي بتحميل أي مقطع صوتي عشوائي فيتعرض لاحقًا لسحبه بسبب حقوق الطبع والنشر.
هذا ويلعب اسم البودكاست دورًا مهمًا في جذب المستمعين له، لذلك على الصحفي أن يختار اسمًا قصيرًا ومميزًا ومرتبطًا بشكل مباشر بموضوع البودكاست.
5- التسجيل والمونتاج
يحتاج الصحفي التأكد من أن مهاراته في القراءة والإلقاء جيدة قبل تسجيل حلقات البودكاست الخاص به، ولكن، ما المعدات اللازمة في هذه المرحلة؟ لا يحتاج الصحفي شراء المعدات باهظة الثمن التي تشتريها مؤسسات البودكاست الكبيرة، ففي المرحلة الأولى من الإنتاج، يستطيع الصحفي أن يستخدم هاتفه في عملية التسجيل، ولكن بعد شراء ميكروفون صغير متخصص للتسجيل كي يتجنب الحصول على مقابلات رديئة الجودة. يحتاج الصحفي في هذه المرحلة أيضًا سماعات ليتأكد أن سير التسجيل على ما يرام، بعد ذلك، يبدأ الصحفي بمونتاج حلقاته ببرامج المونتاج الصوتية المنتشرة، وأهمها وأكثرها سهولة هو برنامج Audacity.
6- رفع الحلقة على الإنترنت
بعد الانتهاء من عملية التسجيل التي قد تأخذ وقتًا ليتأكد المعد بعد سماع الحلقة بأن كل شيء على ما يرام، يرفع الملف الصوتي على الإنترنت، مؤخرًا، أصبحت جميع تطبيقات الموسيقى مثل Soundcloud, iTunes, Spotify تسمح للمشتركين بتحميل ملفاتهم الصوتية، ولكن ربما يبقى Soundcloud أكثر هذه التطبيقات سهولة في عملية التحميل وأقلها تعقيدًا.
7- الترويج للحلقة وطلب رأي المستمعين
كحال أي شيء آخر، يحتاج الصحفي للترويج للعمل الخاص به ونشره بين الجمهور الذي يعتقد أنه الأكثر اهتمامًا بموضوع البودكاست، ومن الممكن استخدام أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي للترويج للبودكاست، حتى إن لم يكن مختصًا في مجال الإنتاج الصوتي مثل Instagram, Twitter, Facebook. بعد الترويج للحلقة، ينبغي على الصحفي أن يطلع على آراء الجمهور، لأن هذه الطريقة الوحيدة التي ستمكنه من تحسين جودة الحلقات وربما الأعمال المقبلة.
إذًا، ولأن وسائل الإعلام اليوم باتت تبحث عن الصحفي الذي يستطيع أن يكون فريقًا كاملًا من رجل واحد، فينبغي عليه أن يصبح فعلًا فريقًا كاملًا، ليس فقط للحصول على فرص عمل أفضل، ولكن لأن إلمامه بالمهارات كافة يجعله أكثر مهنية واستقلالًا.