من أميرة هاس، التي قضت معظم حياتها بين الفلسطينيين، إلى جدعون ليفي، محلل الشؤون العربية الذي لا يتقن العربية، تمتد قائمة طويلة من الصحفيين اليساريين الذين تنشغل صحيفة “هآرتس” في تصديرهم إلى العالم والإقليم كوجه “معتدل” للصهيونية.
ذلك الوجه الذي يمنح “إسرائيل” تفوقًا ديمقراطيًا دائمًا على جوارها الغارق في القمع والاستبداد، ويترك لأقلام صحفييها، سواء الناطقة بالعبرية أو الإنجليزية، حظوة السبق في تناول الشأن الفلسطيني الداخلي، وتقديم صورة لصهيوني “متصالح” مع إمبرياليته، لا يجد بأسًا في التكرم بالفتات على الفلسطينيين.
يرى البعض أن “هآرتس” تتعامل مع الفلسطينيين كما لو كانوا أطفالًا لا يتحملون مسؤولية أفعالهم، بينما يعتبر آخرون أن ما تقدمه الصحيفة يخدم صورة “إسرائيل” أكثر مما يعكس حقيقتها: هو أكثر مما قد يتنازل عنه الإسرائيليون، وأقل بكثير مما قد يرضى به الفلسطينيون.
يرصد ملف “هآرتس وأخواتها” مسار الصحافة الإسرائيلية منذ نشأتها وارتباطها الوثيق بالمؤسسة العسكرية، مع التركيز على دورها في صياغة الخطاب السياسي وتشكيل التصورات داخل المجتمع الإسرائيلي، وتأثيرها على الرأي العام العربي والغربي طوال عقود من الحروب والانتفاضات والتحالفات.
وفي هذا السياق، يتناول الملف صحيفة “هآرتس”، بوصفها أول منبر إعلامي ناطق باسم المشروع الصهيوني، متتبعًا نشأتها وتطورها، وما واجهته من تحولات وتحديات، وصولًا إلى تموضعها اليوم في المشهد السياسي والإعلامي، محليًا وعربيًا، ضمن ميزان الصحافة وأخلاقياتها.
“أخبار الأرض”.. الصهيونية تُنتج أقلامها
مع حلول نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917، كانت القوات البريطانية قد بدأت بسط سيطرتها على مناطق من فلسطين؛ إذ احتلت القوات القادمة من مصر القسم الجنوبي من البلاد، وفرضت عليه حكمًا عسكريًا.
فيما بعد، دخل قائد القوات البريطانية، الجنرال إدموند ألنبي، مدينة القدس من باب يافا، مصحوبًا بكتيبة عسكرية يهودية، ما أثار مشاعر الحبور في كلٍّ من أمريكا وأوروبا، وعزّز ثقة زعماء الصهيونية بإمكانية تحقيق وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور لهم – الصادر قبل أسبوعٍ فقط – بإقامة وطنٍ قومي على أرض فلسطين.
ونتيجةً لعدد المجندين الكبير في جيش الانتداب وتنوع جنسياتهم، والحاجة إلى تقديم نشرة معرفية دورية لهم، أصدر البريطانيون في الرابع من أبريل/نيسان 1918 صحيفة أسبوعية تُدعى “أخبار من الأرض المقدسة”، نُشرت بست لغات الإنجليزية والعربية والعبرية وثلاث لهجات هندية، ولاحقًا، تم تعديل اسمها ليصبح “أخبار من الأرض”، وحُذفت كلمة “مقدسة” بعد إدراك سلطات الانتداب أنها تحمل تمييزًا لصالح اللغة العبرية.
لم يدم إصدار الصحيفة طويلًا، فبعد عامٍ واحدٍ فقط أغلقها البريطانيون وعرضوا ترخيصها للبيع. وهنا، سارع الاتحاد الصهيوني الاشتراكي للعمال العبريين في “أرض إسرائيل” (أحدوت هعفودا) لمحاولة شرائها وتحويلها إلى صحيفة ناطقة باسمه، فاستعان بالحركة الصهيونية، التي أرسل زعيمها حاييم وايزمان برقية عاجلة إلى الثري الروسي إسحاق ليب غولدبرغ يطلب منه العون المالي لشراء ترخيصها.
وفعلًا، قدم غولدبرغ حزمة سخية من المساعدات، بدأت بمنح الصندوق القومي اليهودي قطعة من الأرض لزراعة الزيتون، ثم شراء قطعة أخرى على جبل المشارف كتبرعٍ منه للجامعة العبرية (التي كانت آنذاك في طور التخطيط)، كما تبرع بتمويل إنشاء شركة “جولا” المتخصصة في شراء الملكيات الخاصة من العرب وبيعها لليهود، وشركة “الكرمل” المخصصة لبيع النبيذ “الحلال يهوديًا”، إلى جانب تقديم مبلغٍ آخر لشراء ترخيص صحيفة “هآرتس”.

