في بلدٍ يئن تحت وطأة الفساد، ويعيش الملايين من أبنائه في ظروف قاسية، يصبح الحديث عن هدر المال العام على السيارات الفارهة والمشاريع الشكلية استفزازًا صارخًا لمشاعر المواطنين.
في العراق، الذي يحتل موقعًا متقدمًا في مؤشرات الفساد العالمية، يشهد منذ سنوات استنزافًا هائلًا لموارده المالية، حيث تُنفق المليارات على الكماليات، بينما تكافح البُنى التحتية المتهالكة من أجل البقاء.
وكان العراق احتل، في التصنيف العالمي لمؤشر الفساد للعام 2024 الصادر مطلع الشهر الماضي، المرتبة 140 عالميًا والثامنة عربيًا.
مليارات مهدورة في سباق الرفاهية
في خطوة أثارت استياء الرأي العام، كشف النائب السابق في البرلمان العراقي وائل عبد اللطيف، في يناير/ كانون الثاني الماضي، عن تخصيص البرلمان مبلغ 54 مليار دينار عراقي لشراء سيارات فارهة لأعضائه، رغم أن الدورة النيابية الحالية شارفت على الانتهاء، ولم يتبقَّ سوى أقل من ثمانية أشهر على انتهائها.
لم تمض ساعات على تصريح النائب حتى أصدر البرلمان العراقي بيانًا اعتبر فيه أنه “لم يسبق لمجلس النواب ان اشترى سيارات لأعضاء المجلس في الدورات السابقة أو الدورة الحالية”، مبررًا أن “السيارات التي تقرر شراؤها مؤخرًا إنما هي لأغراض الأمانة العامة لمجلس النواب سواء لأغراض خدمية أو لأغراض استقبال الوفود الرسمية وضيوف وزائري مجلس النواب من خارج البلاد وتنقلاتهم الداخلية”.
كما برر البرلمان شراء السيارات إلى “تعزيز دور المجلس على الساحة الإقليمية والعربية والدولية وتفعيل الدبلوماسية البرلمانية، بما يتماشى مع الممارسات المعتمدة في برلمانات العالم.
هذه الخطوة لم تكن سوى البداية في مسلسل إنفاق البرلمان المثير للجدل. ففي العام الماضي، أعلن المجلس عن مناقصة لشراء سبع سيارات من نوع تويوتا بكلفة تخمينية بلغت 826 مليون دينار عراقي، وهي خطوة أثارت انتقادات واسعة بين المواطنين، خصوصًا في ظل الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد.
لكن على الرغم من موجة الاستياء، مضى البرلمان قُدمًا في تنفيذ خططه، حيث نشر على موقعه الرسمي أربعة إعلانات أخرى لمناقصات لشراء سيارات فاخرة، بمبالغ ضخمة، منها:
- المناقصة الأولى: شراء أربع سيارات من نوع مرسيدس بنز S580، بقيمة إجمالية بلغت مليارًا و92 مليون دينار عراقي
- المناقصة الثانية: اقتناء ست سيارات كاديلاك إسكاليد بلاتينيوم، بتكلفة تقديرية وصلت إلى مليار و470 مليون دينار عراقي
- المناقصة الثالثة: شراء ست سيارات من نوع شيفروليه تاهو، بمبلغ 510 ملايين دينار عراقي.
- المناقصة الرابعة: شراء 35 سيارة تويوتا دون تحديد نوعها، بقيمة تقديرية بلغت مليارين و896 مليون دينار عراقي.
وبلغت قيمة هذه المشتريات أكثر من ستة مليارات ونصف المليار دينار عراقي (ما يقارب خمسة ملايين دولار أمريكي)، وهي ميزانية ضخمة تُوازي تكلفة مشاريع تنموية كان من الممكن أن تُحدث فرقًا حقيقيًا في حياة المواطنين.
محافظات على خطى البرلمان
لم يقتصر الأمر على مجلس النواب، بل امتد إلى الحكومات المحلية، التي بدورها لم تتوانَ عن تخصيص أموال ضخمة لتأمين سيارات فارهة لمسؤوليها.
في محافظة الأنبار، كشفت وثيقة رسمية صادرة عن ديوان المحافظة أن المحافظ محمد نوري الدليمي خصص سبعة مليارات دينار لشراء سيارات حديثة من نوع “شيفروليه تاهو” و”لاند كروزر”، لتوزيعها على أعضاء المجلس.
وعلقت لجنة الاستثمار النيابية على قرار المحافظ، وقال عضو اللجنة محمد الزيادي: “إذا لم يكن لمحافظ الأنبار مسوغ قانوني في شراء العجلات، فأين دور هيئة النزاهة التي تتحدث عن متابعة قضايا الفساد؟”، مشددا على “ضرورة التحقيق باسرع وقت”، مؤكدًا “إذا كانت هذه القضية فعلا موجودة على أرض الواقع فهذه مشكلة كبيرة تدخل بها شبهات الفساد”.
