“كلمة تطبيع هي كلمة خاطئة أصلًا، نحن في حالة حرب مع كيان غاصب”، بملامح وجهٍ حادة ونبرة صوتٍ عالية، أجاب قيس سعيد بهذه الكلمات الواضحة عند سؤاله عن موقفه من التطبيع والعلاقات مع الكيان الصهيوني خلال المناظرة التليفزيونية مع منافسه نبيل القروي قبل ساعات من الجولة الحاسمة لانتخابات الرئاسة التونسية، التي أظهرت نتائجها الأولية المنشورة مساء الأمس اكتساح سعيد لمنافسه القروي وفوزه بنسبة تقارب 75% من مجموع أصوات الناخبين.
الرئيس التونسي الجديد، عاد ليخص فلسطين بالذكر في مؤتمره الأول بعد الفوز عشية أمس، مؤكدًا التزامه الأخلاقي والسياسي تجاه قضايا المنطقة وهمومها، ومتمنيًا أن لو كان العلم الفلسطيني إلى جانب العلم التونسي في مؤتمر إعلان فوزه.
لا شك أن مواقف قيس سعيد الأولية تجاه القضية الفلسطينية ورفضه الجازم لأي علاقاتٍ تطبيعية مع الاحتلال الإسرائيلي، هو الموقف المنتظر والمتأمل من كل عربي
مواقف المرشح سابقًا والرئيس حاليًّا، حدت بالفلسطينيين للتعبير عن فرحهم واحتفائهم بظفر الرجل بموقع القيادة في تونس، وهو الأمر الذي يطرح أسئلة عديدة عن قدرته على التخلص من الإرث التطبيعي في تونس، ومواجهة موجة التطبيع الجارفة في المنطقة العربية اليوم.
بدايةً، لماذا كان الاحتفاء؟
لا شك أن مواقف قيس سعيد الأولية تجاه القضية الفلسطينية ورفضه الجازم لأي علاقاتٍ تطبيعية مع الاحتلال الإسرائيلي، هو الموقف المنتظر والمتأمل من كل عربي، سواء كان في القصر أم في الشارع، ولكن لا بد لنا من الاعتراف أن سقف الفلسطينيين وتطلعاتهم للدعم العربي لقضيتهم يُقارب الحضيض، مع المفترق الحرج الذي تواجهه قضيتهم اليوم، في ظل مساعي صفقة القرن لترتيب أوضاع الفلسطينيين ومستقبلهم سواء في الأراضي المحتلة أم في الشتات على حسب التصور الإسرائيلي والأمريكي، وبمحاذاة تصاعد جارف في مستوى وحجم العلاقات الرسمية العربية مع الاحتلال الإسرائيلي، مترافقًا مع حملات عنصرية تحريضية مقصودة ضد الفلسطينيين. كل ذلك يجعل الموقف المُفترض والعادي، موقفًا شاذًا وغريبًا وغير عادي، يُحتفى به.
إضافةً إلى ذلك فإن الرئيس التونسي الجديد لا يبدو عند الكثيرين أنه يحاول دغدغة مشاعر هنا أو كسب أصوات هناك بهذه المواقف، بل إن حديث الرجل عن فلسطين باعتبارها قضية عادلة، وعن التطبيع مع “إسرائيل” باعتباره خيانة، وعن الحرب معها باعتباره الوضع الطبيعي، يعكس صورةً عن حساسية الرجل العالية تجاه قضايا المنطقة المصيرية ومستقبلها، فموقفك من الصهيونية لا يتعلق بفلسطين فقط، ولا يخص الفلسطينيين دون غيرهم، بل يرتبط بشكلٍ وثيق، وقبل كل شيء، برؤيتك لذاتك ولجماعتك وأمتك، وبموقفك بشكل أساس من مشاريع التبعية للأجنبي في المنطقة على حساب كرامة الشعوب وحريتها، لذلك كان مجيء سعيد نصرًا كذلك لمن رأى في ثورات الربيع العربي لدغة أمل تحررية.
