“لو قدرنا نوقع السلام في الفترة من شهر إلى 6 شهور، هذا سيخلق مناخًا جيدًا، لأن الحرب تصرف من 70 إلى 80% من ميزانيتنا”.. هكذا احتلت مفاوضات السلام المرتبة الأولى في قائمة أولويات رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك في المرحلة الانتقالية.
التصريحات التي أدلى بها حمدوك بعد ساعات قليلة من أدائه اليمين الدستورية في الـ8 من سبتمبر الماضي كشفت بصورة كبيرة خريطة اهتمامات الرجل في السنوات الثلاثة المقبلة، تلك الأولويات التي يعول عليها السودانيون في عبور مأزقهم الحاليّ المتسبب فيه بالدرجة الأولى التركة المثقلة التي ورثها الشارع بعد عقود طويلة من الحكم العسكري.
الإثنين الماضي، انطلقت أولى جولات المفاوضات المباشرة بين الحكومة السودانية وعددٍ من الحركات المسلحة، بوساطة من دولة جنوب السودان، وتحت رعاية عدد من المنظمات الإقليمية والدولية، وسط حالة من التفاؤل في التوصل إلى اتفاق ينهي سنوات طويلة من الحرب في إقليم دارفور غربي البلاد.
سلفاكير مياريت: المشاكل السياسية لا تحل عبر البندقية والحلول لا يمكن أن تكون فردية هي نتاج لحوار الجميع
وكانت الأطراف قد توصلت في أغسطس الماضي لإعلان مبادئ أولي، يقضي بإطلاق سراح المحكومين والمعتقلين من قيادات الحركات المسلحة، وتوصيل المساعدات للمتضررين من الحرب في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتأخير تكوين حكومات الولايات إلى حين التوصل لاتفاق سلام ووقف إطلاق النار.
أجواء تفاؤلية
بدأت الجولة التفاوضية بجلسة افتتاحية حضرها الرئيس الأوغندي يوري موسفيني، ورئيس وزراء إثيويبا آبي أحمد، ورئيس الوزراء المصري مصطفي مدبولي، فيما ترأسها رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت وعبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني.
البرهان خلال كلمته الافتتاحية أكد التزام المجلس السيادي بالتوصل لاتفاق سلام في الموعد المحدد، مبديًا تطلعه لأن تكون هذه الجولة فرصة لوضع حل نهائي لأزمة الحكم في البلاد، مشيرًا إلى ضرورة وضع كل القضايا على الطاولة ليتم وضع حل نهائي.
أما رئيس الوزراء الإثيوبي الحاصل مؤخرًا على جائزة نوبل للسلام لجهوده في إقرار السلام والاستقرار، سواء في إريتريا أم السودان، فأكد في كلمته أن حوار جوبا هو تكملة للمصالحة الوطنية التي نشأت بفعل الثورة السودانية.
وأضاف آبي أحمد أنه يجب على كل الدول الإفريقية أن تعتمد الحوار البناء والهادف كسبيل وحيد لحل جميع الخلافات والمشاكل العالقة، وتابع “بالحوار تمت المصالحة مع إرتريا” مناشدًا الجميع بوضع مصلحة الدولة والشعب فوق أي مصالح أخرى.
فيما كشف رئيس حكومة الجنوب سلفاكير مياريت، أن “المشاكل السياسية لا تحل عبر البندقية والحلول لا يمكن أن تكون فردية هي نتاج لحوار الجميع”، موجهًا حديثه لأطراف النزاع قائلاً: “أطالبكم بالتفاوض بجدية وتقديم التنازلات المتبادلة وصولاً للسلام”.
ذهب رئيس الجبهة الثورية، الهادي إدريس، إلى أن الثورة السودانية أوجدت مناخًا مناسبًا للسلام، وأنه حان الوقت لتجاوز إخفاقات الماضي وإنهاء التهميش ومخاطبة جذور الأزمة
رئيس أوغندا يوري موسفيني، بدوره أكد ضرورة معالجة خطأ التشخيص للأزمة السودانية وعدم إنفاق وقت طويل، لافتًا إلى أن المشكلة واضحة ولا تحتاج لكل هذا الوقت ويجب تقديم المصلحة، داعيًا المتفاوضين لعدم إضاعة الوقت والوصول لحلول سريعة لمصلحة الشعب السوداني.