ومع حلول يونيو/حزيران 1919، انطلقت الصحيفة تحت اسم “حداشوت هآرتس”، الذي يعني (أخبار من الأرض)، ووصفت نفسها بأنها “صحيفة يومية لأمور الحياة والأدب”، وذلك تحت إدارة رئيس تحريرها الجديد، شلومو زالتزمان، الذي سكب فيها خبرته في الصحافة اليهودية الروسية.
وخلال مدةٍ وجيزة، انتقل مقرها الرئيسي من يافا إلى القدس، وتحولت من صحيفة أسبوعية إلى يومية، كما تغير اسمها من “حداشوت هآرتس” إلى “هآرتس”، الذي يعني “أخبار الأرض”، وقد اجتذبت الصحيفة اهتمام الطبقات المثقفة من المهاجرين اليهود، وخاصةً الأشكناز.
توالى على رئاسة تحريرها عدد من الشخصيات البارزة، كان من أبرزهم ليب يافي، وهو صحفي يهودي من بيلاروسيا، استغل منصبه وقلمه للترويج للقضية الصهيونية، بالتزامن مع عمله مبعوثًا للحركة الصهيونية في كلٍّ من روسيا والولايات المتحدة.
مرةً أخرى، فشلت “هآرتس” في تجاوز العجز في الميزانية فأُغلقت، قبل أن يُعاد فتحها في تل أبيب مطلع عام 1923، برئاسة تحرير جديدة تولّاها موشيه جليكسون.
وبفضل الدعم المالي من بلدية تل أبيب، إلى جانب أقلام كبار كُتّاب الصهيونية مثل موشيه سميلانسكي ومردخاي بن هيلل هكوهين وإسحاق إبشتاين وأبراهام لودفيبول وإليعازر بن يهودا – محيي اللغة العبرية -، وابنه إيتامار بن آفي وزئيف جابوتنسكي – مؤسس الحركة الصهيونية التصحيحية وصاحب نظرية الجدار الحديدي -، استطاعت الصحيفة كسب اهتمام الجمهور.
وعلى مدى الأعوام اللاحقة، انطلقت الصحيفة في طبعات يومية مكوّنة من ثماني صفحات، تناولت حياة المهاجرين اليهود اليومية، ونقلت أخبار جنود الكتيبة اليهودية التاسعة والثلاثين في الجيش البريطاني، وسلّطت الضوء على حياة كبار زعماء الصهيونية واليشوف، إضافة إلى إنجازات الهستدروت ومشاريعه.
وما بين نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، كانت الصحيفة، التي حرصت على تأكيد عدم حزبيتها، تميل بشكلٍ متزايد نحو التيار الصهيوني العام، الذي وقف وسيطًا بين الصهيونية العمالية والصهيونية الدينية، ونتيجةً لذلك، طرحت أفكارًا ليبرالية متقدمة، واعتُبرت الأكثر انفتاحًا بين الصحف اليومية اليهودية آنذاك.
رغم ذلك، لم تتوقف مشاكلها المالية والإنتاجية؛ إذ كانت الكهرباء نادرة الاستمرارية، ومواد الطباعة رديئة الجودة، والعُمال في معظمهم متدينون إلى درجة دفعتهم إلى التغيب عن أعمالهم، في حين كانت عوائد الإعلانات أقل من أن تفي بمتطلبات الطباعة والتوزيع، ما أدى إلى حل مجلس إدارتها وبيعت إلى عائلة كوهين، التي أقدمت على بناء المقر الرئيسي للصحيفة في شارع مازيه في تل أبيب، إلى جانب تجديد مطبعة الصحيفة.
أصبحت “هآرتس” في يد ديفيد كوهين وإخوته، وتم تعيين آرون كوهين، ابن شقيق ديفيد، مديرًا عامًا للصحيفة، لكن مع تصاعد الاضطرابات الداخلية واندلاع الثورة الفلسطينية، تدهور وضع الصحيفة، ما دفع عائلة كوهين إلى بيعها إلى الثري الألماني اليهودي الصهيوني، شلومو سلمان شوكن، المهتم بنشر الثقافة اليهودية، وقد اشترى شوكن الصحيفة منتصف الثلاثينيات، وعيّن ابنه جيرشوم شوكن رئيسًا لتحريرها.
بتولي عائلة شوكن ملكية وإدارة الصحيفة، استطاعت تجاوز العديد من العثرات المالية والاقتصادية، وقد مكّنت الخبرة الصحفية التي اكتسبها جيرشوم شوكن في الولايات المتحدة من تطوير عمل الصحيفة وتحديد مسارها، حيث بقي رئيسًا لتحريرها لمدة 51 عامًا حتى وفاته عام 1990.
وحتى عام 2006، ظلت عائلة شوكن المالك الوحيد للصحيفة ومجموعة الاستثمارات الناشئة عنها، إلى أن باعت حصة منها إلى الناشر الألماني م. دومونت شاوبيرج، ثم في عام 2011، اشترى رجل الأعمال الروسي الإسرائيلي ليونيد نيفزلين حصةً قدرها 20٪ في مجموعة “هآرتس”.
وفي عام 2019، استعادت عائلة شوكن جميع الحصة التي كان قد اشتراها الناشر الألماني شاوبيرج، لتنحصر بذلك ملكية الصحيفة بين العائلة وبين الروسي نيفزلين.
