حالة من الغضب تسود الأوساط الحقوقية المصرية جراء قرار زيادة الرسوم القضائية الصادر عن محكمة استئناف القاهرة بشأن زيادة المقابل المادي للخدمات التي تقدمها المحكمة للمتقاضين والمحامين، وهو القرار الذي اعتبره البعض تهديدًا لمنظومة العدالة وحرمانا للبسطاء ومحدودي الدخل من حقهم في التقاضي.
وكان رئيس المحكمة، المستشار محمد نصر سيد، أصدر قرارًا في الثاني من أذار/ مارس الجاري، بزيادة الرسوم على الخدمات التي تقدمها المحكمة والتي تشمل الرسوم عند الرفع، ورسوم الحوافظ، ورسوم الميكروفيلم، ورسوم الماسح الضوئي، وأمانات الخبراء، والدمغات، ورسم طابع الشهيد، ورسوم الإعلانات والمحضرين، ورسوم استلام صور الأحكام والصيغ ومحاضر الجلسات، ورسوم الشهادات، بواقع 10%.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تزيد فيها الرسوم القضائية المفروضة على المحامين والمتقاضين، فخلال العامين الماضيين فقط شهدت تلك الرسوم قفزات جنونية في الزيادات وصلت قرابة 500% يتحملها بطبيعة الحال المتقاضون من الشعب المصري، وهو ما يجعل من عملية التقاضي رفاهية قد لا تُمنح للجميع، ما ينذر بكوارث مجتمعية وحقوقية وأمنية مستقبلية.
فمن لم يستطع الحصول على حقه بالتقاضي لعدم قدرته على سداد الرسوم وأتعاب المحاماة، ليس أمامه إلا خياران، أحلامها مر، إما التغاضي عن حقه ومنح المجرم الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من الجرائم دون محاسبة، أو الاضطرار للحصول على هذا الحق بالقوة، ما يعني تفشي البلطجة في الشارع المصري.
قفزات غير منطقية في الرسوم
بموجب القرار الصادر عن رئيس محكمة استئناف القاهرة ارتفع المقابل المادي لنحو 33 خدمة تقدمها المحكمة طيلة خط سير عملية التقاضي، حيث ارتفعت رسوم خدمة الشهادات من واقع الجدول، من 55 جنيهًا إلى 60.5 جنيهًا، وخدمة الحصول على صيغة تنفيذية من الأحكام من 230 جنيهًا إلى 242 جنيهًا، أما خدمة إيداع عرائض الاستئناف ودعاوى رد المحاكم وطلبات الحصول على صيغ تنفيذية من تقارير الخبراء، فوصل قيمة الرسم فيها 33 جنيهًا عن كل ورقة يتم إيداعها أو تصويرها.
الزيادات شملت أيضًا خدمة التصوير الضوئي للقضايا الجنائية عشان لتصل إلى 5.5 جنيهًا لكل ورقة، وخدمة الحصول على صورة ضوئية أو صورة طبق الأصل من الحكم الجنائي أو تصوير محاضر الجلسات ارتفعت لتصل لنحو 22 جنيهًا عن كل ورقة من الحكم أو المحضر.
المحكمة فرضت كذلك رسومًا إضافيًا على حوافظ المستندات التي يقدمها المتقاضون للمحكمة، حيث وصل رسم الورقة الواحدة إلى 10 جنيهات، بمعنى أن المحامي لو لديه حافظة بها 50 ورقة مثلا سيكون مضطرًا لدفع 500 جنيهًا، وهذا رقم كبير إذا ما أدرج ضمن بقية سلسلة التقاضي التي تصل إلى عشرات البنود.
ومن الإضافات التي أثارت الكثير من الجدل فرض رسوم على طلب التعويض تصل إلى 7.5% من قيمة الرقم المراد تعويضه، سواء تم كسب القضية أو خسارتها، بمعنى أن المواطن لو رفع قضية تعويض بقيمة مليون جنيها مثلا فهو مطالب بسداد مبلغ 75 ألف جنيهًا، سواء ربح التعويض أو لم يربحه، وفي حال عدم السداد سيتعرض للحبس.
