تتصاعد موجة من التحريض والاستهداف الممنهج ضد اللاجئين السوريين في العراق، إذ لم تقتصر على حملة اعتقالات واسعة نفذتها القوات الأمنية العراقية بحق سوريين في مختلف المحافظات خارج إقليم كردستان فحسب، بل وصلت إلى اعتداءات عنيفة تقوم بها جماعات ملثمة تحت اسم “تشكيلات يا علي الشعبية”.
تأتي هذه التطورات في أعقاب حملة تحريض طائفي واضحة على وسائل التواصل الاجتماعي، وإجراءات أمنية مكثفة تستهدف اللاجئين بحجة مكافحة ما يوصف بـ”الترويج لتنظيمات إرهابية”، فيما دانت الخارجية السورية هذه الاعتداءات وطالبت السلطات العراقية بحماية مواطنيها، وسط مخاوف من تفاقم الوضع نحو مزيد من العنف والتضييق.
اعتقالات وتنكيل
على مدى الأيام الماضية، شنت القوات الأمنية العراقية حملة اعتقالات واسعة استهدفت اللاجئين السوريين في مختلف المحافظات العراقية، باستثناء محافظات إقليم كردستان.
وجاءت هذه الاعتقالات عقب قيام مجموعة من الشباب السوريين بنشر صور علم بلدهم الجديد (علم الثورة السورية) على صفحاتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، أو مشاركتهم صور رئيسهم أحمد الشرع، أو التعليق على الأحداث التي استهدفت أفراد قوات جهاز الأمن العام السوري في محافظتي طرطوس واللاذقية.
وتأتي الحملة الأمنية هذه في ظل موجة من التحريض الطائفي التي يقودها ناشطون ينتمون لأحزاب شيعية عراقية وفصائل مسلحة مرتبطة بإيران، بالإضافة إلى شخصيات دينية شيعية، وذلك كرد فعل على انتصار الثورة السورية وتراجع النفوذ الإيراني في سوريا بشكل ملحوظ.
يومي الجمعة والسبت الماضيين، أكدت مصادر أمنية عراقية اعتقال القوات الأمنية خمسة لاجئين سوريين وعدد من المدونين العراقيين، بتهمة نشر تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي تدعم عمليات السلطات الأمنية في سوريا ضد بقايا نظام بشار الأسد بعد أحداث الساحل السوري، التي هاجمت فيها فلول النظام البائد قوى الأمن العام، حيث تمت هذه الاعتقالات في العاصمة بغداد ومحافظات عراقية أخرى.
كما أعلنت وزارة الداخلية العراقية اعتقال شخص سوري الجنسية في بغداد، بتهمة الترويج لما يُسمى بـ “التنظيمات الإرهابية” عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدة أن عملية الاعتقال جرت بعد رصد إلكتروني، وأن مفارز شرطة الزعفرانية ببغداد تعقبت المشتبه به واعتقلته.
وتستمر حملة اعتقال السوريين في مختلف المحافظات، حيث كشف النائب في البرلمان العراقي محمد نوري عن حملة اعتقالات نفذها جهاز الأمن الوطني لتعقب من وصفهم بـ”مثيري الفتن” عبر مواقع التواصل الاجتماعي من السوريين في محافظة الديوانية، لافتًا إلى أن الإجراءات الأمنية لا تزال مستمرة في بغداد والمحافظات الأخرى، بالتنسيق مع الأجهزة الاستخبارية ووزارة الداخلية، على حد قوله.
ليس بعيدًا عن بغداد، شنت السلطات الأمنية في محافظتي النجف وكربلاء جنوبي البلاد حملة اعتقالات يوم الأحد الماضي، أسفرت -بحسب مصادر أمنية- عن اعتقال سوريين في النجف، وحسب وسائل إعلام عراقية فإن “مفارز الاستخبارات في النجف ألقت القبض على تسعة سورين مخالفين من ضمنهم اثنان يدعمان تنظيم جبهة النصرة الإرهابي”.
