ترجمة وتحرير: نون بوست
ينطوي الوعي التام على العديد من مواقف العقل التي تُعتبر محورية لتحوّل العقل وتحريره، أي إنشاء علاقات صداقة والتعاطف والفرح، والحفاظ على رباطة الجأش. وتُعتبر هذه الصفات أسس تطورنا جميعًا بينما نسير في طريق ممارسة الوعي التام.
بإمكان كل واحد منا تنمية هذه الصفات الأربع والتدرّب عليها والتأقلم معها بالطريقة ذاتها التي يمكن التدرب بها على إبداء الاهتمام وتطويره. ومع ذلك، في مواجهة الحزن الشديد، يمكن أن تختفي الصداقة والتعاطف والفرح ورباطة الجأش عندما تكون هناك حاجة ماسة إليها. في هذا التقرير، سنركز على الصفة الثانية، ألا وهي التعاطف.
ما معنى تنمية تعاطفنا؟
على غرار كل القدرات، فإن قدرتنا على التعاطف تنمو عندما نميل إليها ونغذيها. لقد مررنا جميعًا بلحظات من التعاطف حين يلين القلب في وجه الألم والحزن والمعاناة، وعندما نكون منفتحين على الضعف الذي يعد جزءًا من التجربة الإنسانية.
يتجسّد التعاطف في توجّه العقل لإدراك الألم وبعده العالمي في التجربة الإنسانية والقدرة على مواجهته بلطف وتعاطف ورباطة جأش وصبر
يمكن أن نعيش هذه اللحظات مع المحيطين بنا وأفراد عائلتنا، وذلك في حالة مرض أحد أطفال العائلة أو شعور مسن من أفراد الأسرة بوهن شديد أو عندما ترد على مسامعنا أخبار حدوث كارثة طبيعية مدمرة أو إصابة أحد المارة الأبرياء بجروح خطيرة في أعمال عنف طائشة. خلال هذه اللحظات، يتلاشى الانقسام بين الذات والآخر، وتتلاشى روايات النقد واللوم، ونعيش في عالم ملؤه اللطف والتعاطف ولو لبضع لحظات عابرة.
في الواقع، يتجسّد التعاطف في توجّه العقل لإدراك الألم وبعده العالمي في التجربة الإنسانية والقدرة على مواجهته بلطف وتعاطف ورباطة جأش وصبر. تعود جذور الكلمة إلى اللغة اللاتينية، والتي تعني “يعاني مع”. ويتمثل الأسلوب العاطفي في الاهتمام البالغ والاتصال والاستجابة للآخر. ومع ذلك، فإن التعاطف ليس شعورا، بل هو فهم مفعم بنية مسبقة. في المقابل، يوجد اختلاف بين الشعور بالشفقة والتعاطف، ويكمن الفرق بينهما في أن الذات تنفصل عن الآخر، حيث هناك شعور مفاده “أنا أستهين بمعاناتك”. وتمثّل الرغبة في رؤية شخص يتعرّض لأذى أو معاملة قاسية بشكل واضح نقيض التعاطف.
يُعتبر التعاطف أمرا أساسيا بالنسبة لجميع التقاليد الروحانية التأسيسية العظيمة، بما في ذلك المسيحية والبوذية والهندوسية واليهودية والإسلام. وعلى الرغم من اتخاذه أشكالًا مختلفة، إلا أن النية لتجاوز الهواجس التي تركز على الذات والدعوة إلى الاستجابة بتعاطف إزاء الألم والمعاناة موجودة فيها جميعا. يحتوي كل تقليد أيضا على فكرة إمكانية غرس التعاطف والتدرّب عليه، وأن الممارسة المستمرة والمكرّسة يمكنها تعويد القلب عليه. لذلك، على الرغم من أن التعاطف مغروس في طبيعتنا الإنسانية، وموجود فينا حتى ونحن أطفال، فإن التعليم والتهذيب والتدريب والممارسة يمكن أن تساعدنا في تحقيق قدر أكبر من القصدية وإطار أخلاقي أوسع لاستجابتنا العاطفية.