صوتان لجريمة واحدة
مسار جابوتنسكي
تُعرف “هآرتس” في مجتمع الصحافة الدولية بأنها “الأكثر ليبرالية في الصحافة الإسرائيلية”، ما مكّنها من الاحتفاظ بلقب “منارة إسرائيل الليبرالية” حتى اليوم. وبالنسبة لآخرين، فهي تُعد الصحيفة الوحيدة ذات الميول اليسارية، نظرًا لخطابها الذي يعارض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، إلى جانب كونها الأكثر دعمًا لمحادثات السلام ولقاءاتها.
ربما لهذا السبب، يُشار إليها بشكلٍ متكرر بصفتها ممثلةً لنسبة هامشية من الجمهور الإسرائيلي لا تتجاوز 5%، لا سيما مع تصنيف الصحافة الغربية لها بأنها “صحيفة معارضة، معتدلة المواقف فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية والأمن، ولديها تحفظات على المعاملة التمييزية للمواطنين العرب”.
هذه التصنيفات هي أكثر ما تفخر به “هآرتس” في رسالتها وأقلامها، وهي أيضًا أكثر ما يجعل منها نصلًا حادًا يضرب القضية الفلسطينية في خاصرتها باحترافية جزار، ويمكن فهم ذلك بالعودة إلى القلم الأول الذي وضع “هآرتس” على الطريق، والقلم الثاني الذي رسم أمام كُتّابها حدودًا على صفحاتها، بينما تجاوز هذه الحدود في ميدان الفعل العسكري ضد الفلسطينيين ووجودهم وسرديتهم.
بعبارةٍ أخرى، تبدو “هآرتس” نموذجًا فريدًا كمنتج صهيوني ما زال يعمل بكفاءة وفعالية في كيان الاحتلال، فمن ناحية، يبدو مسارها ما بعد عائلة شوكن مختلفًا عن مسارها قبل ذلك، ومن ناحية أخرى، يبدو مسارها اليوم مغايرًا للمسار الصهيوني الإسرائيلي العام، أما من ناحية ثالثة، فإن استمرار وجودها يطرح إشكالية التلميع الذي تُتقن تقديمه لوجه كيانٍ بدأ منذ يومه الأول مسيرة الإبادة والتطهير.
بالنسبة لمسارها الأول، فوفقًا لأرشيف الصحيفة، فقد تصدّر جابوتنسكي ورفاقه؛ موشيه سميلانسكي ودانييل أوستر ومردخاي بن هيلل هاكوهين، واجهة المقالات الثقافية والسياسية منذ نشأتها الأولى، بل إن الرجل الذي نادى مطولًا باستخدام القوة المفرطة كأساس لتحقيق المشروع الصهيوني، كان أحد أبرز وجوهها، حيث استغل مقالاته فيها للترويج للاستيطان والهجرة، ولشن الهجوم على العرب.
وفي شهادة المدير الأول للصحيفة، شلومو زالتزمان، فقد كان جابوتنسكي ينشر مقالاته أحيانًا باسمه الخاص، وأحيانًا أخرى يوقّعها باسم “ألتالينا”، كما أن شعار الصحيفة، الذي ما زالت محتفظةً به حتى اليوم، هو إرث جابوتنسكي وتصميمه.
ناهيك عن دوره في تطوير الصحيفة والترويج لها، إذ كان يُعد “العضو الأكثر نشاطًا وحيويةً في هيئة التحرير”، حيث واظب على عملٍ يومي ولساعات طويلة في الصحيفة، يضطلع من خلاله بالكتابة والتحرير.
يقول زالتزمان إن جابوتنسكي كان يكتب مقالًا كل بضعة أيام حول قضايا اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو أدبية، كما عمل أيضًا مراسلًا أجنبيًا في رحلاته إلى الخارج، ومن لندن، كان يرسل إلى الصحيفة 100 كلمة عبر التلغراف ست مرات في الأسبوع، واصفًا كتاباته بأنها “تشبه السيف الحاد، وأسلوبه جديد وغير مصقول، مثل المثقاب والمبرد [أداة النجارة]”، وأضاف أن جابوتنسكي كان “الشخص الوحيد الذي يجد القارئ العبري في أرض إسرائيل مقالاته مثيرة للاهتمام”.
تكمن أهمية جابوتنسكي في مسار الصحيفة الأول أيضًا في أنه، منذ البداية، رسم لها خطًا بعيدًا عن الدوائر الأرثوذكسية الصهيونية المتطرفة، ومنها حركة المزراحي الصهيونية الدينية، ولم يكن هذا الخط متعلقًا بالاستيطان أو التهجير، وإنما بمشاركة المرأة اليهودية في التصويت والاقتراع، فبينما عارضت الحركة الصهيونية إمكانية انتخاب النساء أو تصويتهن في مراكز مختلطة مع الرجال، رفض جابوتنسكي منع أو تقليص عدد النساء اللواتي يحق لهن التصويت.