مخالفة دستورية
يؤكد الدستور المصري لعام 2014 على أن أي زيادة في الرسوم لا بد وأن تكون بتدخل المشروع وإصدار قانون خاص بها، كما جاء في المادة (38) التي تنص على أنه: “يهدف النظام الضريبي وغيره من التكاليف العامة إلى تنمية موارد الدولة، وتحقق العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، ولا يكون إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاؤها، إلا بقانون ولا يجوز الاعفاء منها إلا في الأحوال المبينة في القانون، ولا يجوز تكليف أحد أداء غير ذلك من الضرائب أو الرسوم إلا في حدود القانون….”.
العديد من الأحكام القضائية أكدت أكثر من مرة على أنه لا يجوز فرض أي رسوم إلا بقانون، منا الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا، الذي جاء فيه أن: “الرسوم القضائية تعتبر مساهمة من جانب المتقاضين مع الدولة فى تحمل نفقات مرفق القضاء والسبيل الوحيد لتقريرها هو صدور قانون بفرض الرسم فلا رسم بدون قانون”.
ويشير الخبير القانوني والمحامى بالنقض حسام الجعفرى، أن زيادة الرسوم القضائية التي أقرت محكمة استئناف القاهرة تخالف الدستور وأحكام القانون لعدد من القوانين أبرزها: القانون رقم 90 لسنة 1944 وتعديلاته بشأن الرسوم القضائية في المواد المدنية، القانون رقم 91 لسنة 1944 وتعديلاته بشأن الرسوم أمام المحاكم الشرعية، والقانون رقم 70 لسنة 1964 بشأن رسوم التوثيق والشهر
واستند الجعفري إلى الحكم السابق الصادر عن المحكمة الإدارة العليا في الطعن رقم 7402 لسنة 44 قضائية، بعدم مشروعية فرض رسوم مقابل خدمة الميكروفيلم بالمحاكم، لافتا أن محكمه القضاء الإداري هي المختصة بنظر إلغاء تلك القرارات وليست المحاكم العادية وأن تلك القرارات تشكل خروجا على مبدا المشروعية الدستورية التي غايتها أن تكون النصوص القانونية والقرارات الإدارية مطابقة لأحكام الدستور.
غضب نقابة المحامين
القرار أثار حفيظة نقابة المحامين التي عقدت اجتماعًا عاجلا السبت الماضي شارك فيه أعضاء مجلس النقابة العامة، ونقباء الفرعيات، حيث أكدت أن الطريقة التى جرى بها فرض هذه الرسوم الجبرية كانت خارجة عن الأطر الدستورية والشرعية التى رسمها الدستور والقانون، باعتبار أن الرسوم لا تفرض إلا بناءً على قانون.
وانتهى الاجتماع على عدة قرارات أبرزها الرفض القاطع لكافة قرارات زيادة الرسوم ومقابل الخدمات المقدمة في المحاكم، وبخاصة محاكم الاستئناف لتعارض ذلك مع المشروعية الدستورية، مع استمرار مساعي النقيب العام في التواصل مع كافة الجهات المعنية، وقد فوضه المجلس المجتمع في ذلك حتى انتهاء هذه الأزمة.
كما أوقفت النقابة التعامل مع كافة خزائن المحاكم بكل درجاتها في عموم الجمهورية كخطوة أولى في هذا الشأن وسيتم الإعلان لاحقًا عن ميقات البدء في ذلك الإجراء، معتبرة أنها في انعقاد دائم حتى حلحلة هذا الأمر وتراجع وزارة العدل عن مثل تلك القرارات التي تضيق الخناق على طرفي عملية التقاضي، المحامي والمواطن.
