الفن لا ينفصل عن حياة الناس، فثمة رابطة بينهما تصل إلى حد الانصهار الكامل، وربما هذا ما يفسر لنا لماذا عادت السينما السودانية بقوة عام 2019 بعد أن تلاشت تمامًا خلال العقود الأخيرة، فخلال هذا العام فقط تربعت ثلاثة أفلام سودانية على عرش السينما العربية وهو الأمر الذي يحمل الكثير من الدلالات الفنية، فبعد سبات عميق لسينما السودان ظهرت تلك الأفلام بقوة كتعويض معنوي بسيط عن الثورة التي قامت ضد البشير ونظامه الذي جثم فوق صدر الشعب منذ ثلاثة عقود، فمتى بدأت السينما السودانية؟ ولماذا اختفت وعادت مجددًا؟
السينما في السودان.. تاريخ حافل بالإنجازات والأعمال المميزة
عرف السودان السينما قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان، فخلال عام 1910 قُدم أول عرض سينمائي في البلاد وكان في مدينة الأبيض في احتفال أُقيم بمناسبة وصول السكة الحديد لغرب السودان، وحين استقل السودان عام 1956 كان عدد دور السينما 30 دارًا، وفي العام نفسه تم إخراج أول فيلم تسجيلي في السينما السودانية بعنوان “الطفولة المشردة” من إخراج كمال محمد إبراهيم وكان الفيلم يسرد معاناة الأطفال القرويين الذين ينزحون إلى المدن للعمل بها ولكنهم يجدون صعوبة كبيرة في الانسجام وهو الأمر الذي تسبب في انحراف الكثير منهم وامتهان السرقة، كما أنتجت السينما السودانية أيضًا حينها فيلم “المنكوب” وهو فيلم درامي قصير سلط الضوء على انتشار مرض السل في السودان وحكى معاناة الشعب السوداني جراء هذا المرض اللعين.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت صحف الخرطوم دومًا عنوانًا رئيسيًا لقرائها وهو “أين تسهر هذا المساء؟”
في مطلع سبعينيات القرن الماضي وصل عدد دور العرض إلى 55 وشهد السودان إنتاج أول فيلم روائي طويل من إخراج الرشيد مهدي وهو فيلم “آمال وأحلام” جاء بعده أفلام روائية أخرى مثل “تاجوج” لجاد الله جبارة و”رحلة عيون” لأنور هاشم بالإضافة إلى “بركة الشيخ” لمصطفى إبراهيم و”يبقى الأمل” لشركة عليوة.
الحراك السينمائي في السودان: حين كانت دور العرض مصدرًا رئيسيًا للتنوير
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت صحف الخرطوم دومًا عنوانًا رئيسيًا لقرائها وهو “أين تسهر هذا المساء؟” ثم تدرج لهم أسماء أكثر من 20 عرضًا سينمائيًا، هل كليزيوم أم السينما الوطنية أم بانت، إلخ، حينها كان لكل سينما نكهة ومذاق فني متخلف كما كان لكل منها معمار مميز، فسينما كوليزيوم في العاصمة تختلف عن سينما النيل الأزرق، ولم تكن دور العرض حينها تقتصر على العاصمة، إذ كانت هناك دور عرض بجميع الولايات مثل سينما جوبا وكوستي والأبيض وسينما عطبرة والمناقل ونيالا وشندي.
رغم عراقة التاريخ السينمائي في السودان ووجود إرث عظيم من الأعمال الفنية، فإن السينما شهدت تدهورًا مريعًا في البلاد تماهيًا مع المشروع الحضاري الحكومي الذي كان يعادي الفن والفنانين
وإلى جانب دور العرض السينمائية عرف السودان نوعًا آخر من العروض وهو العربات السينمائية المتنقلة التي بدأ نشاطها قبل الاستقلال، إذ كانت تتجول في مختلف مدن السودان وتعرض أفلامًا تصويرية تخص التاج البريطاني، وبعد الاستقلال استمر نشاط تلك العربات وزاد عددها إلى 16 عربة سينمائية، كانت حينها تعرض أفلامًا عن الوقاية الصحية والطرق السليمة للزراعة، ولاقت تلك الأفلام استحسان سكان القرى النائية لأنها كانت تعرض أفلامًا تمسهم بشكل مباشر.
بداية العد التنازلي لانهيار السينما السودانية
رغم عراقة التاريخ السينمائي في السودان ووجود إرث عظيم من الأعمال الفنية، فإن السينما شهدت تدهورًا مريعًا في البلاد تماهيًا مع المشروع الحضاري الحكومي الذي كان يعادي الفن والفنانين، فمع وصول البشير إلى سدة الحكم في السودان عام 1989 تم إغلاق دور السينما وأوقف نشاطها نهائيًا بل وعُرض بعضها للبيع وصارت أطلالًا تحكي عن ماضٍ مجيد، ومن هنا تلاشت السينما تمامًا في السودان وحتى الأعمال السينمائية القديمة فقد تعرض أغلبها للتلف بسبب سوء التخزين والحرارة ومياه الصرف الصحي، كما أن الشركات الأوروبية الكبيرة أعادت الأفلام السودانية التي كانت تحتفظ بها وتحميها في الأرشيف الخاص بها لأن السودان لم يدفع ثمن الإيجار.