برأيه، كانت تلك بداية المواجهة الداخلية التي ستدفع أعداء اليهودية لاعتبارها جماعة دينية وليست أمة، وبالنسبة له، كان رفض النظام الديني في “أرض إسرائيل” ضروريًا، إذ اعتبره عبئًا وعقبة في طريق أي أمة مستنيرة، ففي مقاله المنشور بالصحيفة، كتب جابوتنسكي معارضًا كبير الحاخامات كوك، مشيرًا إلى أن مقاله الهش هو “استسلام للنزعة الدينية التي تحارب المساواة بين الجنسين”.
ويُضاف إلى أهمية قلمه تركيزه على دعم مجتمعات اليشوف والكيبوتسات الناشئة، والتأكيد على أهمية تعليم أفرادها اللغة العبرية، وتوحيد طقوسهم بما يتناسب مع فكرة الوطن القومي لليهود، إضافة إلى الحشد لعمل عسكري سريع واستيطان قسري يُتيح لليهود تملك كامل الأرض، وحتى الضفة الشرقية منها (الأردن).
ومع الوقت، وبالتزامن مع معارضته للاحتفاء اليهودي بالمفوض السامي البريطاني هربرت صموئيل ومدير الكيرن كيميت ليسرائيل (الصندوق القومي اليهودي)، اللذين كانا يحرضان على الاستيطان بطرقٍ ناعمة مثل شراء الأراضي واستخدام القوانين الحكومية البريطانية لتملك أكبر مساحة ممكنة وعبرنة الأيدي العاملة (جعلها يهودية).
ومع مهاجمته العلنية لهم، واستخدامه الصحيفة لانتقاد سياساتهم التي وصفها بـ”البطيئة وغير الكافية لتحقيق المشروع الصهيوني سريعًا”، وإلحاحه على الحسم العسكري كطريقٍ وحيد لإقامة الوطن الموعود، ورفضه للوجود البريطاني في “وطنه اليهودي”، انفصل جابوتنسكي عن الصحيفة نهاية عام 1933، ومع ذلك ظل نهجه ساريًا من خلال رئيس التحرير موشيه جلوبرمان، الذي واصل دعم الاستيطان والتوسع والتهجير، لكن بخطابٍ نخبوي.
وخلال حقبة جابوتنسكي، شاركه خطابه العدواني كلٌّ من موشيه صموئيل غليكزون، الذي اهتم بالترويج لأفكار الهجرة اليهودية وتوزيع الاستيطان في فلسطين، ويسرائيل إسحق ليفين، الذي ركز على السياسة اليهودية العالمية وعلاقاتها مع الدول العربية، إضافةً إلى شموئيل تمير، الذي كان من مؤيدي الصهيونية التصحيحية (تصحيحية جابوتنسكي).
مسار شوكن
مع انتقال ملكية الصحيفة إلى عائلة شوكن، بدأت مسارها الثاني، الذي بدا يساريًا ليبراليًا واضح المعالم، لا سيما مع نشاطها في تحالف “بريت شالوم”، الذي روّج لإقامة وطن مشترك لليهود والعرب بعد انتهاء الانتداب البريطاني، وقد دعا هذا التحالف إلى الحفاظ على العلاقات مع العرب، وتنمية فلسطين على أساس من المساواة السياسية المطلقة والاستقلال الثقافي لكلٍ منهما.
تبنّت الصحيفة مسارًا انتقاديًا للسياسات الإسرائيلية الداخلية، كما انتقدت ممارسات الحركة الصهيونية “المتشددة”، لكن ذلك لم يمنعها من مواصلة دعم إقامة الدولة الإسرائيلية على أسس حديثة، ولا عن الدفاع عن وجودها لاحقًا كدولة يهودية.
في الواقع، فإن قيمة مسار شوكن تُحدد بظاهره المخادع الذي يتناقض تمامًا مع باطنه؛ فالرجل الذي يُنسب إليه اليوم الفضل في ترسيخ “منارة الليبرالية في إسرائيل”، كان عضوًا في مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي، المسؤول عن توسيع الاستيطان في فلسطين، وله مساهمات مباشرة في شراء الأراضي الفلسطينية في منطقة حيفا وخليجها، كما شارك ابنه البكر في دعم وتأسيس بنك أنجلو فلسطين، المموّل الرئيسي للاستيطان، الذي يُعرف اليوم باسم بنك “لئومي”.
أما ابنه جدعون شوكن، فقد تطوع مبكرًا في الجيش البريطاني، ثم انضم إلى عصابات الهاجاناة التي نظمت حملات التطهير العرقي بحق الفلسطينيين إبان النكبة، ونتيجة لدوره “الرائد” فيها، تم ترقيته إلى منصب رئيس قسم القوى العاملة في جيش الاحتلال الإسرائيلي برتبة جنرال.
واصل شوكن الابن خدمته في الجيش من خلال التخطيط لبنيته الأساسية، بحيث تتألف من وحدات صغيرة مدعومة بمجموعات أكبر من قوات الاحتياط، كما عمل في أقسام القتال السري والمخابرات، وأقام علاقات تعاونية مع الجيش البريطاني.