فيما ذهب رئيس الجبهة الثورية، الهادي إدريس، إلى أن الثورة السودانية أوجدت مناخًا مناسبًا للسلام، وأنه حان الوقت لتجاوز إخفاقات الماضي وإنهاء التهميش ومخاطبة جذور الأزمة، مبينًا أن الجبهة تعلن استعدادها لتفاوض جوبا وملتزمة بإعلان جوبا.
جدير بالذكر أن الحكومة السودانية مثلت في الاجتماع بوفد يرأسه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عضو مجلس السيادة، ويضم كلاً من الفريق شمس الدين كباشي والفريق ياسر العطا، عضوي مجلس السيادة من العسكريين، ويضم الوفد من المدنيين محمد الفكي سليمان ومحمد حسن التعايشي، ومن مجلس الوزراء، وزير رئاسة مجلس الوزراء عمر مانيس ووزير الحكم الاتحادي يوسف آدم الضي، إضافة إلى رئيس مفوضية السلام سليمان آدم الدبيلو، فيما يشارك في الجلسة الافتتاحية رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وعددٌ من رؤساء الدول الإفريقية.
أما المجموعات المسلحة فشاركت بوفدين: الأول يمثل “الجبهة الثورية” وهي تحالف لحركات مسلحة أبرزها “الحركة الشعبية – فصيل عقار” وحركة “العدل والمساواة” برئاسة مني أركو ميناوي وحركة “العدل والمساواة” بزعامة جبريل إبراهيم، ويقود الوفد الهادي إدريس، رئيس الجبهة، بينما تتمثل “الحركة الشعبية” بزعامة الفريق عبد العزيز الحلو بوفدٍ منفصل يقوده عمار أمون، فيما تُعد “حركة تحرير السودان” بزعامة عبد الواحد محمد نور، أبرز الغائبين عن جولة التفاوض، إذ ترفض الحركة الجلوس مع العسكريين الذين تعتبرهم امتدادًا لنظام البشير.
مساران منفصلان
ينقسم المسار التفاوضي لحلحلة الأزمة إلى مسارين منفصلين، وفق ما أشار إليه الصحفي السوداني وائل الفاتح، أحدهما بين الحكومة و”الجبهة الثورية”، والآخر بين الحكومة و”الحركة الشعبية – فصيل الحلو”، وذلك بسبب تباين وجهتي نظر الجبهتين فيما يتعلق بمستويات التفاوض رغم اشتراكهما في دوافع الاقتتال.
الحركات المنضوية تحت لواء الجبهة وأبرزها “حركة تحرير السودان” و”العدل والمساواة” تقاتل في إقليم دارفور، منذ عام 2003، بحثًا عن قسمة عادلة للثروة القومية
الفاتح في حديثه لـ”نون بوست” كشف أن “الجبهة الثورية” من المرجح أن تطرح في تفاوضها مع الحكومة مسألة الحكم الذاتي لمناطق الحرب، مقارنة بـ”الحركة الشعبية” التي يتوقع أن تطالب بتقرير المصير لمنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وهو ما يجعل التفاوض المنفصل مع كل طرف مسألة حيوية.
وأضاف الصحفي السوداني أن المسار التفاوضي لن يكن سهلاً كما يتوقع البعض، لافتًا إلى وجود العديد من العقبات التي ربما تُفشل عملية المفاوضات، فبجانب اختلاف وجهات النظر بين تلك الحركات بشأن المطالب، فإن الترتيبات الأمنية اللاحقة بشأن استيعاب المسلحين، بالإضافة إلى المخاوف من وجود أطراف إقليمية لا ترغب في تحقيق السلام في السودان، ربما تقف حجر عثرة أمام إنجاح هذا المسار.
