شرع الاحتلال منذ مطلع التسعينيات بانتهاج ثلة من سياسات وإجراءات الفصل والسيطرة المشددة على قطاع غزة، ارتكزت بمجملها على وجوده العسكري والاستيطاني المباشر فيها، وازدادت حدة هذه الإجراءات مع الانتفاضة الثانية، وما رافقها من إغلاقٍ للحواجز العسكرية وإلغاءٍ لتصاريح عبور الغزيين للداخل المحتل أو للضفة الغربية، ولاحقًا، ومع خطة الانسحاب أحادي الجانب، شهدت سياسات الاحتلال تلك تحولًا في نمطها إثر تفكيك مستوطنات ومواقع الجيش وحواجزه داخل القطاع، إذ تخلى الاحتلال عن نمط السيطرة والمراقبة المرتكز في أساسه على وجود العسكري والاستيطاني المُكلف، واستبدله بنمط قائم على سياسات عزل ومراقبة وسيطرة أكثر تعقيدًا ومعتمدة على تطويق غزة برًا وجوًا وبحرًا بمجموعة لا متناهية من تقنيات وبرمجيات حديثة من طائرات دون طيار إلى أسوار مكهربة وأنظمة حرب إلكترونية وبرمجيات اتصالات وملاحة.
بمحاذاة ذلك، ومع العام 2007، بدأ الاحتلال بشد الخناق على غزة، عبر منظومة واسعة من سياسات الحصار والتجويع، سعت إلى الفتك بالغزيين وتطويعهم، فنجح من خلالها في تردية ظروفهم المعيشية وتدمير مواردهم الاقتصادية وإفراغ جيوبهم والتحكم في أصغر تفاصيل حياتهم، وصل لأن يحدد الاحتلال مقدار المواد الغذائية التي تدخل إلى غزة عبر احتساب السعرات الحرارية كحصة للفرد الفلسطيني واحتساب حصة كل فرد من كل نوع من السلع، وطالت تلك الإجراءات كل القطاعات بلا استثناء، ومن ضمنها القطاع الزراعي الذي كان يشكل قبل الحصار جزءًا أساسيًا من الأمن الغذائي للغزيين والأمن الاقتصادي للمزارعين، فبلغت أضرار قطاع الزراعة المباشرة وغير المباشرة خلال عدوان العام 2014 فقط ما يقارب نصف مليار دولار، من تدميرٍ لآبار ري ودفيئات زراعية، فضلًا عن قتل المواشي وتجريف الأراضي.
ممارسات بيئية أم عمليات عسكرية؟
بعيد حربه الأخيرة على غزة صيف العام 2014، استخدم جيش الاحتلال طائرات زراعية لرش مبيدات أعشاب ومواد كيميائية على طول السياج الفاصل شرق قطاع غزة، تحت مزاعم تطهير الغطاء النباتي والحصول على مناطق ميتة أمنيًا ومسيطر عليها في مجال الرؤية.
أدت عمليات رش المبيدات تلك إلى تدهور الغطاء النباتي والزراعي على الجانب الشرقي من القطاع – امتدادًا من بيت حانون في الشمال إلى رفح في الجنوب -، وهو الغطاء الذي يشكل 25% من الإنتاج الإجمالي للاقتصاد في غزة
عمليات رش المبيدات بلغ عددها في الفترة بين نوفمبر 2014 إلى ديسمبر 2018 نحو 30 عملية رش، نُفذت خلال أهم المواسم الزراعية من كل عام مستهدفةً محاصيل الربيع والصيف، وتنفذ فقط حين تكون الرياح شرقية، تهب من داخل مناطق السيطرة الإسرائيلية باتجاه قطاع غزة، لتحمل معها المبيدات إلى أراضي المزارعين على امتداد منطقة السياج الفاصل، فيشعل جنود الاحتلال إطارات قبل البدء بأي عملية رش للتأكد من اتجاه الرياح.
أدت عمليات رش المبيدات تلك إلى تدهور الغطاء النباتي والزراعي على الجانب الشرقي من القطاع – امتدادًا من بيت حانون في الشمال إلى رفح في الجنوب -، وهو الغطاء الذي يشكل 25% من الإنتاج الإجمالي للاقتصاد في غزة، حيث أشارت وزارة الزراعة أن أكثر من 1500 دونم (357 فدانًا) من الأراضي الزراعية تتأثر سنويًا بعمليات الرش، ما يعني ضغطًا إسرائيليًا إضافيًا على المزارعين الفلسطينيين واقتصادهم المُدمر أساسًا جراء سياسات الحصار المُنتهجة ضد القطاع وأهله.
ليست النباتات فقط
قبل شهورٍ عديدة، أجرت وكالة الأبحاث اللندنية (Forensic Architecture) محاكاة لإحدى عمليات رش المبيدات التي نفذها جيش الاحتلال شرق غزة، بغية تحديد مدى تركيز مبيدات الأعشاب في أراضي المزارعين وانجرافها إليها.