كيف تبدو الاستجابة العاطفية؟
بينما نتعلم تنمية التعاطف في كل لحظة طوال حياتنا، بإمكاننا أيضًا أن نتعلم التمييز بين أجزاء الاستجابة العاطفية. يبدأ التعاطف بالتعرّف على الألم والحزن والاعتراف بوجودهما في ظل وجود قلب قادر على التعاطف أو التقمص العاطفي، واستعدادا لرؤية الصعوبة بهدوء وصدق وقبول وانفتاح. لكن تكمن الأهمية البالغة في هذا الإدراك للألم والحزن في الاستعداد للتفاعل مع أحاسيسنا ومشاعرنا وأفكارنا وظروف حياتنا بثبات ولطف واهتمام والقول: “لست مضطرًا لتحمل هذا الألم لبقية حياتي، والسماح له بالتحكّم فيها. أحتاج فقط لمواجهته في هذه اللحظة ومعالجته قدر الإمكان بلطف واهتمام”.
يعلمنا الوعي التام تخفيف الميل نحو إلقاء اللوم والشعور بالخزي، فضلا عن إصدار أحكام على أنفسنا أو الآخرين حول الألم أو المعاناة في حياتنا.
كثيرا ما نقوم بشيطنة الألم والأسى إلى درجة أن التجنّب أو الهروب أو الإصلاح تبقى خياراتنا الوحيدة. ومع ذلك، تشكل هذه الاستجابات المشروطة عقبة رئيسية أمام اللجوء إلى التعاطف. والأسوأ من ذلك، فهي تساهم في استمرار معاناتنا. يعلّمنا الوعي التام أن نكون ثابتين وفضوليين في خضم المحنة، ونسمح بوجودها، واستكشاف بيئتها، وتقبّلها. ويعتبر هذا التقبّل إجراء يستدعي اللجوء إلى التعاطف لمواجهة الألم والمعاناة. وهذا يتطلب الصبر والعزيمة والشجاعة. في البداية، قد يكون هذا أمرًا بديهيًا وخاطئًا، نظرًا لأن أنماطنا المتعلّقة بتجنّب أو إصلاح الصعوبات مألوفة جدًا ومفهومة بالنسبة لنا.
مع ذلك، باتخاذ هذه الخطوة الأولى، لن نسمح للمعاناة بتحديد ملامح حياتنا وتصوّرنا لذاتنا. بدلاً من ذلك، نتعلم تقبل حقيقة أن نكون ضعفاء ونحدّد نقاط ضعفنا ونحتضنها بدلاً من الشعور بالخوف منها. أصبح إدراكنا للألم والضيق مشبعا بهذا التقمص العاطفي، فرغم الألم، كل شيء على مايرام. يمكن أن أتعامل معه بلطف واهتمام. يصبح من الواضح أن رغبتنا في أن نكون على أهبة الاستعداد في خضم شعورنا الألم تخلق فرصًا جديدة للاستجابة العاطفية.
كيف يغذي الوعي التام التقمص العاطفي؟
يعلمنا الوعي التام تخفيف الميل نحو إلقاء اللوم والشعور بالخزي، فضلا عن إصدار أحكام على أنفسنا أو الآخرين حول الألم أو المعاناة في حياتنا. في الحقيقة، لا يساهم ذلك في تخفيف الحزن، بل يضاعفه ويعيق قدرتنا على فهمه. يولّد اللوم وإصدار الحكم رواية وتأمّلا من شأنهما منعنا من التفكير في طرق بديلة لتخفيف الألم والحزن.
يساعد تكوين موقف من الرعاية والتعاطف على فهم المعاناة وأسبابها ونهايتها حتى حين يتم بلوغ هذه النهاية في خضم المصاعب المستمرة
في الوقت الذي ننمي فيه الوعي التام وننتقل إلى اللحظة الحالية تماما كما هي، يتسنّى لنا فهم أنه على الرغم من انعدام وجود حل دائم للمعاناة، إلا أنه عادة ما يوجد استجابة ممكنة. ينبغي فهم أن عدم إصلاح كل جوانب الألم لا يعتبر من مظاهر السلبية، بل إن وجود استجابة يمكن أن تولي اهتماما حتى بالألم الرهيب قد يشجعنا. تعتبر الرغبة في التوقف عن التهرّب من الألم الخطوة الأولى نحو استجابة عاطفية، ولا يمكن إصلاح كل الألم والحزن، ولكن يمكن التخفيف من حدتهما عند التحلي بالحنان والتعاطف.
