بعد أن حطت معركة الانتخابات الرئاسية في تونس أوزارها وأخرجت الصناديق نتائجها معلنة فوز أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد في الجولة الثانية، متفوقًا على منافسه رجل الأعمال ورئيس حزب قلب تونس نبيل القروي، عاد جدل مجدّدا حول ملامح المشهد السياسي بعد الاستحقاق في ظل تراجع دور النخب التقليدية المعهود وقدرة ساكن قرطاج الجديد على قيادة المرحلة وإنجاح شعاره “انتهى عهد الوصاية”.
وأعلنت الهيئة العليا للانتخابات في تونس خلال مؤتمر صحفي، فوز قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها بعد حصوله على 72.71% من جملة الأصوات، مقابل 27.29% لمنافسه نبيل القروي.
وحصد الرئيس الـ7 للجمهورية التونسية مجموع أصوات يقارب ثلاثة ملايين صوت، وهو أكثر مما تمكّنت كل الأحزاب مجتمعة من تحصيله في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
نخبة مغتربة
يرى مراقبون أن صعود قيس سعيد في الباروميتر السياسي وفوزه برئاسة ليس بالمفاجأة بل وليد الثورة ونتاجاً لحراكها المستمر رغم العثرات، فالرجل “المستقيم الصارم” عرفه التونسيون خلال ظهوره المتعدد منذ 2011 في وسائل الإعلام المحلية، يقدم التفسيرات والتوضيحات ويبسط المسائل الدستورية المعقدة خلال كتابة الدستور الجديد للبلاد عام 2014.
بأسلوب خطابة جديد يعتمد على اللغة العربية الفصحى ونصوص القانون، تمكن الأستاذ الـ”ثوري” سياسيًا والـ”محافظ” اجتماعيًا من نيل شهرة واستحسان من قبل طيف واسع من التونسيين، ومن قلب الطاولة على جميع الأسماء الثقيلة المدعومة من الأحزاب ووسائل الإعلام ورجال المال والأعمال، وذلك بفضل مواقفه من القضايا الخلافية مثل المساواة في الإرث والمثليّة الجنسيّة، إضافة إلى دعوته لإعطاء دور محوري للجهات وتوزيع السلطة وإشراك الشعب في وضع الخطط والاستراتيجيات الفكرية والاقتصادية.
يرى بعض المحللين السياسيين، أنّ جراب النخب التونسية أصبحت خاوية من المشاريع والأطروحات القابلة للتنفيذ، فيما لم تنتبه الأحزاب بمينها ويسارها إلى فراغها الفكري وعجزها عن قراءة التطور الحقيقي لنبض الشارع
ويمثل انتخاب سعيّد أيضا ضربة ورسالة قوية للأحزاب التقليدية التي فشلت جميعها في الوصول إلى الدور الثاني من الرئاسيات (حركة النهضة والأحزاب المنبثقة عن نداء تونس)، فيما فشلت الحركات اليسارية التقليدية في تحقيق أي إنجاز يذكر في الانتخابات البرلمانية.
وفي ذات الإطار، يرى بعض المحللين السياسيين، أنّ جراب النخب التونسية أصبحت خاوية من المشاريع والأطروحات القابلة للتنفيذ، فيما لم تنتبه الأحزاب بمينها ويسارها إلى فراغها الفكري وعجزها عن قراءة التطور الحقيقي لنبض الشارع، وباتت تقريبًا مفلسة، عكس قيس السعيد الذي ركّز في تدخّلاته على رفض الوصاية داخليّة كانت أو خارجيّة واعتماد القانون لإقامة أركان الدولة العادلة، وأحيا الوعي الثقافي لدى عموم التونسيين وخاصة منهم الشباب بخطابه الراديكالي مستحضرًا شعارات ثورة 14 يناير (شغل وكرامة وسيادة الوطنيّة)، وقطع مع حالة الاستقطاب الفكريّ وثنائيّة السلطة والمعارضة، ودون الاستعانة بالوعود الانتخابية المكررة من قبل السياسيين بل نعتها في كثير من خطاباته بـ”وعود كافور الإخشيدي للمتنبي” وقال إنّه “لا يريد بيع الأوهام”.
