ترجمة تحرير: نون بوست
في سنة 1969؛ بعد 21 سنة من إعادة القوى الغربية رسم حدود بلاد الشام وإنشاء مستعمرة إسرائيل الاستيطانية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ليفي أشكول في خطاب له: “من هم الفلسطينيون؟ عندما جئت إلى هنا كان هناك 250,000 غير يهودي، معظمهم من العرب والبدو. لقد كانت صحراء. أكثر من متخلفة. ولا يوجد شيء. فقط بعد أن جعلنا الصحراء تزدهر أصبحوا مهتمين بأخذها منا.”
كان هذا أول استخدام مسجل لعبارة “جعل الصحراء تزدهر”، وهي العبارة التي أصبحت لاحقًا راسخة، وانتشرت مثل الأعشاب الضارة في التصورات الشعبية عن إسرائيل سواء داخليًا أو في الخارج.
وبعد ستة وخمسين سنة، في يناير/ كانون الثاني 2025، زارت الصحفية الفلسطينية الشهيرة والراوية بيسان عودة رفح. وفي حديثها لملايين متابعيها على وسائل التواصل الاجتماعي، قالت: “ذهبت إلى رفح اليوم، لأول مرة منذ مايو/ أيار 2024. لم تعد موجودة”.
قبل بضعة أسابيع، انتشرت صورة على وسائل التواصل الاجتماعي الصهيونية: علبة من قطع ليغو مكتوب عليها “غزة” بحروف كبيرة، تحتوي فقط على كومة من قطع ليغو الرمادية. وكانت النكتة تحظى بشعبية كبيرة في إسرائيل، مما أثار الضحك، ولكن أيضًا تبشيرًا حماسيًا حول كيفية إعادة تطوير الأرض الآن بعد أن تحولت إلى رماد.
إن إسرائيل هي كيان يمتلك أسطورة منسقة بشكل مهووس عن نفسه، إنه هوس مفرط في تقديم نشأته القاسية والدموية كشيء صحي وطاهر ومثمر. وهذا الانشغال ليس فريدًا من نوعه بين المشاريع الاستعمارية، التي سعت دائمًا إلى تصوير عنفها كرسالة حضارية نفذها مستوطنون نبلاء في أرض قاحلة ومعادية يجب تحويلها لتتوافق مع مفاهيم الغرب عن الحضارة والإنتاجية.
ما يميز الحالة الإسرائيلية هو المبالغة إلى درجة السخافة التي تظهر بشكل جلي لأي شخص ذي بصيرة. في بعض الأحيان؛ تبدو هذه العبارات المتعلقة ببناء الأمة نوعًا من السخرية المتعمدة، فـ”أكثر جيوش العالم أخلاقية” يوثق بسعادة جرائم الحرب الوحشية، ويلهو الجنود بألعاب ضحاياهم من الأطفال، ويحرق “القصف العسكري الدقيق” مخيمات بأكملها في ساحات المستشفيات.
إن التباين بين هذه الوحشية المفرطة والبروباغندا الثقافية الإسرائيلية الهادئة نوع من التلاعب العقلي على نطاق واسع، فالواقع يبدو مشوشًا وغير واضح مثل السراب، وتكاد تنفجر من الغضب والحزن بينما تقرأ مقالات “سي إن إن” التي تصف فتيات فلسطينيات في السادسة من عمرهن بـ”النساء”، وتنعى جنودًا إسرائيليين في التاسعة عشرة من عمرهم باعتبارهم من الضحايا والمراهقين.
خلق الغياب
في الآونة الأخيرة، كنتُ أطارد فكرة “جعل الصحراء تزدهر”، فلقد كان هذا المشهد يتكرر في ذهني وأنا أشاهد مقاطع فيديو لمدن فلسطينية ولبنانية تحولت إلى غبار، وأطفال يتجولون تائهين بين بقايا هياكل المدن، وأطفال رضع بالكاد تعلموا المشي والتحدث وهم يسألون أعمامهم عما إذا كانت سيقانهم المبتورة سوف تنمو مرة أخرى.
قبل بضعة أشهر، رأيتُ أحد أسوأ الأشياء التي رأيتها على الإطلاق (أقول هذا الكلام كل أسبوع على الأقل خلال الأشهر الستة عشر الماضية): أشلاء رجل، انفجرت تحت ثقل دبابة إسرائيلية، وكان جسده من الداخل عبارة عن عرض لامع من الألوان مقابل اللون الرمادي الذي لا ينتهي من حوله.
وأكد الشهود أنه دُهس حيًا، وكانت الدماء لا تزال تسري في عروقه وهي تندفع على الأنقاض من تحته. كان اسمه جمال عاشور، جمال يعني “الجمال” باللغة العربية. وفي اليوم التالي، أعاد أحد الفنانين تخيل المشهد، ورسم زهورًا حيث ترقد أعضاؤه المدهوسة. زهور غريبة وملطخة بالدماء، تذكرنا بالفاكهة الغريبة في الجنوب الأمريكي، دماء على الأوراق ودماء في الجذور.
