تعيش الجزائر هذه الأيام جدلاً جديدًا عنوانه مشروع قانون المحروقات الذي درسه اجتماع مجلس الوزراء الأحد، واعتبره الحل الأنسب لبقاء الجزائر ضمن قائمة البلدان المنتجة والمصدرة للنفط، فيما يرى رافضوه أن الحكومة ستبيع خيرات البلاد للأجانب في حال مرر البرلمان هذا النص القانوني بمواده الحاليّة التي تضمنتها المسودة التمهيدية.
ويشكل قطاع المحروقات عصب اقتصاد الجزائر عضو منظمة أوبك، فعائداته تشكل ما نسبته 95% من مداخيل البلاد، لذلك يبقى الاقتراب من هذا الملف مليئًا دائمًا بالجدل والاستفهامات، خاصة مع مطالب ضمان مستقبل الأجيال القادمة وحقها من ثروات البلاد.
ضرورة حتمية
جاء في بيان مجلس الوزراء برئاسة رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح الذي تنتهي مهمته نهاية العام الحاليّ حال إجراء الانتخابات الرئاسية في 12 من ديسمبر المقبل، أن “مراجعة النظام القانوني الحاليّ للمحروقات لا سيما على المستوى التعاقدي والجبائي، بات ضرورة حتمية بالنظر للتطورات الحاصلة في ميدان المحروقات سواء داخليًا أم خارجيًا، مع تقلص في كميات الإنتاج في ظل التزايد المضطرد للاستهلاك الوطني في هذا المجال، أين سنكون في حال الاستمرار بالمنظومة القانونية الحاليّة نفسها أمام عجز هيكلي بين العرض والطلب الوطنيين ابتداءً من 2025”.
وتقول الحكومة إن الأحكام الجديدة للقانون ستسمح بتعزيز الدور الاقتصادي والمالي والتقني لشركة سوناطراك الحكومية، كونها الطرف الوطني الوحيد الموقع على العقود البترولية مع المستثمرين وتأكيد احتكارها لنشاط النقل بواسطة الأنابيب.
بالنظر إلى تراجع المداخيل المالية للجزائر وضخامة الاستثمار النفطي، تسعى الحكومة من هذا التعديل القانوني إلى “تقاسم المخاطر الناجمة عن عمليات الاستكشاف التي تتحملها حاليًّا الشركة الحكومية سوناطراك وحدها”
يسمح القانون الجديد بدخول الجزائر مرحلة الاستكشاف في عرض البحر، فقد كشف مدير الموارد الجديدة بمجمع سوناطراك يوسف خنفر مارس/آذار الماضي أنه من المرتقب أن يشرع المجمع في عمليات استكشاف في الساحل هذه السنة، على أن تكون أول عملية تنقيب خلال السداسي الثاني من 2019 في عرض الساحل الشرقي بين بجاية وسكيكدة شرق البلاد.
ووقعت سوناطراك في أكتوبر 2018 على عقد استغلال في عرض البحر مع “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية.
وتشير وثيقة مشروع القانون إلى أن المراجعة القانونية لنظام المحروقات في الجزائر تتمثل بالأساس في “استرجاع جاذبية المجال المنجمي الوطني في ظل وضع دولي تطبعه المنافسة الشرسة واستقطاب الشركات الأجنبية التي تحوز التكنولوجيات الحديثة والتمويلات اللازمة لتطوير الموارد الوطنية من المحروقات”.
وبالنظر إلى تراجع المداخيل المالية للجزائر وضخامة الاستثمار النفطي، تسعى الحكومة من هذا التعديل القانوني إلى تقاسم المخاطر الناجمة عن عمليات الاستكشاف التي تتحملها حاليًّا الشركة الحكومية سوناطراك وحدها وإعادة تجديد احتياطات الجزائر وبعث عمليات الإنتاج مما سيسهم في حفظ أمنها الطاقوي ومواصلة تجسيد المشاريع التنموية الاقتصادية للبلاد.
أشارت أرقام الديوان الوطني للإحصاء الحكومي الخاصة بالأشهر الست الأولى من 2019 إلى تسجيل انخفاض في الإنتاج في فرعي تكرير النفط الخام والغاز الطبيعي على التوالي بنسبة 4.9% و1.3%
ويتوافق هذا التعجيل الحكومي في طرح القانون الجديد مع ما يذهب إليه خبير الطاقة مهماه بوزيان الذي يعتقد أن “أي تأجيل في إقرار قانون جديد للمحروقات سيتسبب في إضعاف القدرات التفاوضية للطرف الجزائري في المستقبل، وأي تأجيل سيسقطنا في فخ الاضطرار لتقديم تنازلات غير واردة إطلاقًا الآن للشريك الأجنبي، وليس العكس من خلال ما يروج له الآن عن مضامين هذا القانون”.