يساعد تكوين موقف من الرعاية والتعاطف على فهم المعاناة وأسبابها ونهايتها حتى حين يتم بلوغ هذه النهاية في خضم المصاعب المستمرة. هذا الفهم لا يقلل بأي حال من قيمة تجربتنا الحالية أو يستبعدها، لكننا مع ذلك نتوصل لفهم حقيقة أننا لسنا وحدنا وإنما جزء من عائلة إنسانية تعاني الضعف في جوهرها. مع غرس التعاطف نكتسب الكرامة ونوسع اهتمامنا ليشمل معاناة الآخرين، أي المعاناة الكامنة في إنسانية مشتركة أكثر شمولية.
في هذا السياق، يُفقد مفهوم التعاطف ومراحله معنى الأنا وما أملكه والأنت وما تملكه لنرى عالما يُنظر فيه إلى المعاناة والفرح كجزء من الحالة الإنسانية، ليتم الاعتراف بها ومواجهتها والسماح بها. يهيئ هذا الفهم الظروف لاستجابة أكثر تعاطفا ويمكن أن يتداعى التعاطف ليصبح عقائديًا ومقيّدًا، باعتباره يقتصر على بعض الظروف والأشخاص الذين نرى أنهم يستحقون. يؤدي هذا النوع من التعاطف الشرطي حتما إلى تغذية الخوف والاغتراب. تخلق الانقسامات عندما نرى ألما مقبول وأخر غير مقبول، ونعتقد بأن هذا الشخص يستحق التعاطف في حين لا يستحق شخص آخر ذلك. من هذا المنطلق ينشأ كل من التفاهم والتعاطف مع الوعي التام ويعلمنا مفهوم الرعاية.
تعتبر الاستمرارية جانبا أساسيا من جوانب التعاطف والتراحم، لذلك يتعلم طلاب الوعي التام الانتباه مرارًا وتكرارًا إلى ما يحدث في هذه اللحظة على مستوى الجسم والعقل
فلننظر في المعاناة التي لا يمكن أن نلوم فيها أحدا، مثل طفل مريض أو من كانوا ضحية كارثة طبيعية على غرار التسونامي، أو مسن تدهورت صحته. في مرحلة ثانية، لننظر إلى المعاناة التي تسبب بها المجرمون وإلى اللاجئين الذين فروا من الصراعات العرقية والأشخاص الذين تحولوا إلى ضحايا وسببوا بدورهم الأذى للآخرين. تبين هذه الأمثلة ميل العقل الفطري لإنشاء قصة تجمع بين لوم المجرم والضحية، ما يجعلنا نؤمن بأن نشوء التفهم والتعاطف سوية يمكننا من التجاوب بقلوبنا وعقولنا، مما يمنعنا من التفاعل الاعتيادي ويمكننا من التجاوب بعناية وبشكل موزون. إنه يضمن أن تكون استجابتنا أكثر وعيا.
كيف نواجه الخسائر والتغييرات غير المرغوبة والألم دون خوف
تعتبر الاستمرارية جانبا أساسيا من جوانب التعاطف والتراحم، لذلك يتعلم طلاب الوعي التام الانتباه مرارًا وتكرارًا إلى ما يحدث في هذه اللحظة على مستوى الجسم والعقل. ويكشف تطوير قدرتنا على الوعي التام المستمر في خضم كل المشاعر عن قدرتنا المتنامية على الثبات والصمود، ما يجعلنا أكثر ثقة في قدرتنا على مواجهة المحن بالتعاطف. ولا يتعلق الصمود بالمكابرة والصبر على الألم الدائم، لكنه يتعلق بالرعاية وفهم كيفية مواجهة الخسائر والتغييرات غير المرغوبة والألم دون خوف.
يتأثر الإنسان بشدة بالمآسي التي تبدو لا نهائية في حياته وفي العالم لذلك يتساءل عن كيفية التعامل مع ألم القلب والفقدان أو المرض أو الحياة المليئة بالمحن التي تبدو بلا نهاية أو حل، لكن الاهتمام بهذه الحياة وبهذه اللحظة والتراحم والرعاية تعتبر مفاتيح الحرية والتوازن. من هذا المنطلق يمكننا تسليط الانتباه إلى الحاضر كما هو بدلا من الضياع في الصيغة التي يجب أن يكون عليها من تنمية المرونة والشجاعة التي تعتبر حجر الزاوية في نشوء التعاطف.