وبعد بضعة أسابيع، انتشرت صورة أخرى على نطاق واسع؛ حيث رسم أحد الفنانين أحد أكثر المشاهد المروعة لهذه الإبادة الجماعية – أب يحمل طفله مقطوع الرأس، يتوسل إلى عالم بلا قلب أن تتوقف القنابل – ورسمها مع زهرة حمراء تنمو من عنق الطفل المقطوعة. وحول هذه الزهرة البشعة صحراء جهنمية من الغبار الرمادي والنار البرتقالية.
كيف يمكن التخلص من هذا الرعب، والعودة إلى الوقت الذي كان فيه رأس الطفل متصلًا بجسده، وكانت الزهور تنمو من الأرض الخضراء؟ وتحذرنا سوزان سونتاغ في عملها المؤثر “فيما يتعلق بآلام الآخرين” من أن مشاهدة الجحيم لا تخبرنا كيف نتغلب عليه. إن التعاطف، مثل الزهور، سيذبل إذا لم يتم الاعتناء به، والعناية بالتعاطف تتطلب تتضخم مثل مياه الفيضانات حول المباني المليئة العمل.
وفي الآونة الأخيرة، عندما وجهت إسرائيل أنظارها المتعطشة للدماء نحو لبنان، شاهدتُ من جديد الرعب عندما اجتاحت هذه الموجة الرمادية وطني. وكان الدمار يبدو متطابقًا، وهو شيء يبدو بوضوح إسرائيليًا في مجمله. سيفعلون الشيء نفسه هنا أيضًا. في كل مكان، ابتلع نفس اللون الرمادي المترب الحياة بأكملها ودمرها.
وأظهرت لنا مقاطع الفيديو التي تمت مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية الدمار في الوقت الفعلي، حيث كانت سحب الحطام بالحفر بينما كان جنود الاحتلال يضحكون في قبره فوجدته سليمًا ولكن مغطى بغبار رملي خشن. وكانت عائلتي محظوظة، ولكن من حولي كانت القبور المتصدعة والشواهد المكسورة.
كل شيء كان مغطى بذلك الرمل الرمادي الباهت. فكرتُ مجددًا في رؤية إشكول للزهور في الصحراء. ولم يكن وحيدًا في أفكاره؛ فقد كان الصهاينة لفترة طويلة مهووسين بالرمل واحتلاله، وجعله منتجًا.
تعد هذه العلاقة الاستغلالية بالأرض سمة مدروسة جيدًا للاستعمار حول العالم، وإسرائيل ليست استثناءً. لم يكن لديهم أي معرفة بالأنظمة البيئية المعقدة التي غزوها، ولم يعترفوا تقريبًا بالشعوب التي كانت تسكنها، سوى باعتبارها مزعجة يجب القضاء عليها.
ومع تقدم مشروع الاستعمار الصهيوني، تم استخدام الطبيعة كسلاح للتغطية على مسارح جرائمهم؛ حيث زرعوا الغابات فوق أنقاض القرى التي تم تطهيرها عرقيًا، وأحاطوا الأحياء الفلسطينية بالحدائق الوطنية، مما عزلها وقيّد تطورها.
وتُعرض هذه الجهود على أنها مكافحة للتصحر واستعادة المناظر الطبيعية، بينما هي في الواقع تعتمد بشكل كبير على أشجار الصنوبر غير الأصلية التي تضر بالأنظمة البيئية المحلية وتزيد من خطر حرائق الغابات.
ويمتد هذا الإكراه للسيطرة على الأرض ليشمل السيطرة على علاقة السكان الأصليين بها، ويتجلى ذلك في الحظر الإسرائيلي المفروض سنة 1977 على قطف الزعتر البري. وهذا القانون، الذي يعاقب على قطف الزعتر – وهو عنصر أساسي في النظام الغذائي الفلسطيني منذ قرون – بالسجن لمدة تصل إلى 3 سنوات، يُقدَّم على أنه جهد للحفاظ على البيئة.
أما في الممارسة العملية، فيُستخدم هذا القانون لزيادة إخضاع الفلسطينيين ومحاولة فصلهم عن الممارسات الغذائية التقليدية التي تربطهم بأرضهم.
لقد احتاج الصهاينة الأوائل إلى كتب طبخ خاصة لتعلم الطبخ بالمكونات المحلية، ومع ذلك وبعد مرور عقود، لا يزال الحقد هو النكهة الغالبة على مجتمعهم. ويتساءل المرء، هل نظر الإسرائيليون إلى جامعات غزة الجميلة، وإلى بساتين البرتقال المزدهرة فيها، وشعروا بالغيرة؟ هل نظروا إلى مساجد لبنان الرائعة وكنائسها، وإلى بساتين الزيتون الوفيرة فيها، وشعروا بتيار من الحقد يتدفق في داخلهم؟ لماذا لا يتصرفون كالحيوانات التي نريدهم أن يكونوا عليها؟
يبدو أن الأمر كذلك بالتأكيد. هناك شيء حميمي في الطريقة التي يختارون بها التدمير، في العداء المتقد الذي يرغبون من خلاله في السيطرة.