كما شنت القوات الأمنية في كربلاء حملة اعتقالات نحت ذريعة “الترويج للإرهاب في مواقع التواصل الاجتماعي فيما يخص أحداث سوريا”، ومن بين المعتقلين لاجئان سوريان في العراق.
ودعا النائب ضياء هندي الحسناوي من رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى “تحريك شكوى رسمية في مجلس الأمن الدولي” بعد رفع “شعارات مؤيدة لتنظيمات إرهابية تسعى لزعزعة الأمن القومي العراقي”، حسب زعمه.
تدقيق ملفات السوريين
أكد مصدر أمني عراقي أن الأجهزة والوكالات الأمنية بدأت منذ 3 أيام العمل على رصد جميع الحسابات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تدون عن سوريا وعما جرى في مدن الساحل السوري، فيما كشف المصدر عن تعليمات أمنية بتدقيق ملفات جميع السوريين في البلاد، لا سيما المخالفين لشروط الإقامة، وفق المصدر.
وبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فإن عدد اللاجئين السوريين في العراق يبلغ نحو 270 ألف لاجئ حاليًا، فيما يتركز 91% منهم في محافظات إقليم كردستان الثلاث وهي دهوك وأربيل والسليمانية، في الوقت الذي يتوزع فيه بقية السوريين على مختلف المحافظات الأخرى.
ولم يقف التحريض ضد السوريين عند هذا الحد، إذ طوقت القوات الأمنية العراقية أمس الإثنين السفارة السورية في منطقة المنصور في العاصمة بغداد بعد تهديدات باقتحامها وإحراقها.
وقال مصدر أمني إن “قيادة قوات حفظ القانون أرسلت تعزيزات إلى السفارة السورية في منطقة المنصور وسط بغداد، وبهذا أصبح عدد الوحدات الموجودة حول السفارة 5 وحدات لتأمينها، تحسباً لوصول محتجين إلى السفارة”.
وشنت العديد من الشخصيات السياسية والدينية الشيعية حملة طائفية ممنهجة منذ انتصار الثورة السورية وإسقاط حكم نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، حيث جاءت هذه التصريحات من سياسيين ومعممين وقادة فصائل مسلحة موالية لإيران فضلا عن مدونين وناشطين من الشيعة العراقيين.
وبدأت تنشط العديد من الحسابات الوهمية لناشطين شيعة تدعو لطرد السوريين من غير العلويين وإغلاق سفارة دمشق ببغداد.
ووصل التضييق على السوريين إلى لاعبي كرة القدم، حيث عاقب نادي زاخو لاعبه السوري محمد الأسود بعد كتابته منشورا يدعم فيه حكومة بلاده ويترحم على شهداء الأمن العام، فيما فرض النادي غرامة مالية على اللاعب قدرها 3200 دولار أميركي تدفع للاتحاد العراقي لكرة القدم.
استهداف طائفي وتحرك حكومي
لم يقتصر الأمر على الحملات الأمنية العراقية التي استهدفت اللاجئين السوريين في عدة محافظات، بل تعدّى ذلك إلى استهداف طائفي مباشر، حيث تعرض عمال سوريون للعنف والاعتداء من قبل مجموعة ملثمة تنتمي إلى فصيل يُطلق على نفسه اسم “تشكيلات يا علي الشعبية”.
وأظهر مقطع فيديو تداوله ناشطون عراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي، دخول عناصر ملثمة إلى محال تجارية يعمل بها سوريون، مطالبين إياهم بتسليم هواتفهم المحمولة وهوياتهم الشخصية، مع الاعتداء جسديًا على بعضهم في مشهد يعكس تصاعد الخطاب الطائفي والعنصري تجاه السوريين في العراق.