ولا يقتصر الأمر على شوكن ودوره في تمويل الصحيفة، أو دور ابنه في إدارة قسم التحرير فيها، أو انخراط ابنه الآخر في جيش الاحتلال، بل يمتد إلى طاقم الصحيفة “الليبرالية” نفسه، ومن بينهم زئيف شيف، الذي شغل منصب محرر الشؤون العسكرية حتى عام 2007، وكانت له مساهمات صحفية بالشراكة مع صحفٍ دولية، مثل “نيويورك تايمز” و”فورين أفيرز” و”واشنطن بوست”.
ومن المهم الإشارة إلى أن “الصحفي الليبرالي العسكري” الذي غطى كلًا من حرب الاستنزاف، وحرب لبنان، والانتفاضتين الأولى والثانية، كان مؤيدًا للأمن والقوة العسكرية الإسرائيلية، إذ كان يرى السلام بوصفه تسويةً للصراع وليس حلًا له، معتبرًا أن الحاجة إليه مرهونة بما يقدمه للأمن الإسرائيلي.
حتى في تغطيته للحروب الإسرائيلية ضد العرب، ورغم استعانته بأسلوب نقدي، فإنه لم ينتقد الحرب بحد ذاتها، بل انتقد “القوة المفرطة”، ولم يعارض احتلال لبنان بل انتقد “التورط العميق فيه”.
ينطبق ذلك على داني روبنشتاين، محلل الشؤون العربية، الذي خدم جنديًا في الكتيبة الأولى التي احتلت الضفة الغربية عام 1967، لكنه في الوقت نفسه حظي بثقة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من خلال كتاباته التي تعاطفت مع الفلسطينيين وشجعت الاعتراف بهويتهم “الثقافية”.
اللافت أن روبنشتاين كان أيضًا من أكثر الصحفيين الإسرائيليين متابعةً من قبل الجمهور الفلسطيني، لا سيما بفضل قدرته على تحقيق سبْقٍ صحفي متكرر في الشأن الفلسطيني الداخلي، وكشفه ملفات فساد وانتهاكات حقوق الإنسان داخل السلطة الفلسطينية.
ورغم ذلك، لم يمنعه هذا من دعم “إسرائيل” كدولة، والدفاع عن استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين، معتبرًا ذلك “دفاعًا عن النفس”، كما رفض تشبيه النظام الإسرائيلي بأنه “قمعي ونظام فصل عنصري” على غرار جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري، مدعيًا أن “الوضع أكثر تعقيدًا”، ودافع عن السياسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية بوصفها “رد فعل للتهديدات الفلسطينية وليس مجرد قمع متعمد”.
في قائمة طاقم الصحيفة ذي التوجه الثنائي (ليبرالي-يميني)، يبرز يوسي ميلمان، مراسل الاستخبارات والشؤون الاستراتيجية، الذي يُعرّف نفسه بأنه “إسرائيلي يساري”، ويدعو إلى التخلي عن احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنه في الوقت ذاته يرفض منح الفلسطينيين حق العودة، بحجة أن تطبيقه سيقوّض فكرة حل الدولتين في أذهان الإسرائيليين.
كذلك هناك عكيفا إلدار، رئيس مكتب الصحيفة في الولايات المتحدة، الذي يعارض الاستيطان ويدعم حل الدولتين والانفتاح على العالم العربي، لكنه يؤيد استمرار قيام دولة يهودية على أرض فلسطين، مشترطًا أن تكون عادلة وديمقراطية، حتى لا تفقد طابعها الديمقراطي.
وينضم إليهما جدعون ليفي، الذي يُعد من أبرز الصحفيين الإسرائيليين شهرة، وله كتابات دورية في عددٍ من الصحف العالمية، فضلًا عن منشوراته التي تسلط الضوء على معاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتدعو إلى مقاطعة “إسرائيل” باعتبارها غير ديمقراطية وتمارس احتلالًا غير مشروع.
كما تضم القائمة توم سيجيف، أحد المؤرخين الجدد ودعاة تيار “ما بعد الصهيونية”، الذين شككوا في الرواية الإسرائيلية للنكبة، لكنه مع ذلك اعتبر احتلال القدس الشرقية “أمرًا مرغوبًا دائمًا”.
أما أميرة هاس، فهي الاستثناء الوحيد بين الصحفيين الإسرائيليين في القائمة، حيث لم تخدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد تسللت إلى قطاع غزة عبر أسطول الحرية، وقضت أيامًا بين الفلسطينيين. وتضم القائمة أيضًا أنشيل فيفر، الذي غطى الشؤون الدولية والعسكرية، وتسلسل إلى مصر إبان ثورة يناير مستخدمًا جواز سفر بريطاني، والقائمة تطول.
أثر الليبرالية اليسارية بين النصين
ربما لفهم الانفصام بين حقيقة “هآرتس” ومزاعمها حول الليبرالية الزائفة، علينا التمعن في عناوينها الرئيسية بين النكبة والنكسة، ففي مايو/أيار 1948، عنونت “هآرتس” صفحتها الرئيسية: “رؤية الأجيال تتحقق: لقد تأسست دولة إسرائيل”، وبعد احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967 كتبت على الصفحة نفسها: “بعد 60 ساعة من الحملة المجيدة لقوات الدفاع الإسرائيلية: البلدة القديمة في القدس وغزة وسيناء والضفة في أيدي إسرائيل”.