يساعد الوعي التام على إدراك أنه حين نُغيّر الحاضر، يتسنى لنا إنشاء علاقة جديدة مع ماضينا
في برامج تعزيز الوعي التام، يُفهم هذا التحول في العلاج بطريقة محددة إذ لا يعني التحول أن الشعور بالضيق والمعاناة يختفيان تماما. في الواقع، يقوم العلاج على التشجيع على الخوض في الماضي لتحليل الظروف التي انجرت عنها المحنة التي يمر بها الشخص في الوقت الراهن. وتجدر الإشارة إلى أنه من المؤكد أنه من المستحيل العودة بالزمن من أجل تفادي هذه الظروف والأحداث.
بدلا من ذلك، يساعد الوعي التام على إدراك أنه حين نُغيّر الحاضر، يتسنى لنا إنشاء علاقة جديدة مع ماضينا. ويمثّل تغيير الحاضر تغييرا لعلاقتنا مع روايات وأحداث الماضي التي تظهر تلاحقنا الآن، ما يحررنا من الشعور بالقلق وإطلاق الأحكام والروايات المتسببة في تفاقم حدة الشعور بالضيق. ويعتبر التعاطف عاملا أساسيا في تلك العلاقة المتغيرة.
مثلها مثل جميع القدرات الأخرى، تتعزز قدرتنا على التعاطف كلما اعتنينا بها وعملنا على إثراءها. ودائما ما تكون الفرص سانحة بالنسبة لنا للانخراط في هذه العملية حيث لا نحتاج إلى انتظار لحظات الألم أو الضيق. بإمكاننا تعلّم الإصغاء بوعي تام إلى “تمتمة أجسادنا” الناتجة عن الشعور بالضيق بشيء من الحنان والاهتمام.
في حال تعلمنا التعامل مع الأفكار والعواطف الناجمة عن الشعور بالخزي والقلق واللوم، بالحنان وليس من خلال إطلاق الأحكام، نصبح أكثر انسجاما مع نفسيتنا ومع حاضرنا. ونبدأ تدريجيا في الانفتاح أكثر على العالم من حولنا. قد نصبح أكثر قابلية لملاحظة صرخات طفل ما أو مشية المتعثرة لشخص مسن، أو مشهد شخص يتسول في الشارع. ومن خلال دقة الملاحظة التي نكتسبها، نكون أكثر قدرة على التعاطف ونبدأ في الشعور بامتلاكنا لقلب قادر على التعاطف خلال الأوقات العصيبة. وعوضا عن الهروب بسبب الخوف أو إطلاق الأحكام، ننجح في التحلي بكل من الشجاعة والتوازن اللازمين للتعامل مع هذه اللحظات بتعاطف ورحمة.
جرّب تمرين الوعي التام هذا من أجل تعزيز شعورك بالتعاطف:
1-اجلس وركز انتباهك على التجربة التي تخوضها في الحاضر، مع توجيه تركيزك في البداية إلى الأماكن الأكثر ارتياحا في جسمك على غرار الشعور الذي يراودك حين تلامس قدميك الأرضية.
2-ركز انتباهك على حقيقة أن جسمك ينعم بالسكون والارتياح، حتى تساعدك حالة الوعي التام على استرخاء المناطق التي تعاني من التوتر في جسمك.
3-تعمّق في المعنى الفعلي لاكتساب القدرة على الاهتمام والانتباه.
4-في المرحلة التالية، وجّه انتباهك نحو أجزاء من الجسم التي تشعر بالانزعاج أو الضيق، مع الحفاظ على درجة الوعي ذاتها. راوح في انتباهك بين التجربة التي تشعر فيها بالارتياح وأي جزء يشعر بالتوتر في الجسم.
5-تمعّن في معنى الإصغاء بعمق إلى الشعور بالضيق بشيء من التعاطف والرحمة.
6-عندما تشعر بأنك اكتسبت القدرة على التعاطف، اجعل اهتمامك يمتد ليشمل الأشخاص الذين تكترث لأمرهم وأولئك الذين تقابلهم كل يوم والذين يمتلك كل منهم قدرا معينا من الفرح والحزن. تخيل صورة شخص يكافح من الألم والفقدان والضعف والمرض.
7- حاول وضع نفسك موضع هذا الشخص عاطفيا مع التعبير عن ذلك باستخدام بضع عبارات بسيطة من قبيل: “السماح”، “السلام”، “اليُسر”، “الاهتمام”.
المصدر: مايندفول