المبادلات التجارية بين تونس والاحتلال الإسرائيلي، على سبيل المثال، لم تتأثر بالتغيرات السياسية في تونس وفلسطين خلال الـ23 سنة الماضية
ولكن في ظل وضعٍ عربي يشهر في وجهنا أن “زيارة السجين لا تعني الاعتراف بالسجان” لتبرير زيارات تطبيعية إلى الأراضي المحتلة، ويشهد علاقات أمنية واقتصادية مع الإسرائيلي تحت شعارات حماية المنطقة ومقدراتها، ويُستضاف فيه الصهاينة على موائد السياسة والرياضة والفن تحت راية الانفتاح والسلام والحوار، في ظل كل هذا الخراب، هل يُؤمل أن تكون تونس عمارًا؟
ماذا عن الإرث التطبيعي؟
لا تتحقق الممكنات في السياسة بناءً على حجم آمالك أو قدر حماستك، فالتفاؤل جيد والحماسة مطلوبة بلا شك، ولكن الانجراف لهما دون فهم الواقع وتشابكاته يعني وقوعك ضحية آمالك، فتحقيق اختراق في ملف التطبيع على الصعيد التونسي أو العربي أمرًا لا يتعلق بالرغبة بقدر ما يتعلق بالقدرة على مواجهة الإرث التطبيعي في تونس بدايةً.
فالمبادلات التجارية بين تونس والاحتلال الإسرائيلي، على سبيل المثال، لم تتأثر بالتغيرات السياسية في تونس وفلسطين خلال الـ23 سنة الماضية، تُشير بيانات منظمة التجارة الدولية وقاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة ارتفاع الصادرات التونسية لـ”إسرائيل” خلال السنوات الأخيرة، في مقابل تراجع مطرد لواردات تونس من الكيان الصهيوني، بعد أن كانت تشهد وضعًا متطورًا، شهد ذروته بين عامي (2011 – 2013)، إذ وصلت قيمتها (15 مليون دولار).
تُظهرالأرقام كذلك استفادة الاحتلال من الحصيلة الإيجابية للمبادلات التجارية مع تونس، إلا أن المكاسب الحقيقية الإسرائيلية ليست متعلقة بصادرات وواردات تجارية ومكاسب مالية، فهي أساسًا في مجملها ليست مكاسب طائلة، بل المكسب الفعلي هو وجود العلاقة واستمرارها، أيًا كان طبيعتها وحجمها.
رغم رحيل بن علي، فإن إرثه التطبيعي استمر، بل شهدت صادرات تونس إلى”إسرائيل” نموًا متواصلًا بعد سنوات الثورة
الأمر لا يقف عند العلاقات التجارية، بل يمتد للاتصالات السياسية بين الطرفين، التي تعود جذورها للعام 1952. جذور أخذت منحى ترسيخيًا على شكل علاقات اقتصادية وسياسية شبه كاملة مع قدوم بن علي للرئاسة التونسية، وتدشين الأمر في العام 1997 بافتتاح مكتبيّ رعاية المصالح في كل من تونس وتل أبيب، وهي الخطوة التي مهد لها لقاء وزير الخارجية التونسي الأسبق الحبيب بن يحيى بوزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك في برشلونة سنة 1995. كان ذلك اللقاء العلني الأول بعد سنوات من الاتصالات السرية بين الطرفين شكلت خلاله السفارة البلجيكية في تونس وتل أبيب قنواتها الأساسية.
رغم رحيل بن علي، فإن إرثه التطبيعي استمر، بل شهدت صادرات تونس إلى “إسرائيل” نموًا متواصلًا بعد سنوات الثورة، كما شهدت الشهور الأخيرة على سبيل المثال فعاليات تطبيعية عديدة، من مشاركةٍ لفنانين تونسيين في حفلاتٍ موسيقية بالأراضي المحتلة، وتنظيم رحلات سياحية إليها، كما أن محاولات تقنين تجريم التطبيع مع الاحتلال في تونس باءت بالفشل، بعد سلسلة من التأجيلات والتعطيلات التي شهدها مشروع قانون تجريم التطبيع داخل البرلمان التونسي خلال السنوات القليلة الماضية.
ختامًا، فإن الحديث من خارج القصر ليس كالحديث من داخله بالتأكيد، ورغم إدراك الصعوبات والتحديات التي قد تقف في وجه الرئيس التونسي الجديد وقدرته على إحداث خرق تونسي وعربي في ملف التطبيع، ورغم فهم موقع تونس وميزانها الإقليمي وقدرتها على التأثير وفرض الموقف القاطع من التطبيع وتعميمه عربيًا، فإن ذلك لا يعني بتاتًا اندثار الإيمان الفلسطيني والعربي بالممكن السياسي، المسنود شعبيًا، الذي يعني هنا على الأقل، ألا يُصبح التطبيع – أو الخيانة كما يُحب أن يسميها سعيد – وجهة نظرٍ عربية.