أفلام عام 2019 وعودة الأفلام السودانية في المهرجانات الفنية
على الأرض، بدأت احتجاجات شعبية واسعة النطاق بالسودان في ديسمبر من العام الماضي، وفي عالم الفن وتحديدًا بمهرجان برلين السينمائي الدولي نفض السودان عن نفسه بعضًا من ركام الديكتاتورية العسكرية والدينية التي كان يزرح تحتها منذ أكثر من ثلاثة عقود واستطاع أن يجد لنفسه مكانًا على الخريطة السينمائية بعد أن كان البلد الإفريقي العربي الوحيد الذي لم يكن يملك أي حضور في المحافل السينمائية بسبب عدم وجود سينما فيه لأسباب سياسية بالمقام الأول.
“التحدث عن الأشجار”.. فيلم وثائقي يحكي تاريخ السينما بالسودان
تدور أحداث الفيلم الوثائقي “التحدث عن الأشجار” للمخرج صهيب قسم الباري عن أربعة مخرجين سودانيين هم: منار الحلو وإبراهيم شداد والطيب مهدي وسليمان محمد إبراهيم، تجمع بين هؤلاء الأربع علاقة صداقة استثنائية استمرات قرابة 45 عامًا درسوا خلالها السينما بمصر وروسيا وألمانيا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ثم عادوا إلى السودان محملين بالكثير من الأحلام لصناعة السينما ونشر الثقافة في وطنهم، وفور العودة أسسوا جماعة الفيلم السوداني في 1989، ولكن جميع أحلامهم راحت أدراج الرياح بسبب قرار القيادة السياسية بإغلاق جميع دور العرض السينمائية.
يحكي فيلم “أوفسايد الخرطوم” للمخرجة السودانية مروة زين عن مجموعة فتيات يحلمن بتشكيل أول منتخب وطني للاعبات كرة القدم السودانيات والتأهل لبطولة كأس العالم
بعد 30 عامًا من الافتراق يعود الأربعة إلى وطنهم الثائر محاولين إنعاش أحلامهم القديمة وذلك عبر محاولة إعادة الحياة لدور العرض المهجورة، وخلال الفيلم نذهب مع الأبطال في رحلة طويلة وموجعة لتلك الدور وخلال الأحداث يحكي المخروج عن ماضي السينما السودانية في أسلوب يتسم بالفكاهة، في النهاية يصطدم الأبطال الأربع بتعنت السلطات الحاليّة التي ينتظرون موافقتها لإعادة فتح دور السينما في إشارة واضحة إلى عدم اكتمال الحلم السوداني بالحرية بعد.
فيلم “أوفسايد الخرطوم”.. حلم المرأة السودانية بعد الثورة
يحكي فيلم “أوفسايد الخرطوم” للمخرجة السودانية مروة زين عن مجموعة فتيات يحلمن بتشكيل أول منتخب وطني للاعبات كرة القدم السودانيات والتأهل لبطولة كأس العالم، وخلال أحداث الفيلم تعود بنا مروة للسياق السياسي في السودان الذي يرفض أن تلعب الفتيات كرة القدم، إذ يتعرض بطلات الفيلم للتحقيق بعد لعبهن مبارة قدم مع أحد فرق كرة القدم للرجال وذلك بعد أن حرمهم الاتحاد السوداني لكرة القدم من المشاركة الدولية في المنافسات الودية، ورغم كل الصعوبات والتحديات التي يواجهنها الفتيات، فإن الحلم يظل ينبض بداخلهن منتظرين رياح التغيير التي ستأتي بها الثورة.
فيلم “ستموت في العشرين”.. لوحة فنية ساحرة تحكي عادات الداخل
عُرض الفيلم السينمائي “ستموت في العشرين” للمخرج والمؤلف السوداني أمجد أبو العلا في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي بدورته الـ76 وبعيدًا عن الحديث عن الثورة قدم هذا الفيلم لوحة فلكلورية محلية ساحرة بُنيت أحداثها على رواية “النوم عند قدمي الجبل” للكاتب السوداني حمور زيادة.
لاقى هذا الفيلم اهتمامًا عالميًا كبيرًا وحصل على منح مالية من عدة جهات مثل منحة “سور فاند” النرويجية ومنحة بيروت ومنحة مهرجان برلين السينمائي
تدور أحداث “ستموت في العشرين” في عوالم صوفية بولاية الجزيرة في منطقة الشيخ عبد الباقي حيث يولد البطل مزمل في قرية سودانية تسيطر عليه الأفكار الصوفية وتصله نبوءة مفادها أنه سيموت في سن العشرين مما يجعله يعيش أغلب سنوات عمره في حالة من القلق والخوف، وذلك حتى يقابل المخرج السينمائي سليمان وتنقلب حياته رأسًا على عقب، فهل سيخرج مزمل من الحالة التي أضحت مسيطرة عليه؟ وكيف سيعيش حياته وهو محاصر بأفكار الموت القريب؟
لاقى هذا الفيلم اهتمامًا عالميًا كبيرًا وحصل على منح مالية من عدة جهات مثل منحة “سور فاند” النرويجية ومنحة بيروت ومنحة مهرجان برلين السينمائي وذلك وفقًا لتصريحات المخرج أبو العلا مدير برامج “مهرجان السودان للسينما المستقلة”.