عاش السوريون داخل البلاد وخارجها في ظلامٍ إعلامي خلال الأيام الماضية، تاهت فيه الحقيقة وسط طوفانٍ جارف من الشائعات والمعلومات المضللة. ففي مدن الساحل السوري، غطّت موجة تحريض ممنهجة – تقودها حسابات منظمة عبر منصات التواصل الاجتماعي – على الوقائع، لتترك السوريين أمام واقع مشوش، يصعب تمييز الحقيقة من التزييف.
وفي تصعيد غير مسبوق، شنّ قادة وعناصر من فلول النظام الأسدي السابق في 6 مارس/آذار الجاري هجومًا مسلحًا في محافظتي اللاذقية وطرطوس، مستهدفين قوات الأمن العام السورية التي تحمي المنطقة، فضلًا عن مدنيين جرى استهدافهم بسبب نمرة السيارة “إدلب” أو بسبب الحجاب أو عبر استهداف مناطق سنية بأسلحة رشاشة.
وخلال الهجوم الذي صنّف كمحاولة انقلاب، سيطر الفلول على مواقع حيوية في المنطقة بما فيها الطرق الدولية وحاصروا مواطنين وعناصر أمن في مستشفيات ودوائر حكومية وسط أنباء عن مشاركة قوى خارجية، الأمر الذي استدعى تحشيدًا مضادًا هبّت إليه أطياف واسعة من السوريين، سواء فصائل أم مسلحين مستقلين، استحال على السلطة الجديدة ضبطه أو التعامل معه، لتتكشف الأمور فيما بعد عن انتهاكات مروعة ذات بعد طائفي، طالت سنة وعلويين، فضلًا عن حالات نهب وسرقة.
شبكات التواصل الاجتماعي شهدت فوضى عارمة في المعلومات عن أحداث الساحل، سيولة هائلة في المحتوى المضلل والمزيف والمختلق، ما أنتج حالة استقطاب مخزية. لكن ما كان مخزيًا أكثر، هو موقف بعض وسائل الإعلام التي شاركت بحملات التحريض ووتكريس المحتوى المضلل.
وكانت لافتًا هنا، دور منصة “بلينكس” – إحدى المنابر الإماراتية، مقرها دبي – التي برزت كمساهم رئيس في تأجيج الانقسام بين السوريين. وبينما تُعرف المنصة بتركيزها على المحتوى الترفيهي والفني السريع الاستهلاك، من مناوشات الـ”إنفلونسرز” إلى فضائح المشاهير، بدا أنها تستغل انتشارها لتحقيق مآرب أخرى، تتجاوز حدود الترفيه إلى لعب أدوارٍ أكثر خطورة.
سردية مشوهة متعمدة
تكشف الإحصائيات أن المعلومات المفبركة تمثل 26.7% من المحتوى الموجود على الإنترنت، فيما تؤثر يوميًا بشكل كبير على ملايين المستخدمين من أعمار وخلفيات مختلفة، من بينها التحريض والدفع نحو تأجيج النزاعات وإعادة إنتاج العنف. وفي خضم التصعيد الأخير في مدن الساحل السوري، لم تكن بعض المنصات الإعلامية مجرد ناقل للخبر، بل لاعبًا رئيسيًا في رسم صورة مشوهة للأحداث، ودفع الرأي العام العربي والسوري نحو مزيد من الاستقطاب.
على سبيل المثال، في تغطيتها لتطورات الأحداث في مدن الساحل السوري، اختارت منصة “بلينكس” الإماراتية تقديم الخبر على نحوٍ يحرّف السياق ويعيد تشكيل الرواية لصالح فلول النظام. ففي أول مادة نشرتها عبر إنستغرام – حيث يتجاوز عدد متابعيها 3 ملايين – ربطت الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون بالحملة الأمنية التي أطلقتها وزارة الدفاع السورية، متجاهلة حقيقة أن الفوضى بدأت بتحركات من قادة وعناصر النظام السابق، الذين اعتدوا على مؤسسات الدولة ونشروا تهديدات بالثأر.
View this post on Instagram
ولم تكتفِ المنصة بتقديم هذا التأطير المضلل، بل دعّمته بمقطع مصور تحت عنوان “سوريا بدأت المرحلة ‘أ’… ماذا تعني؟”، حيث زعمت فيه تقديم قراءة تحليلية لمفهوم نزع سلاح الميليشيات بعد فترات الحروب. لكن وبدلًا من تقديم حقيقة ما يحصل من زاوية واقعية، ركّزت المادة على ترسيخ فكرة التوازن بين الطرفين، مُضفية على فلول النظام بُعدًا شرعيًا أو أخلاقيًا ضمنيًا، مما يعيد إنتاج السردية التي تمنحهم حق الوجود والتأثير، ورغم افتقار الفيديو لأي قيمة حقيقية، إلا أنه حقق أكثر من 300 ألف مشاهدة خلال ساعات، ما يعكس قوة تأثير هذا النوع من المحتوى الموجه.