هذه العناوين تُظهر التناقض بين الخطاب الليبرالي الذي تدعي الصحيفة تبنيه في وقت لاحق، وبين مواقفها في مراحل مفصلية من تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث كانت تحتفل بالإنجازات العسكرية الإسرائيلية وتعتبرها “مجيدة”، بينما كانت “هآرتس” في الوقت نفسه تدعي الانفتاح على السلام والحل السياسي.
بذلك، “هآرتس” بنت سمعة دولية مرموقة باعتبارها صحيفة ليبرالية، مفرطة في نقدها للحكومة الإسرائيلية، ويشهد على ذلك شبكة الارتباطات الدولية لمراسليها وكتابها، التي لا تقتصر على جهة صحفية واحدة.
فضلاً عن حجم إنتاجهم الأدبي والفكري الذي يوثق هوية “إسرائيل” وحروبها، بالإضافة إلى حياة الفلسطينيين ووقائع الميادين العسكرية والدبلوماسية، كما يعتمد على منتوجهم الصحافي كل من الصحافة العربية والفلسطينية، مع احتفاء كبير بمواقفهم في الأوساط الفلسطينية والعربية والدولية.
لكن، بالرغم من ذلك، لم تبذل الصحيفة جهدًا حقيقيًا لصالح الفلسطينيين، سواء في إنهاء الاحتلال أو تحسين ظروف حياتهم، خصوصًا في ظل وجود المهجرين داخليًا.
وكل ما قدمته هو تسليط الضوء على قضاياهم، مع ما يثير إعجاب الغرب من “شجاعة” مراسليها في تحدي آلة الاحتلال العسكرية، التي خدموا في وحداتها في وقت ما، وكتبوا عن قوتها لاحقًا. في المقابل، قدمت خطابًا معتدلاً يرفض “إيقاع” الحرب وضجيجها، ولكنه لم يرفض العمل العسكري نفسه.
قليلٌ من النقد.. كثيرٌ من الديمقراطية العمياء
في بداية التسعينيات، بدأت “هآرتس” تجاوز حدود الصحافة الإسرائيلية المحلية واتجهت نحو العالمية، فكانت أول شريك دولي لصحيفة “تريبيون”، ثم في عام 1997 أطلقت نسختها الإنجليزية تحت إدارة الصحفي الإسرائيلي ديفيد لاندو، بالتعاون مع صحيفة “إنترناشيونال هيرالد تريبيون”، التي كانت في ذلك الوقت تُنشر من مركز الصحافة في باريس المملوك مناصفةً بين “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”.
سمح خروج “هآرتس” إلى الساحة العالمية بتعزيز مكانتها، خاصة في ظل غياب صحافة إسرائيلية منافسة، فكانت تُعتبر الصحيفة التي “وزنها أكبر من عدد قرائها”، لكن على الرغم من ذلك، فقد ازدادت مبيعات نسختها الإنجليزية التي كانت توزع مع صحيفة “نيويورك تايمز”، وعند تدشين موقعها الإلكتروني في عام 2005، أصبحت الصحيفة بمثابة “المكان الوحيد للحصول على معلومات موثوقة” بالنسبة للزعماء السياسيين ورجال الأعمال والأكاديميين، وفقًا لما ذكرته على موقعها.
بينما كان توزيع “هآرتس” اليومي يصل إلى 70 ألف نسخة في عام 2005، إضافة إلى 12 ألف نسخة مع صحيفة “إنترناشيونال هيرالد تريبيون”، بلغ عدد مستخدمي موقعها الإلكتروني -باللغتين العبرية والإنجليزية- مليونًا و700 ألف مشترك في نفس العام.
تزامن المشروع الذي سحب “هآرتس” إلى خارج منطقة الشرق الأوسط مع مشروع سابق أطلقه لاندو نفسه، بهدف “تجنيد صحفيين فلسطينيين إسرائيليين”، ونتيجة للمشروع فقد تم تدريب دفعات من 20 شخصًا، تم توظيف خمسة منهم للعمل في الصحيفة “من خلال وجهة نظرهم”.
مع ذلك، يظهر هذا المشروع كنوع من “القوقعة لليبرالية الزائفة”، إذ إن الصحفيين الفلسطينيين كانوا في معظمهم درزيين، وهي الطائفة العربية الوحيدة التي تخدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما أن مقالاتهم كانت تُنشر في الصفحات الأخيرة من الملاحق الأسبوعية، ويتم تحريرها من قبل محررين يهود إسرائيليين، مع تدخل دائم لمقص الرقابة العسكرية الإسرائيلية.
رغم ليبراليتها المرفوضة إسرائيليًا، حافظت “هآرتس” على وجودها في الساحة الصحفية، ففي عام 2022، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة “TGI” أن “هآرتس” احتلت المرتبة الثالثة في عدد القراء المحليين، حيث وصل عدد قراءها إلى 4.7%، ومع ذلك كان هذا الرقم بعيدًا عن التناسب مع سمعتها الدولية وانتشارها الواسع في الغرب، واحتفاء الصحافة العالمية بإنتاجها ووجهة نظر كتّابها.