دفعت هذه الاعتداءات إلى تحرّك حكومي عراقي عاجل، حيث وجّه رئيس مجلس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة، محمد شياع السوداني، بتشكيل فريق أمني خاص لملاحقة المسؤولين عن هذه الأفعال، واصفًا إياها بأنها “غير قانونية ولا تمتّ لأخلاق العراقيين بصلة”، مؤكدًا على مبدأ سيادة القانون وحماية الأمن المجتمعي.
من جانبها، أدانت وزارة الخارجية السورية بشدة هذه الاعتداءات، واعتبرتها “انتهاكًا لحقوق الإنسان والقانون الدولي”، وطالبت الحكومة العراقية بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم واتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان أمن وسلامة السوريين المقيمين في العراق، مؤكدة استمرار التواصل مع السلطات العراقية للعمل المشترك لمعالجة هذه الانتهاكات.
ولاقت هذه الاعتداءات ردود فعل واسعة، حيث انتقد السياسي العراقي مشعان الجبوري التجييش الطائفي الممنهج ضد السوريين في العراق، مشيرًا في منشور له على حسابه الشخصي في منصة X إلى أن بعض الناشطين الشيعة يقومون بالتحريض العلني ضد اللاجئين السوريين، فيما لفت إلى أن هناك اعتقالات بالجملة للسوريين دون تدقيق أو تمحيص.
التحريض على السوريين في العراق من قبل بعض الناشطين الشيعة يتصاعد بشكل مرعب، حيث أصبحت اتهامات التكفير والإرهاب جاهزة لأي سوري حتى لو عبّر عن رأيه في منشور يخص بلده.
للأسف، تتم اعتقالات دون تدقيق أو تمحيص، وأحيانًا لمجرد أن منافسًا في مهنة أو عمل قرر اتهام السوري بالولاء للنظام… pic.twitter.com/JX1VgnELs8
— مشعان الجبوري (@mashanaljabouri) March 9, 2025
واتهم الصحفي العراقي عمر الجمّال الحكومة العراقية بالتحرك وفق ما تكتبه حسابات وهمية وخضوعها لأقلام المحور المحسوب على إيران.
ويرى مراقبون أن الحكومة العراقية وأقلامها تلعب ورقة طائفية واضحة، حيث أن الحكومة وجميع الذين انتقدوا الوضع السوري لم يتكلموا أو يعلقوا على الجرائم التي كانت تقترفها الميليشيات العراقية والأفغانية الشيعية في المدن السورية.
واستنكر ساسة عراقيون ازدواجية المعايير، ففي الوقت الذي تباكى فيه كثير من ساسة العراق على ما يجري في سوريا وادعاءهم بانتهاكات لحقوق الإنسان، إلا أنهم هم أنفسهم كانوا شركاء في جرائم ضد السنة في العراق كذلك.
ويرى مراقبون أن بعض القوى والأحزاب العراقية تستغل التوترات الطائفية والصراعات الإقليمية لتحقيق مكاسب سياسية، إذ تسعى هذه الجهات إلى توظيف الأزمات لاستقطاب الناخبين وتعزيز نفوذها في المشهد السياسي العراقي، مستفيدة من حالة الاصطفاف الشعبي تجاه القضايا الإقليمية.
وفي هذا السياق يقول الباحث السياسي العراقي “رياض العلي” إن “ساسة العراق من الشيعة لا يزالون يعيشون حالة صدمة جراء سقوط نظام الأسد، امتدادا للصدمة التي لا تزال واضحة في طهران بفقدانها خلال شهرين أقوى حليفين لها سواء بمقتل زعيم حزب الله حسن نصرالله وقيادة الصف الأول للحزب أو بسقوط نظام الأسد”.
وفي حديثه لـ “نون بوست” يرى العلي أن موقف ساسة العراق تعد امتدادا وتماهيا مع الموقف الإيراني، وبالتالي، فإن رد الفعل الحالي العراقي تجاه السوريين ومقاربة الأجهزة الأمنية السورية وتعاملها مع غدر الفلول لا يخرج عن كونه مقاربة طائفية لم تضع بحسبانها معايير التعامل بين الدول ولا قراءة الأحداث بحيادية.