إن السيطرة على الطعام والزراعة هي جانب مهم في الأسطورة الصهيونية الوطنية المتعلقة بجعل الصحراء تزدهر، كما أنها ساهمت بشكل كبير في جهودها في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني. ففي بداية الإبادة الجماعية في غزة، كان أول شيء قامت به إسرائيل هو قطع إمدادات المياه. وفي الأسابيع الأخيرة، استبدلوا أكياس السكر بأكياس من الرمل في شحنة مساعدات غذائية.
وأظهرت مقاطع الفيديو التي وثقت الفلسطينيين الجوعى وهم يتلقون الشحنة، فتحهم للأكياس واحدة تلو الأخرى، ويسكبونها على الأرض تحتهم، فأصبحت المنازل تتحول إلى رمال، والطعام يتحول إلى رمال، والآمال تتحول إلى رمال. وتكمن فظاعة هذه الوحشية في الالتزام التام بفرض اليأس بأي وسيلة ضرورية، وخلق العدم من شيء حتى يتمكنوا من الظهور وكأنهم يخلقون شيئًا من العدم.
في كل مكان تذهب إليه إسرائيل، تخلق فراغًا؛ فراغ المدارس التي كان الأطفال مشغولين بالتطور فيها ذات يوم ليصبحوا بالغين، وفراغ المستشفيات التي كان الناس يلجؤون إليها للشفاء والملجأ، وفراغ الأشجار التي كانت تغذي الأجساد التي اعتنت بها.
اختفت جميع الأبواب التي كانت تدعو الغرباء للدخول كأصدقاء مكرمين، واختفت النوافذ التي كانت تراقب العشاق وتحفظ أسرارهم، والتهمتها الرغبة الاستعمارية المستمرة في تحويل ما هو حي ويتنفس وجميل إلى لوحة فارغة وصامتة. إن الصحراء القاحلة التي يرغبون في زراعتها بشدة لم تكن موجودة قط، لذلك يجب عليهم خلقها، لأنه في تفكيكها سيخلصون أنفسهم. أو هكذا يظنون.
فلسطين ستزدهر بشعبها
في طريقهم إلى أرض أحلامهم القاحلة، يريد المحتلون منا أن ننسى أن فلسطين كانت موجودة من قبل، لكنني أصدق جدتي، التي كانت تتذكر بوضوح فلسطين حرة ومزدهرة قبل وفاتها مؤخرًا. أصدق الفلسطينيين، ورفاقي في جميع أنحاء العالم في حركة التحرير الفلسطينية، الذين يعرفون أن فلسطين الحرة هذه ستعود مرة أخرى بعد سقوط الصهيونية.
وفي أحد مقاطع الفيديو الأخيرة لبيسان، تأخذنا إلى أنقاض مسجد طيبة في رفح. وسط الأنقاض الرمادية الغبارية التي لا تنتهي، تصادف قطعة من الأنقاض على شكل مذهل يشبه خريطة فلسطين، مشيرة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا؛ فهي ترى وطنها في كل شيء، كما لو أنه بعث من رماد محاولات تدميره.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، شهدنا العودة المنتصرة للفلسطينيين إلى شمال غزة واللبنانيين إلى جنوب لبنان، تلتها بسرعة تصريحات إسرائيل عن نيتها البقاء في بعض أجزاء لبنان، ومحادثات بين إسرائيل والولايات المتحدة توضح خططًا للقيام بتطهير عرقي كامل في غزة.
وقام دونالد ترامب بتقديم هذه الجريمة المقترحة ضد الإنسانية باعتبارها مشروعًا خيريًا، حيث قال إن غزة “مدمرة تمامًا” و”غير قابلة للسكن”، بينما ابتسم نظيره الإسرائيلي بجانبه، وخيال استعماري صهيوني قديم يظهر في عينيه، فأخيرًا؛ لقد وصل إلى الصحراء.
ومع ذلك؛ كان أهل الأرض واضحين: لن ينتقلوا. كان هناك موضوع متكرر بين العائدين إلى شمال غزة وجنوب لبنان، وهو العثور على زهور تنمو بين أنقاض منازلهم، حيث نشر العديد من الأشخاص صورًا عبر الإنترنت للزهور التي تنبت وسط الأنقاض والغبار. قد يبدو الحديث عن الزهور أمرًا تافهًا، لكن يجب علينا أن نسمح لهذه الصور أن تغذي تفاؤلنا الثوري، دون أن نبالغ في رومانسيتها.
لم تكن فلسطين صحراء قط، على الأقل ليس بالطريقة التي يتخيلها الصهاينة، لكنها ستزدهر مرة أخرى. إن الزهور التي تنمو على قبور شهدائنا تتغذى على دمائهم، بينما تتغذى الزهور التي تنمو في رؤوس قاتلينا على كراهيتهم لنا. إن واحدة فقط من تلك الزهور يمكن أن تتفتح حقاً؛ فالزهور لا يمكن أن تنمو من الكراهية.
المصدر: موندويس