يرتكز هذا الاهتمام الغربي والدولي بصحافة “إسرائيل” بعد السابع من أكتوبر 2023، حين طغى الخطاب العدائي والوحشي ضد الفلسطينيين، حيث برزت “هآرتس” كاستثناء وصوت معارض للاحتلال والاستيطان، بينما كانت حمى الانتقام تشتعل في معظم الأوساط الإسرائيلية، حافظت “هآرتس” على صورة “إسرائيل” كدولة تسمح بحرية التعبير وتعدد الأصوات.
لكن هذا لا ينطبق بالطبع على الأصوات العربية الفلسطينية، التي تم وصفها بـ”الطابور الخامس”، وواجهت هجمات وملاحقات واعتقالات على خلفية منشورات أو دعمٍ خفي لإخوانهم الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، كما لا يشمل هذا الأصوات الصحفية العربية مثل الجزيرة، التي رفضت الحرب.
مع الفلسطيني.. ضد تحرره!
يفسر المحاضر في كلية الإعلام بجامعة خضوري فلسطين، محمد اشتيوي، في حديثه مع “نون بوست”، أداء “هآرتس” كنوع من “كسر الحاجز” بين دولة الاحتلال ومحيطها الإقليمي، واختراق مريح للفكر العربي والعالمي والفلسطيني في إثبات ثنائية “المحتل السيء والمتطرف” مقابل “المحتل الجيد والليبرالي”.
هذا الأسلوب هو نفسه الذي جعل الأنظمة والمحللين العرب يشعرون بالراحة مع اليسار الإسرائيلي مقارنةً باليمين، رغم أن كلاهما يرفض الفلسطينيين وتطبيق حق عودتهم، لكن اليسار يقدم الفُتات في حين يفضل اليمين ابتلاع كل شيء.
يعتبر اشتيوي أيضًا أن الصحفيين الليبراليين في “هآرتس” يحققون مكاسب على المستوى الدولي، حيث يُنظر إلى دولة الاحتلال باعتبارها بلدًا للحريات وواحة للديمقراطية، بينما يحقق الصحفيون اليمينيون مكاسب على المستوى الداخلي من خلال دعم وتأييد الجمهور الإسرائيلي لهم، ومع ذلك يلفت اشتيوي النظر إلى أن الصحفيين اليساريين الليبراليين لا يحافظون على مسارهم لوقت طويل، بل غالبًا ما يغيرونه مرارًا.
يُثبت اشتيوي وجهة نظره من خلال تحولاتهم المهنية، حيث يتنقلون بين صحف مثل “هآرتس” و”جورزاليم بوست” و”يديعوت أحرونوت” و”إسرائيل هيوم” و”تايمز أوف إسرائيل”، رغم الاختلاف الكبير في توجهاتها، كما يستند إلى طبيعة تعاقداتهم الدولية مع صحافة غربية صهيونية تدعم الاحتلال حتى النخاع.
مع ذلك، يستدرك اشتيوي أن وقت “هآرتس” قد انتهى مع تحولات المجتمع الإسرائيلي، فتركيز الصحيفة على مكاسب التطبيع والانفتاح على الدول العربية لم يعد ذا أهمية في ظل الانبطاح الرسمي للدول العربية نفسها، كما أن محاولتها التركيز على هشاشة المجتمع الفلسطيني لم تعد تصلح بالنظر للإجماع الإسرائيلي على ضرورة اقتلاعه بمختلف تياراته وألوانه، وأخيرًا يرى أن الهجمة على وحشية “إسرائيل” وإبادتها أكبر من أن تتمكن “هآرتس” من تلميع صورتها.
يكتسب ما يطرحه اشتيوي وجاهة في ضوء التوجه الرسمي الأخير للحكومة الإسرائيلية، التي أعلنت في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 قرارًا بمقاطعة صحيفة “هآرتس”، ومنعت جميع المسؤولين الحكوميين والعاملين في الهيئات الممولة من الدولة من التعامل معها، كما حظرت نشر أي إعلانات حكومية على صفحاتها.
وفي هذا السياق، يظهر تصريح عاموس شوكن، رئيس تحرير الصحيفة وناشرها، في مؤتمرها السنوي في لندن، عندما قال إن الحكومة الإسرائيلية “تفرض نظام فصل عنصري قاسٍ على الشعب الفلسطيني”، وأضاف أنها “تقاتل المقاتلين الفلسطينيين من أجل الحرية، الذين تصفهم إسرائيل بالإرهابيين”، ومع ذل كسرعان ما أوضح شوكن أنه لم يقصد حماس بقوله “المقاتلين من أجل الحرية”.