وليست المرة الأولى التي تُثار فيها قضايا مشابهة في الأنبار. ففي عام 2017، كُشِف عن صفقة فساد ضخمة، تمثلت في عقد شراء سيارات من نوع بيك أب أبرمه المحافظ الأسبق صهيب الراوي مع إحدى الشركات العسكرية، ما أثار موجة انتقادات واسعة آنذاك. وتعيد هذه القضايا تسليط الضوء على الفجوة الهائلة بين أولويات المسؤولين وأولويات المواطنين الذين يعانون من تدهور الخدمات الأساسية.
وفي مشهد مماثل، ألغت المحكمة الاتحادية قرار مجلس محافظة المثنى بشراء سيارات لأعضائه، بعد أن تبين أنه يخالف قانون الموازنة العامة.
والمفارقة هنا أن المحافظة ومركزها مدينة السماوة تتصدر قائمة الفقر في العراق، حيث تبلغ نسبة الفقر فيها 40%. ومع ذلك، كانت السلطة المحلية فيها تسعى لإنفاق مبالغ طائلة على رفاهية مسؤوليها بدلًا من تحسين أوضاع سكانها.
تجميل بغداد لاستقبال القمة العربية.. أولويات مغلوطة؟
مع اقتراب موعد القمة العربية المرتقبة في بغداد في أيار/ مايو المقبل، ظهرت موجة جديدة من الإنفاق الحكومي المثير للجدل. كشف عضو البرلمان النائب ياسر هاشم الحسيني أن الحكومة خصصت 177 مليار دينار عراقي لإزالة الأرصفة واستبدالها بأخرى جديدة، رغم أن العديد منها ما زال بحالة جيدة.
ونشر الحسيني تسجيلًا من أمام أحد الأرصفة الجديدة بالقرب من مبنى الأمانة العامة لمجلس الوزراء متسائلًا: “أليست هذه الأرصفة صالحة؟ لماذا تُزال وتُبدَّل بينما البلاد تعاني من أزمة مالية؟”.
مع كل مؤتمر دولي يُعقد في بغداد، تتكرر ظاهرة توجيه مليارات الدنانير نحو مشاريع تجميل الشوارع والطرقات التي ستشهد مرور مواكب المسؤولين والضيوف، فيما تبقى الأحياء الفقيرة في العاصمة غارقة في الإهمال.
خلال الشتاء، تتحول بعض المناطق إلى مستنقعات من الطين والمياه الآسنة بسبب افتقارها لمجاري الصرف الصحي، وفي الصيف، يعاني السكان من الازدحام الخانق، والعواصف الترابية، ودرجات الحرارة المرتفعة، وسط غياب تام للمشاريع التنموية التي يمكن أن تعالج أزمات الطرق، أو تحدّ من أزمة الجفاف، أو تدعم مشاريع التشجير لتحسين البيئة.
للاطلاع على الوثائق الرسمية المتعلقة بهذه النفقات اضغط هنا
فساد ممنهج أم سوء إدارة؟
مع كل مؤتمر دولي أو عربي يُعقد في بغداد تتكرر هذه الظاهرة حيث يتم توجيه مليارات الدنانير نحو مشاريع تجميل الشوارع والطرقات التي ستمر بها مواكب المسؤولين والضيوف، بينما تظل أحياء العاصمة الفقيرة تعاني من الإهمال المزمن.
في الشتاء، تغرق بعض المناطق في الطين ومياه الأمطار بسبب عدم وجود مجاري الصرف الصحي، وفي الصيف، يواجه السكان الازدحام القاتل، والعواصف الترابية، ودرجات الحرارة المرتفعة وسط غياب المشاريع الحقيقية لحل مشكلات الطرق، أو معالجة أزمة الجفاف، أو حتى مشاريع التشجير التي يمكن أن تحسن البيئة.
المحلل السياسي ياسر عدنان أعاد إلى الذاكرة تجربة قمة بغداد العربية في عام 2012، حين تم تبديد نحو 500 مليون دولار على مشاريع شكلية لم يبق منها سوى الذكريات المؤلمة للمواطن العراقي الذي لم يرَ أي تغيير حقيقي.
واعتبر عدنان في تصريح لـ”نون بوست” أن العراق اليوم لا يمتلك المقومات الأساسية لاستضافة مثل هذه المؤتمرات، في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية المتراكمة. مطالبا الحكومة بكشف جميع تفاصيل المشاريع بشفافية وتكليف شركات رصينة لضمان إنفاق الأموال بشكل صحيح.
ختامًا.. إن ما يحدث اليوم من تبديد مستمر للموارد العامة تحت شعارات فضفاضة، يعكس خللاً بنيويًا عميقا في إدارة الدولة لشؤونها المالية، وبينما تتسابق النخب السياسية لإظهار وجه العاصمة الجميل أمام المجتمع الدولي، يغرق المواطنون في معاناتهم اليومية، ما بين سوء الخدمات، وتدهور البنى التحتية، والفقر الذي يجتاح أحياءهم المنسية.
هذه الفجوة بين مظاهر الرفاهية للطبقة الحاكمة، وبين الواقع القاسي الذي يعيشه العراقيون، تحتاج إلى وقفة جادة وإعادة ترتيب عاجلة للأولويات، تضمن أن تُوجه أموال الدولة لخدمة الشعب أولاً.