ولا أحد ينكر أن القانون الحاليّ أصبح غير قادر على التأقلم مع وضع الطاقة الجديد للجزائر المتمثل في تراجع الإنتاج وزيادة الطلب المحلي، فقد أشارت أرقام الديوان الوطني للإحصاء الحكومي الخاصة بالأشهر الست الأولى من 2019 إلى تسجيل انخفاض في الإنتاج في فرعي تكرير النفط الخام والغاز الطبيعي على التوالي بنسبة 4.9% و1.3%.
احتجاجات
غير أن المزايا والمبررات التي قدمتها الحكومة يبدو أنها لم تقنع الجميع، فقد رفع المشاركون في حراك الجمعة الماضية لافتات رافضة لما جاء في مشروع قانون المحروقات الجديد قبل عرضه على مجلس الوزراء وتحويله للبرلمان.
وتصدر وسم #قانون_المحروقات قائمة الترند في الجزائر على موقع تويتر، فاختلفت التغريدات بين مؤيد ورافض لما جاء فيه، خاصة أن منتقدي القانون يعتبرونه يكشف نية الحكومة في بيع خيراتها للأجانب.
ينتظر أن تتضمن مسيرة الطلبة اليوم التي تنظم كل ثلاثاء مطالب بإلغاء مشروع قانون المحروقات وانتقاده، وذلك استمرارًا لاعتصام واحتجاج الأحد الذي أقيم أمام البرلمان قبل انتهاء اجتماع مجلس الوزراء الذي دعا للتخلي عن القانون وإلغائه
وجاء في إحدى التغريدات أن “هذا ليس بقانون بل هو تنازل عن البلاد لكسب شرعية دولية، فحكومة تصريف الأعمال الفاقدة للشرعية بموجب الدستور ليس لها صلاحية سن القوانين بل تسليم السلطة لرئيس منتخب طبقًا للدستور” .
وينتظر أن تتضمن مسيرة الطلبة اليوم التي تنظم كل ثلاثاء مطالب بإلغاء مشروع قانون المحروقات وانتقاده، وذلك استمرارًا لاعتصام واحتجاج الأحد الذي أقيم أمام البرلمان قبل انتهاء اجتماع مجلس الوزراء الذي دعا للتخلي عن القانون وإلغائه، ولم تقتصر الاحتجاجات على العاصمة الجزائر فقط، بل نظمت تجمعات مماثلة بولايات أخرى مثل ورقلة جنوب شرق البلاد التي تضم أبرز آبار البترول بالبلاد، إضافة إلى تنظيم احتجاجات مماثلة في بجاية وبرج بوعريريج.
ودعا رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس الراغب في الترشح للرئاسيات المقبلة المقررة في 12 من ديسمبر/كانون الثاني إلى ضرورة عرض القانون على الجميع والتحاور بشأنه، قبل المضي في تطبيق نص تشريعي له هذه القيمة الكبيرة لاقتصاد الجزائر.
رغم الاحتجاجات التي انطلقت بشكل لافت الأحد الماضي، تتمسك الحكومة الجزائرية بمشروع قانون المحروقات، وتنفي أي اتهام يوجه لها بأن يكون سن هذا الأخير جاء بهدف بيع خيرات البلاد للأجانب وبالخصوص للفرنسيين
ويُتخوف من أن تتحول الاحتجاجات المناهضة لقانون المحروقات رغم عدم موضوعية وبراءة بعضها إلى مواقف قوية شبيهة بما حدث في 2014 و2015، لما استطاعت الاحتجاجات التي مست عدة ولايات خاصة بالجنوب إجهاض نية الحكومة في استغلال الغاز الصخري، الذي قد يتضمن قانون المحروقات الجديد جوانب تشريعية متعلقة باستغلال هذا النوع من الطاقة غير التقليدية.
دفاع
رغم الاحتجاجات التي انطلقت بشكل لافت الأحد الماضي، تتمسك الحكومة الجزائرية بمشروع قانون المحروقات، وتنفي أي اتهام يوجه لها بأن يكون سن هذا الأخير جاء بهدف بيع خيرات البلاد للأجانب وبالخصوص للفرنسيين.
بدوره، قال وزير الطاقة محمد عرقاب: “قانون المحروقات الجديد هو ثمرة تعاون لخبراء جزائريين ووزارة الطاقة وسوناطراك ووكالتي تثمين المحروقات وضبط المحروقات ويرتكز على المحافظة على ثروات الجزائر”، وأشار إلى أن “الخبراء الجزائريين أخذوا بعين الاعتبار في صياغة قانون المحروقات حماية السيادة الوطنية والمحافظة على قاعدة 51 ـ 49 وحق الشفعة لبلوغ الهدف الرامي إلى تثمين الشراكة في هذا المجال”.
تعول الحكومة على أن يساهم هذا القانون في توقيع اتفاقات ناجعة، خاصة وهي بصدد تجديد العقود طويلة المدى مع الأجانب التي ستتضمن وفق هذا القانون تقاسم مخاطر الاستكشاف والاستخراج معًا
وتنص قاعدة 51/49 على امتلاك الشريك الجزائري على الأقل لـ51% من أسهم أي استثمار مع الأجانب الذين يمنع عنهم ملكية أكثر من 49%.