في محاولتها الثانية لخلط الحقائق بالتضليل، لجأت “بلينكس” إلى أسلوب إغراق المتابع في تفاصيل غير محورية، حيث ربطت وصول قوات من وزارة الداخلية السورية من دمشق إلى مدينة بانياس بوقوع إعدامات ميدانية، مدعيةً حدوث “خمس مجازر على أساس طائفي خلال ساعات”. ولم تكتفِ بهذا الطرح غير المدعوم بأي أدلة، بل اتهمت بشكل مباشر عناصر من وزارة الدفاع بالمسؤولية عن المجازر، رغم عدم وجود أي مصادر موثوقة تؤكد هوية المنفذين حتى تلك اللحظة.
View this post on Instagram
واستكمالًا لهذا النهج، واصلت المنصة توجيه الاتهامات إلى الحكومة السورية، قبل أن تُبرز منشورًا مزيفًا منسوبًا لعائشة الدبس، مسؤولة مكتب المرأة في الحكومة السورية، وتستخدمه كدليل ضمني على أن ما يحدث في الساحل السوري ليس إلا “ردًا” على مجازر النظام السابق ضد السكان المنتمين للطائفة السنية. وفي نهاية الفيديو، عززت مقدمة المادة ذاتها، بالإشارة إلى أن ما يجري يمكن تصنيفه كـ”حرب أهلية”، مستشهدة بتحذيرات سابقة للأمم المتحدة، ورغم الطابع التحريضي الواضح للمحتوى، إلا أن الفيديو تجاوز حاجز النصف مليون مشاهدة، مما يعكس مدى تأثير هذه السرديات الإعلامية الموجهة في تشكيل الرأي العام.
لم تكتفِ “بلينكس” بنشر محتوى مضلل، بل واصلت إعادة تدويره حتى بعد تأكدها من زيفه، متجاهلة أدنى معايير المصداقية. ففي واحدة من أكثر المواد تضليلًا، سارعت المنصة إلى تداول فيديو ادّعت أنه “شهادة مقاتل”، مرفقة إياه بعنوان مثير للجدل: “من الذي قتل العلويين؟”، في تجاهل متعمَّد لحقيقة أن ضحايا التمرد والعنف لم يكونوا من طائفة واحدة، بل شملوا أفرادًا من مختلف المكونات السورية.
View this post on Instagram
ورغم أن منصات تدقيق الأخبار، وعلى رأسها “تأكد”، كشفت زيف الفيديو وأكدت أن صاحبه سُجِّل تحت الإكراه بعد اختطافه على يد مجموعات موالية للنظام، لم تتراجع “بلينكس” عن استخدامه. وبعد أكثر من 24 ساعة على إثبات عدم مصداقيته، أعادت المنصة نشره في مواد لاحقة، مستغلة انتشاره الواسع – الذي تجاوز مليون ونصف مشاهدة – دون أي تنبيه للمشاهدين بشأن حقيقته.
مزج التضليل بالفكاهة
لا يقتصر التضليل الإعلامي على نشر أخبار زائفة بشكل صريح، بل يتخذ أحيانًا أشكالًا أكثر خبثًا، مثل تمرير المغالطات عبر السخرية أو إعادة تأطير التصريحات عبر الاجتزاء، ومن خلال هذين الأسلوبين، يبدو أن منصة “بلينكس” تسعى إلى توجيه الرأي العام ضد الرئيس السوري أحمد الشرع، منذ توليه السلطة مستخدمة في ذلك مواد إعلامية مختلفة، لكن ذات هدف واحد: إضعاف مصداقيته وتشويه صورته أمام الجمهور.
على سبيل المثال، لجأت المنصة في هذه المادة التي نشرتها عقب نجاح عملية ردع العدوان بإسقاط نظام الأسد، إلى تقديم فيديو ساخر عن خلفية وحياة أحمد الشرع، أعدّته إحدى أشهر مقدماتها، المعروفة بأسلوبها الفكاهي في تناول رؤساء الدول الأجنبية. ورغم أن مثل هذا النوع من المحتوى قد يُسوَّق على أنه “ترفيهي”، إلا أن المادة احتوت على كمٍّ هائل من المعلومات الخاطئة حول الشرع.