سعيد.. الشعب يصنع نخبه
وفي تصريح لـ”نون بوست” قال الصحافي ومعد برامج في قناة الجزيرة التونسي نبيل الريحاني إنّ “الأحزاب فشلت في خطابها وأشكال عملها، وسعيد قرأ فيما يبدو أمرين هامين أغفلهما غيره وهو أن العالم مأزوم وتغير، وثانيا أن الأدوات والقوى القديمة لا تحل ولا تقود مشكلات واقع جديد، لذلك عمل على الاستناد لرافعة شعبية مباشرة لكن قبل ذلك تبني ودون تردد رغبتها في التغيير الجذري”.
وأضاف الريحاني “بهذا المعنى كان ثوريًا بينما النخب القديمة بقيت أسيرة قوالب الخطاب والعمل السياسي الحزبي التقليدي معولة على “صفائحها” الانتخابية فوقعت سريعا ضحية التوافقات المغشوشة وعقلية المحاصصات وذهنية الغنيمة، بينما تجنب سعيد كل ذلك”، متابعًا القول:” سعيد توفق في فرض نقاش في الجوهر مفاده الشعب هو الغاية والوسيلة وما يريده يجب أن ينعكس على البنى السياسية والثقافية، يعني زمن تأسيس وليس إصلاح أو ترقيع، قيس سعيد وضع النخب التقليدية أمام مرآة الحقيقة المرة ومحك تجربة لا ترحم، إما أن تقدم على مراجعة جذرية عاصفة أو أن تترك قطار الزمن يتجاوزها، في تقديري ما يحدث دليل نهاية مرحلة وميلاد أخرى رمزية رحيل السبسي وبن علي توحي بموت مرحلة وميلاد أخرى وهذا لا يرتبط بنجاح محتمل لسعيد في الموقع الرئاسي، فرمزية صعوده أقوى من سنوات الرئاسة الأربع إنها رمزية تاريخية.. تتجاوز تونس”.
دعا الناشط طلال العربي الرئيس الجديد إلى تكوين فريق رئاسي كفؤ وذو خبرة من أجل التواصل وحسن إدارة مؤسسة الرئاسة والتعامل مع القضايا والأزمات
ويؤكد محللون أن سعيّد استطاع تجميع التونسيين بمختلف مشاربهم السياسية حول شخصه، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، متحزبين ومستقلين، متجاوزًا محاولة تصنيفه مرة مع الإسلاميين وأخرى مع اليساريين، مستغلًا عامل خوفهم على مستقبل المسار الديمقراطي في البلاد وإمكانية سقوطه بتزعم قوى الثورة المضادة ولوبيات المال الفاسد.
وفي ذات السياق قال عدنان منصر مستشار الرئيس السابق المنصف الرزوقي، في تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: ” قيس سعيد تحصل على مجموع أصوات يساوي ما تحصل عليه في 2014 كل من الدكتور المرزوقي والمرحوم الباجي قايد السبسي. هذا أكبر من كل التوقعات. أهم ما في ظاهرة قيس سعيد أنه بهذا التصويت، أصبح رئيسا جامعًا. الآن، لم يعد قيس سعيد ملك نفسه، أصبح ملك مشروع: مشروع دولة القانون، ودولة السيادة، ودولة النظافة. أصبح اليوم لتونس رئيس بشرعية تمثيلية واسعة، بعد معركة انتخابية تمحورت حول القيم. هذه طاقة دافعة كبيرة لإنجازات يفترض أن تكون كبيرة جدا”.
قيس سعيد تحصل على مجموع أصوات يساوي ما تحصل عليه في 2014 كل من الدكتور المرزوقي والمرحوم الباجي قايد السبسي. هذا أكبر من…
Posted by عدنان منصر – Adnen Manser on Sunday, October 13, 2019
عسر التغيير
وعلى الجانب الآخر، يرى الناشط السياسي طلال العربي في تصريح لـ”نون بوست” أنّ “صعود قيس سعيد ومروره للدور الثاني كان صعبًا، استغل فيه عدم وجود مرشح مقنع لحركة النهضة، والأخطاء قاتلة لمحمد عبو رئيس حزب التيار الديمقراطي، إضافة إلى انقسام ورثة النداء (وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي ونبيل قروي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد)”، مضيفًا ” سعيد كان مرشح الضرورة للأغلبية ممن انتخبوه في الدور الثاني، فخيار قروي/سعيد دفع جل النخب إلى الانحياز للأستاذ الجامعي في مواجهة المافيوزي”.