ورغم أن قانون المالية لـ2020 نص على إلغاء هذه القاعدة الاقتصادية في الاستثمارات الأجنبية، فإنه استثنى ما سماها “القطاعات الإستراتيجة” مثل المحروقات والمعادن والبنوك من إلغاء هذه القاعدة.
وحسب عرقاب، فإن “قانون المحروقات يحفظ مصلحة الجزائر والجزائريين بالدرجة الأولى ويهدف بالأساس إلى زيادة وتجديد المخزون الوطني من المحروقات الذي استهلك منه 60%، فضلًا عن ضمان الاستجابة المتزايدة ومواكبة الديناميكية التي تعرفها البلاد والنمو الاقتصادي من خلال توفير إمكانات مالية من مداخيل المحروقات”.
وتعول الحكومة على أن يساهم هذا القانون في توقيع اتفاقات ناجعة، خاصة وهي بصدد تجديد العقود طويلة المدى مع الأجانب التي ستتضمن وفق هذا القانون بتقاسم مخاطر الاستكشاف والاستخراج معًا، بدل تحمل شركة سوناطراك الحكومية التكاليف لوحدها.
غير أن الخبير الاقتصادي فارس مسدور الراغب في الترشح لرئاسيات 12 من ديسمبر/كانون الأول المقبل لا يقتنع بهذه التبريرات، بالنظر إلى أن القانون تم إعداده في فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ودعا إلى تأجيل طرحه حتى انتخاب رئيس جديد لأنه من يملك صلاحيات ذلك.
الإحصاءات تظهر أنه من أصل 67 منطقة استكشاف طرحت للمناقصة الدولية منذ سنة 2005، تم تسجيل إلى اليوم 19 عرضًا وتوقيع 13 عقدًا فقط، أي أن الطلب لم يتجاوز نصف المعروض
لكن هذه الحجة تبدو ضعيفة عند خبير الطاقة مهماه بوزيان الذي يبين أن “الحكومة القائمة حاليًّا قامت الآن فقط بالإفراج عن هذا القانون المحتجز منذ مدة في أروقة مسارات النقاش، وأقدمت على تحريره من التعطيل والتأخير، وأن رئيس الجمهورية الذي سينتخب في قادم الأيام، يمتلك كامل النظر، فإن تبين له أي قصور في القانون بإمكانه بكل ماله من شرعية شعبية تعديله أو إلغائه”.
أما رئيس القسم الاقتصادي بقناة الجزيرة الجزائري حاتم غندير فيقول: “تحفظي بشأن القانون يتعلق بتوقيت طرحه لا محتواه لأن هناك مبالغة في انتقاده وتحميله أحيانًا ما ليس فيه”، وبيّن أن “هذا القانون يتم الإعداد له منذ 2017 وجاء بسبب عزوف الشركات الأجنبية على الاستكشاف في الجزائر، إذ لم تتقدم أي شركة أجنبية للاستكشاف منذ سنوات نتيجة القوانين الضريبية والإدارية فضلاً عن ضعف احتمال اكتشاف حقيقي لاسترداد رأس المال المستثمر”.
ويعتقد حاتم غندير أن البلاد اليوم أمام “أمام معادلة خطيرة تتمثل في تراجع احتياطي الجزائر من النفط والغاز بنحو 60%، وتراجع الإنتاج الوطني بنحو 10% سنويًا، وزيادة استهلاك الطاقة الوطني 7% سنويًا، وزيادة استهلاك الكهرباء 12%”.
بين تبريرات المدافعين عن مشروع قانون المحروقات الجديد وانتقادات الرافضين له، يتفق الجميع على ضرورة تعديل القانون الحاليّ الذي أصبح غير قادر على مسايرة الوضع الاقتصادي والطاقوي للبلاد
وتستند الحكومة في المضي قدمًا في تطبيق هذا القانون على الواقع الاستثماري في قطاع الطاقة، فالإحصاءات تظهر أنه من أصل 67 منطقة استكشاف طرحت للمناقصة الدولية منذ سنة 2005، تم تسجيل إلى اليوم 19 عرضًا وتوقيع 13 عقدًا فقط، أي أن الطلب لم يتجاوز نصف المعروض.
وبين تبريرات المدافعين عن مشروع قانون المحروقات الجديد وانتقادات الرافضين له، يتفق الجميع على ضرورة تعديل القانون الحاليّ الذي أصبح غير قادر على مسايرة الوضع الاقتصادي والطاقوي للبلاد، وهو ما يحتم عليهم الجلوس لطاولة الحوار للاتفاق على توقيت مناسب لطرح هذا القانون، وإيجاد طريقة تبقي على أهم مورد لاقتصاد البلاد صلبًا لمواجهة التحديات المنتظرة اقتصاديًا وسياسيًا.