وأشار إلى أن العراق وفي حال استمر موقفه الرسمي على هذا الحال، فإنه من غير المستبعد أن تخسر بغداد علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.
وقد لا يكون موقف الساسة الشيعة في العراق نابعا من منطلق مذهبي فحسب، إذ أنه ومنذ عام 2003 والغزو الأميركي للبلاد، عادة ما يلجأ ساسة الشيعة لافتعال أزمات داخلية أو خارجية كلما تعرضت البلاد لمشكلات سياسية أو اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، حيث تعمل الأحزاب الشيعية على تجييش مشاعر أتباعهم طائفيا وشحذهم بكل ما يمكن أن يعود بالنفع عليهم يوم الانتخابات الذي سيكون نهاية العام الجاري.
كما يتعرض العراق حاليا لموجة من الضغوط الأميركية التي لم يشهدها على الإطلاق من قبل، فواشنطن تضغط باتجاه حل الحشد الشعبي وقطع أذرع إيران في البلاد عسكريا واقتصاديا.
إضافة إلى أن واشنطن لم تجدد إعفاء بغداد من استيراد الكهرباء والغاز الإيراني، وبالتالي ستشهد البلاد تراجعا كبيرا في ساعات تجهيز الكهرباء خلال أيام، وهو ما قد يحرك الشارع العراقي الناقم على سوء الخدمات والفساد، مما جعل ساسة الشيعة يتحركون طائفيا هذه المرة تجاه السوريين والسنة العراقيين.
خيارات محدودة
تبدو خيارات السوريين في العراق محدودة للغاية في التعامل مع الواقع الجديد الذي فُرض عليهم بعد سقوط نظام بشار الأسد.
محمد (26 عاما)، شاب سوري يعمل في معمل للحلويات في إحدى المدن العراقية الشمالية يقول في حديثه لـ “نون بوست”: “منذ سقوط النظام فإن هناك الكثير من المضايقات تجاه السوريين في العراق، حيث بدأ التشديد على عدم تجديد إقامة السوريين، وصولًا إلى ما تبثه وسائل الإعلام من اعتقالات لسوريين لمجرد نشر صور الرئيس أحمد الشرع أو كتابة تعليق حول ما جرى في الساحل السوري من اعتداء غادر على الأجهزة الأمنية الجديدة”.
ويضيف محمد أن مشكلة السوريين تتركز في المحافظات العراقية خارج إقليم كردستان، مؤكدًا: “لا خيار أمامنا سوى الحذر وعدم نشر أي كلمة أو صورة قد تثير حفيظة القوات الأمنية العراقية، أنتظر تحسن الوضع الاقتصادي في مدينتي حمص لأجل العودة النهائية لسوريا”.
على الجانب الآخر، يشعر السوريون في إقليم كردستان بقدر أكبر من الأمان مقارنة ببقية المناطق العراقية، حيث لا يتعرضون للمضايقات أو الاعتقالات.
يؤكد مؤمن، لاجئ سوري يبلغ من العمر 31 عامًا ويعمل في قطاع المطاعم في أربيل منذ سنوات، أن السلطات الأمنية في الإقليم لم تمارس أي ضغوط عليهم.
ويشير إلى أن السوريين احتفلوا بسقوط الأسد في مسيرات حاشدة قرب قلعة أربيل، رافعين الأعلام السورية دون أي تدخل أو اعتراض من السلطات الكردية.
وفي ظل التحديات التي يواجهها السوريون في مدن عراقية أخرى، يدعو مؤمن أبناء بلده إلى توخي الحذر ومحاولة مغادرة العراق أو الانتقال إلى إقليم كردستان حيث الأوضاع أكثر استقرارًا وأمانًا.