رفض المجتمع المدني.. مطالب بإعادة النظر
لم تكن نقابة المحامين وحدها التي تحركت باتجاه رفض مثل تلك الزيادات الجُزافية، حيث رافقها في هذا الاتجاه العديد من مؤسسات المجتمع المدني الأخرى من بينها حزب الوعي الذي طالب وزير العدل والمسئولين أن يعيدوا النظر في هذا الإجراء، ليس فقط من زاوية اعتداءه وإهداره للحق الدستوري، لكن لوقوفه حائلاً بين المواطن وحقه الطبيعي في أن يلجأ للقضاء مطالبةً بحق أو دفعاً لظلمٍ .
ودعا الحزب في بيان له إلى “تغليب مصلحة الوطن وما تمر به البلاد والمنطقة بأثرها من أحداث تتطلب وقوف الجميع متحدين في مواجهة تلك التحديات العاصفة، وأن تكون الكلمة لسيادة القانون، الذى يجب أن يكون هو الفيصل والمطبق على الجميع دون تمييز ودون تعنت ودون الاحتماء أو الاعتصام أو الاستقواء بسلطة ضد جهةٍ أو شخصٍ ؛فالناس جميعاً أمام القانون سواء”
وفي ذات السياق تقدمت النائبة سناء السعيد عضو مجلس النواب (البرلمان) بطلب احاطة عاجل لرئيس مجلس الوزراء ووزير العدل ضد زيادة الرسوم القضائية، لافتة أن تلك الزيادات لا تتم إلا بموجب قانون، وأن فرضها بدون قانون يمثل انتهاكًا خطيرًا للدستور وخاصة للمادة (٣٨) منه، مطالبة بإلغائها لما يترتب عليها من عوار حقوقي حيث منع الفقراء والطبقة الوسطى من اللجوء للقضاء، وإحداث خلافات بين المحامين وموكليهم، واضطرار المواطنين للجوء لطرق أخرى غير القضاء للحصول على حقوقهم مما يهدد السلم المجتمعي بشتى المخاطر.
من جانبها وصفت المحامية بالنقض ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون انتصار السعيد قرار زيادة رسوم التقاضي بـ”غير الدستوري وغير المنطقي”، مضيفة في تصريحاتها لموقع “المنصة” أن “التقاضي حق من الحقوق الأساسية التي تكفلها جميع الدساتير والقوانين، بما فيها الدستور المصري في المادة 97 (التي تنص على أن التقاضي حق مصون ومكفول للكافة) ويجب أن يتمكن الأفراد من اللجوء إلى القضاء دون عوائق”.
وحذرت السعيد من تداعيات مثل تلك القرارات على الفئات الأكثر هشاشة كالنساء لا سيما في إجراءات التقاضي المتعلقة بقضايا الأحوال الشخصية كالطلاق والنفقة والحضانة، موضحة أن “النساء يلجئن لرفع قضية أحوال شخصية هربًا من العنف الأسري، ومن أجل الحصول على النفقة لتأمين حقوق أطفالها، لأن أغلبهن ذوات دخل محدود، ولكن يُواجهن الآن مع زيادة رسوم التقاضي عنفًا آخر وهو عدم قدرتهن على المطالبة بحقوقهن أمام المحاكم”.
فيما حذرت مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون( حقوقية مستقلة) من التأثير المضاعف لهذه الزيادة في الرسوم على النساء “خاصة اللواتي يعانين من تحديات اقتصادية واجتماعية متعددة، مما يؤدي إلى تقييد حقهن في الوصول إلى العدالة”.
وأضافت في بيان لها أن “الوضع الاجتماعي والاقتصادي للعديد من النساء يتسم بالضعف مقارنة بالرجال، خاصة في الأسر ذات الدخل المنخفض أو الأسر التي تعاني من قلة الموارد، وخاصة اللاتي يتعرضن للعنف الأسري أو التحرش أو القضايا المتعلقة بالطلاق أو حضانة الأطفال، قد يكون التوجه إلى المحكمة أمرًا حيويًا لضمان حقوقهن، لكن مع فرض رسوم إضافية قد تجد بعض النساء أنفسهن في موقف صعب، مما يعرضهن لضغوط أكبر ويزيد من صعوبة الحصول على العدالة”.