يذكر أن الحركات المنضوية تحت لواء الجبهة وأبرزها “حركة تحرير السودان” و”العدل والمساواة” تقاتل في إقليم دارفور، منذ عام 2003، بحثًا عن قسمة عادلة للثروة القومية، ومشاركة الإقليم في السلطة، فضلاً عن منح استقلالية من المركز أكثر من غيره من الأقاليم، كما تطالب تلك الحركات بإنهاء ما تعتبره تهميشًا طال الإقليم منذ استقلال السودان 1956.
والأسباب ذاتها هي التي دفعت الحركة الشعبية إلى القتال في كل من منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، لكن “قطاع الشمال” شهد هزة حينما انقسم قبل ثلاث سنوات إلى فصيلين: الأول بقيادة الفريق عبد العزيز الحلو، ويتركز ثقله السياسي والعسكري في جنوب كردفان، وآخر بزعامة مالك عقار ويتركز في منطقة النيل الأزرق.
خطوات استباقية
العديد من الخطوات الاستباقية اتخذتها حكومة حمدوك لتعزيز عملية التفاوض بحثًا عن الاستقرار، منها تعيين خبير في مجال التعايش الاجتماعي، هو سليمان الدبيلو، رئيسًا لمفوضية السلام التي نصّت الوثيقة الدستورية على إنشائها للإشراف على عملية السلام، كذلك استبق رئيس الوزراء عبد الله حمدوك المفاوضات باجتماع نادر مع رئيس حركة “العدل والمساواة” جبريل إبراهيم، على هامش زيارته إلى أديس أبابا، نهاية الأسبوع الماضي.
وفي 11 من سبتمبر/أيلول الماضي، وقّعت الأطراف نفسها في مدينة جوبا على إعلان مبادئ، بغرض تهيئة المناخ للتفاوض، هذا الإعلان الذي سهل كثيرًا في تخفيف حدة التوتر، لا سيما بعدما قضى بإطلاق سراح قيادات من المتمردين محكوم عليهم بالإعدام وأحكام أخرى.
الكاتبة أميرة ناصر: الجولة التي تمتد من اليوم الـ14 من أكتوبر حتى 14 من ديسمبر، ستناقش كل فرص تحقيق السلام الشامل والعادل بما يحقق وقف الحرب وتحقيق تنمية متوازنة وعادلة
هذا بخلاف مراعاته للبُعد الإنساني والاجتماعي المتمثل بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من الحرب في مناطق النزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق، بخلاف البُعد السياسي المتعلق بتأخير تشكيل حكومات الولايات إلى حين التوصل إلى اتفاق سلام ووقف لإطلاق النار، وهو ما يعطي دفعة قوية للمفاوضات.
من جهتها أكدت أميرة ناصر الكاتبة المتخصصة في الشأن السوداني أن الجولة التي تمتد من اليوم الـ14 من أكتوبر/تشرين الأول وحتى 14 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، ستناقش كل فرص تحقيق السلام الشامل والعادل بما يحقق وقف الحرب وتحقيق تنمية متوازنة وعادلة في تلك المناطق، ومناطق أخرى تأثرت بالحرب مثل شرق السودان.
وأضافت لـ”نون بوست” أن المفاوضات هذه المرة تختلف شكلاً ومضمونًا عن الجولات السابقة، وهو ما أضفى حالة من التفاؤل على الشارع السوداني الذي يترقب نتائج مبشرة تتناغم وطموحات السودانيين في دولة جديدة تضع وفق حساباتها المصلحة الوطنية على المصالح السياسية والحزبية.
ومما يعزز تلك النظرة التفاؤلية بشأن نجاح المسار التفاوضي هذه المرة أن الجزء الأكبر من أطراف النزاع هم جزء من تحالف “الحرية والتغيير” المشارك بقوة في نظام الحكم الحاليّ، وهو ما يعطي للجهود السلمية زخمًا سياسيًا وإعلاميًا وميدانيًا غير مسبوق، ويبقى تعاطي قيادات الحركات المسلحة مع المبادرات المطروحة هو المحك الحقيقي لتقييم عملية التفاوض.