وعندما أشار مئات المستخدمين في التعليقات إلى حجم الأخطاء، تجاهلت “بلينكس” ذلك تمامًا، ولم تحذف الفيديو أو تصحح محتواه، مما أدى إلى انتشاره الواسع، وتداوله على منصات أخرى كمحتوى حقيقي بأسلوب مضحك. وهكذا، تحولت الفكاهة إلى أداة تضليل مؤثرة، تمرر معلومات زائفة في قالب خفيف، مما يجعلها أكثر تقبلًا وأصعب في التفنيد.
أما المادة الثانية، فكانت أكثر مباشرة في استهداف الشرع، حيث نشرت “بلينكس” مقطعًا مقتطعًا من كلمة قصيرة ألقاها الرئيس عقب صلاة الفجر في أحد مساجد منطقة المزة بدمشق قبل أيام، مرفقة الفيديو بتعليق مثير: “الشرع: ما حدث كان متوقعًا”. هكذا، دون أي سياق أو تفسير إضافي، قُدِّمت هذه الجملة وكأنها موقف رسمي من الشرع تجاه أحداث الساحل الأخيرة، مما دفع الجمهور إلى قراءتها كتبرير مباشر لما جرى. ورغم أن الخطاب الكامل يحمل معاني مختلفة تمامًا، إلا أن اجتزاء جملة واحدة منحها بُعدًا تحريضيًا، إذ لم يعد المشاهد أمام رأي متكامل، بل أمام عبارة مجتزأة، تدفعه لاستخلاص استنتاجات مضللة.
View this post on Instagram
وهكذا، بين تضليل السخرية واجتزاء التصريحات، يبدو أن “بلينكس” تقوم بما هو أكثر من مجرد تداول الأخبار الترفيهية، إذ تلعب دورًا نشطًا في إعادة تشكيل صورة الأحداث في سوريا في ذهن الجمهور العربي، مستغلةً سرعة انتشار المحتوى الفكاهي وقوة تأثير العناوين المضللة دون الحاجة إلى الكذب الصريح، بل عبر التلاعب بالسياق والمحتوى.
تحالف بخدمة “إسرائيل”
لا يمكن فصل دور “بلينكس” في إعادة إنتاج السرديات المضللة حول أحداث الساحل السوري عن سياق أوسع، خاصة أن الإمارات، التي تستضيف المنصة، تُعد أحد أبرز حلفاء الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة. في هذا السياق، كشف تقرير أعده موقع “عربي بوست” عن شبكة حسابات رقمية منظمة تعمل على الترويج لتدخل إسرائيلي في سوريا تحت ذريعة حماية الأقليات، بينما تركز في واقع الأمر على إثارة التوترات الطائفية وتأجيج الصراعات الداخلية.
ويُظهر التحليل أن هذه الشبكة لا تعمل بشكل عشوائي، بل تتبع استراتيجية تضليل ممنهجة، تتضمن ضخ كم هائل من المعلومات المفبركة، تضخيم الادعاءات حول وجود إبادة طائفية، والترويج لمزاعم أن سوريا كانت أفضل حالًا تحت حكم الأسد. كما كشف التقرير أن بعض هذه الحسابات تدار من جهات إسرائيلية وأخرى مرتبطة بفلول النظام السابق، وأنها تعتمد على إعادة نشر محتوى موجه وتعزيز انتشاره عبر حسابات وهمية (Bots) ولجان إلكترونية، مما يخلق وهمًا بوجود دعم واسع لهذه السرديات.
هذا الكشف يضع دور “بلينكس” في إطار أوسع من حملات التضليل الرقمي الموجهة، حيث تتقاطع أساليبها مع هذه الشبكة، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت مجرد منصة إعلامية منحازة، أم أنها تلعب دورًا نشطًا في معركة إعلامية تستهدف توجيه الرأي العام وفق أجندات سياسية محددة.
فيما يبدو أن الحروب لم تعد تُخاض بالسلاح وحده، بل امتدّت إلى الفضاءات الرقمية، حيث تُصنع السرديات، وتُعاد صياغة الحقائق لتناسب أجندات دول وأنظمة. في معركة الإعلام، تصبح المنصات أدوات للتضليل، تدفع بالرأي العام نحو الانقسام والتشرذم، وبينما تعمل السلطات السورية جهدها لطي السلاح وبدأ مرحلة من السلم الأهلي، تتجلى نوايا تفكيك سوريا بأدوات أقل ضجيجًا، لكنها قد يتكون أشد فتكًا.