واختتمت رئيسة المؤسسة حديثها واصفة هذا الإجراء بأنه ” قرار مجحف، ومُثير للدهشة اتخاذ مثل هذه القرارات في شهر الاحتفال بالمرأة، كان الأولى نأخد قرارات تُنصف الست المصرية وحقها المشروع في التقاضي، ومضاعفة قيمة النفقة التي لا تتجاوز 500 جنيه للمتضررات من قانون الأحوال الشخصية بدلًا من مضاعفة رسوم التقاضي”.
التقاضي للقادرين فقط.. لا مجال للبسطاء
وفق تلك الزيادات فلن يتمكن الكثير من المواطنين من التقاضي أمام ساحات القضاء الرسمية، هذا ما حذر منه المحامي والحقوقي عمر سعد، الذي كشف أن الزيادات في الرسوم القضائية منذ عام 2022 وصلت لأكثر من 500% في سياق مساعي مؤسسات القضاء زيادة مواردها، لافتا أنه لا يُعارض هذا الهدف لكن لا يأت على حساب المواطنين والمحامين، فهناك موارد أخرى يمكن أن يرفعوا بها موارد الوزارة دون التغول على حق متوسطي ومحدودي الدخل.
وأضاف سعد في تصريحاته لـ “نون بوست” أن هناك عشرات البنود التي يدفع المحامي نيابة عن المواطن المتقاضي، مئات بل ألاف الجنيهات في صورة رسوم، هذا بخلاف أتعاب المحامي نفسه، مثل رسوم الدعوى والميكروفيلم والحوافظ والماسح الضوئي وطابع الشهيد والإعلانات والمحضرين واستلام صور الأحكام وصيغ محاضر الجلسات، وهو ما يستنزف جيب المواطن، ما يجعل من عملية التقاضي رفاهية غير متاحة لجميع المصريين.
وكشف المحامي المصري أنه أكثر من مرة أضطر موكلين لديه من سحب الدعاوى المرفوعة بسبب زيادة رسوم التقاضي، وأنها خارج قدراتهم المادية، خاصة في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة، محذرًا من أن مثل تلك القرارات ستؤثر سلبًا على المحامين أيضًا، حيث من المتوقع تقلص عدد القضايا المرفوعة، وهو ما دفع بعضهم للبحث عن مصادر دخل أخرى مثل نشر مقاطع فيديو قانونية على منصات التواصل الاجتماعي أو تأليف كتب ومستلزمات قضائية وبيعها في الأسواق.
واستند سعد في رأيه إلى الأرقام الرسمية المتعلقة بعدد القضايا المنظورة أمام ساحات القضاء، حيث تقلصت من 15 مليون قضية سنويًا معروضة في نهاية 2019 إلى 11 مليون قضية بحلول عام 2022، ما يعني تراجعا في عدد القضايا المرفوعة بالملايين، مُرجعا ذلك إلى أسباب عدة من بينها زيادة أعباء التقاضي، ما بين رسوم قضائية وأتعاب محامين وإطالة أمد القضية في ساحات القضاء.
وأمام هذا التغول الواضح على حق البسطاء ومحدودي الدخل في التقاضي الطبيعي، تتصاعد التحذيرات من اللجوء إلى البدائل للحصول على الحقوق بعيدًا عن المحاكم ذات الكلفة الباهظة، وذلك عبر الطرق غير المشروعة، والتي تتأرجح بين البلطجة والسرقة والعنف، ما يعني دخول المجتمع في دوامة لا نهاية لها من الفوضى وغياب دولة القانون.. فهل تستجيب وزارة العدل لتلك التحذيرات أم ستواصل مسيرتها نحو تعزيز مواردها من جيوب الغلابة والمساكين؟