إن هذا القول يعبر عن حقيقة ساطعة مفادها أن “هآرتس” ليست ممثلة في سياستها الليبرالية الغربية لعموم المجتمع الإسرائيلي، بل تظل معزولة عن الشرائح الأكبر من المجتمع، وقد أكد ذلك ما قاله مراسلها السابق في الولايات المتحدة، شمويل روزنر، الذي أشار إلى أن “الأشخاص الذين يقرؤونها هم أكثر تعليمًا وتطورًا من معظم الناس، ولكن بقية البلاد لا يعرفون أنها موجودة”، كما يعزز هذا القول ما قاله محررها السابق حنوك مرمري، التي وصفت الصحيفة بأنها “منفصلة” عن الحياة السياسية في البلاد.
بينما تحلو لإدارة “هآرتس” الحالية الإشارة بشكلٍ متكرر إلى أن رواد موقعها باللغة الإنجليزية هم من مؤيدي فلسطين ومؤيدي “إسرائيل”، وأن الموقع هو المكان الوحيد الذي يجمع النقيضين بتوافقٍ تام، فإن دراسة المجلة الدولية للصحافة السياسية خلصت إلى أن تغطية الصحيفة وتقاريرها كانت أقرب وأكثر ملائمة للإسرائيليين من الفلسطينيين، كما أن تموضعها كان غالبًا لصالح الرواية الإسرائيلية مع ميل طفيف للحقوق الفلسطينية “الإنسانية العامة”.
إذ يدرك القائمون على “هآرتس” جيدًا أهمية دورهم وأدائهم الإعلامي، ولذلك يحافظون على مسافة بين ما يُتوخى وما يُطرح، فتثير الصحيفة قضايا الاستيطان، لكن في الوقت نفسه تصف القرى الفلسطينية كجزء من محيط مستوطنة كبرى. يدافعون عن حق الفلسطينيين في الحرية، ولكنهم يرفضون المقاومة. ينتقدون القصف والتدمير الإسرائيلي ويصفونه بالفظيع والوحشي، لكنهم يرفضون اعتباره إبادة أو جريمة حرب.
في هذا السياق، يقول جدعون ليفي، أحد أبرز كُتاب “هآرتس” المدافعين عن سياستها: “إذا اختفت يديعوت أحرونوت، فستظل إسرائيل كما هي، أما إذا اختفت صحيفة “هآرتس”، فلن يستمر أحد في الحديث عن الأراضي الفلسطينية، أو المخاطر البيئية، أو اضطهاد النساء”. بالنسبة لِليفي، الذي يعتبر القلم الأكثر مواجهة في الصحيفة، فإن الفلسطينيين والتلوث البيئي، وعدم المساواة مع النساء وإبادتهن، هما قضايا مترابطة وواحدة.
هل بعد ذلك من ضلال؟
بالمحصلة، يبدو أن “هآرتس” ما زالت تؤدي دورها على أكمل وجه، حيث تحمي ما تبقى من الصهيونية الغربية من التفتت والتشرذم، وتعزز موقعها كمنبر ليبرالي يحمي الوجود اليهودي في فلسطين تحت مسميات الحرية والعدالة والمساواة، مع استمرار تقديم الفلسطيني كضحية تُثري عناوينها وزواياها.
وذلك ضمن سياسة تواصل إخراج فقاعات إعلامية يتلقفها الإعلام العربي والفلسطيني، حيث تكشف “هآرتس” عن عمق الهشاشة التي تجعل العرب والفلسطينيين يُسارعون إلى اعتبار النقد انفصامًا وانقسامًا، ويرحبون به وبأصواتها باعتبارها “متفتحة معارضة وواعية”، متجاهلين أن كُتاب الصحيفة قد خدموا في جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يتوجوا خدمتهم بالإعلام.
كما تكشف الصحيفة عن اتساع النفاق الغربي الذي يُهلل للأصوات التي ترفض الاستيطان لكنها تؤيد الاحتلال والتهجير الداخلي والحروب تحت مسمى “رد الفعل”، ما يُتيح لهم النظر إلى النقد باعتباره ديمقراطية قل نظيرها في الشرق الأوسط.
تحت الشمس الغربية، ما زالت دولة الاحتلال تُعتبر دولة حريات، حيث يُتاح لـ”هآرتس” أن تُنادي بالفتات من أجل فلسطين، وتُتاح للحكومة الإسرائيلية حرية حجب التعاون الإعلاني معها، ما يثير ضجة دولية حول حرية الصحافة وأقلامها، بينما تُهدر دماء عشرات الصحفيين على بعد كيلومترات قليلة دون أن تثير ضجة أو صخبًا.
في هذا السياق، تخرج محللة الصحيفة للشؤون الإسرائيلية لتتباكى على المهدور، قائلة: “إن مساحة النقد ضاقت بشكل كبير، ليس فقط من قبل الفلسطينيين، بل وأيضًا من قبل الإسرائيليين اليهود”.
من “المريح جدًا” معرفة أن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين سببه “مساحات النقد”، لولا تصريحها لظننا أنه صراعٌ على الأرض أو الهوية، أو الحق في الوجود مثلًا. “مريحٌ جدًا” ذلك القول، أليس كذلك؟ من أجل ذلك وُجدت “هآرتس”، ومن أجل تدوير الصراع من الأرض إلى النقد، ستبقى.