وأشار العربي إلى أنّ سعيد أمام تحديات جمة وعقبات قد تعرقل الذي انتخب من أجله، ومنها: استحالة تطبيق برنامجه (توزيع السلطة على الجهات) بتغيير الدستور حيث ستُلاقي خطوته رفضًا واسعًا، إضافة إلى ضعف تأثيره على الوضع الاقتصادي وعلاقته المتوترة مع الإعلام التونسي، مؤكداً أنّ رغم تطمينات سعيد للغرب بثوابت السياسة الخارجية بقطع النظر على تغير الحكام، والتزامها بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية، فإنّ علاقته بالخارج غالبا سيشوبها التوجس نظرا لراديكالية تصريحاته بخصوص “إسرائيل” ( نحن في حالة حرب) و بالتالي “اللوبي الصهيوني لن يتركه و شأنه”.
يرى مراقبون أنّ سعيد سيواجه مصاعب أهمها عسر تمرير بعض مبادراته التشريعية في ظل غياب السند أو الحزام الحزبي
ودعا الناشط طلال العربي الرئيس الجديد إلى تكوين فريق رئاسي كفؤ وذو خبرة من أجل التواصل وحسن إدارة مؤسسة الرئاسة والتعامل مع القضايا والأزمات.
وكانت صحيفة “لوموند” الفرنسية الرئيس وصفت التونسي الجديد بالرجل الذي يجمع بين تفكير ديني محافظ وديمقراطية هزمت هرم الدولة في الدولة الوليدة الديمقراطية، وقالت إن سعيد سيصطدم بالغرب بسبب ميله إلى السيادة المفرطة ورؤيته بتكوين مجتمع تونسي محافظ، فيما توقعت صحيفة “الغارديان” البريطانية أن فوز قيس سعيد يجعله منعزلا ببلده في ظل آرائه المحافظة بشأن تونس، وسعيه إلى إلغاء النظام البرلماني ومعتقداته ضد المثلية الجنسية وموافقته على قانون الإعدام وتصريحاته بشأن قانون ميراث المرأة.
ورغم أن الرئيس المنتخب قيس سعيد يحظى بدعم شعبي وسياسي واسع من مختلف القوى السياسية الوازنة في البرلمان (حركة النهضة والتيار الديمقراطي وإئتلاف الكرامة وحركة الشعب)، يرى مراقبون أنّ سعيد سيواجه مصاعب أهمها عسر تمرير بعض مبادراته التشريعية في ظل غياب السند أو الحزام الحزبي، وخروج حكومة جديد إلى النور بعد المشاورات التي تقودها حركة النهضة (الأغلبية في البرلمان 109 مقاعد من أصل 217)، إضافة إلى قدرته على تجميع الحساسيات السياسية المختلفة، التي تتصارع وتختلف في كثير المواقف والتوجهات، في الملفات والقضايا الكبرى.
ولئن كان صعود أستاذ القانون إلى سدة الحكم في تونس برافعة شعبية أعطت رسائل واضحة للداخل مفادها أنّ مسار الثورة متواصل وأنّه بإمكان الشعوب اختيار الخط الثالث (نتاج الشعب) بعيدًا عن الانتماءات السياسية والإيديولوجية الضيقة وبسواعد الشباب، إلا أنّها بعثت بأخرى إلى الخارج موجهة خصوصًا إلى الدول التي عرفت موجات الربيع العربي، وفيها أنّ محاربة تطلعات الشعوب العربية، والعمل على وأد الثورات بالسلاح والمال والانقلابات الدموية، لن تصمد حين يُرفع شعار “الشعب يريد”.