المحاكاة التي بُنيت على فيديو التُقط لطائرة إسرائيلية من طراز (S2R-T34 Turbo Thrush) ترش مبيدات الأعشاب على طول السياج الفاصل مع غزة، أظهرت نتائجها أن تحرك الرياح عبر مسار رش مبيدات الأعشاب، يحمل معه المواد الكيميائية باتجاه أراضي غزة، وبالتالي ترسبها فيها، بما يعني تلف المحاصيل الزراعية نتيجة انجراف التركيزات الضارة للمبيدات، إضافةً إلى ذلك، وبمقارنة الوكالة لصور التقطت من أقمارٍ صناعية بعد خمسة أيام من إحدى عمليات الرش شرق غزة بأخرى التقطت بعد 15 يومًا منها، يظهر مدى تآكل وتدهور المناطق الزراعية المتأثرة بانجراف مبيدات الأعشاب وتركيزات موادها الكيميائية المدمرة.
(صورة تُظهر تركز المبيدات الضار وانجرافها غربًا باتجاه الجانب الفلسطيني من السياج – المصدر: Forensic Architecture)
بيد أن تهتك الغطاء النباتي والبيئي والضرر الاقتصادي اللاحق بالمزارعين، ليست الأوجه الأبشع لعمليات الرش المُنفذة، بل هناك أوجه أكثر خطرًا، تمس سلامة المزارعين وصحتهم، وكذا رعاة الأغنام الذين تمثل النساء الجزء الأكبر منهم، إضافةً للضرر الواصل لمجمل سكان المناطق الحدودية وكل من يأكل من تلك المحاصيل، إذ بالتطرق للمواد المرشوشة التي تشمل ثلاثة أنواع من المبيدات هي: غليفوسات (Glyphosate) وأوكسي فلورْفِن (Oxyfluorfen) وديورون (Diuron)، نجد أن الأول منها وعدا عن تركه آثارًا ضارة في الهواء والماء والتربة والمحاصيل، فإن وكالة أبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية صنفته منذ عام 2015 كمادة يُحتمل تسببها بالسرطان للبشر.
الجدير بالذكر أن مبيد الغليفوسات تصنعه شركة (Monsanto) الأمريكية الرائدة في مجال صناعة الكيماويات الزراعية التي أنتجت مبيدات أعشاب ومواد كيماوية استخدمها الجيش الأمريكي في حربه على فيتنام، والشركة ذاتها كانت في وقتٍ سابق جزءًا من مجموعة صناعية ألمانية أدارت معسكرات عملٍ للعبيد وزودت معسكرات الإبادة النازية بالغازات السامة خلال الهولوكوست.
تفضي ممارسة بيئية مثل رش المبيدات، إلى ممارسة استعمارية تبغي قتل الإنسان والحيوان والنبات والأرض، في تعبير فج عن آلة قتل إسرائيلية تطال الوجود الفلسطيني بكل مكوناته وأشكال حياته
إضافةً إلى ذلك فإن مبيد (الأوكسي فلورفن) الذي تصنعه الشركة الإسرائيلية (Tapazol Chemical Works Ltd)، إضافةً لمنعه نمو بعض الأعشاب والنباتات، فإنه يسبب تهيجًا شديدًا عند ملامسته للجلد أو العينين، والأمر لم يتوقف عند ذلك، بل طال الضرر الماشية التي تتغذى على النباتات في المناطق المستهدفة، أدى ذلك لانتقال التركيزات الضارة للكيماويات إلى أجسادها، فنفقت بعض المواشي نتيجة ذلك، هذا إلى جانب انتقال الضرر لمن تغذوا على هذه الماشية.
هكذا تفضي ممارسة بيئية مثل رش المبيدات، إلى ممارسة استعمارية تبغي قتل الإنسان والحيوان والنبات والأرض، في تعبير فج عن آلة قتل إسرائيلية تطال الوجود الفلسطيني بكل مكوناته وأشكال حياته، ورش المبيدات كممارسة عقابية، ليست بجديدة على الاحتلال بل استخدمها من قبل ضد الحقول التي كان يزرعها سكان القرى البدوية “غير المعترف” بها في النقب.
(صور تُظهر أوراق نباتية تالفة نتيجة عمليات رش المبيدات – المصدر: Forensic Architecture)
من جانبٍ آخر، وهو أمر غاب عن معظم التقارير السابقة الصادرة عن الموضوع، فإن عمليات رش المبيدات خلال السنوات الماضية خلفت منطقةَ ميتة من مساحات كاملة من الأراضي التي كانت سابقًا صالحة للزراعة، وهو ما استغله جيش الاحتلال خلال مسيرات العودة الكبرى، إذ أصبح المشاركون في المسيرات عرضة لذخيرة القناصة الحية بفضل هذه المنطقة الميتة، عبر ما أتاحته من مجال واسع للرؤية على الجانب الغزّي من السياج الفاصل. يذكر أن عدد شهداء مسيرات العودة بلغ 314 شهيدًا منذ انطلاقها بتاريخ 30 من مارس/آذار 2018.
الحصار أو القتل البطيء: لا إشارات لأيّ تغيير
لا يتوقف استهداف الاحتلال لقطاع الزراعة على رش المبيدات المدمرة وإتلاف الغطاء النباتي وتسميم المحاصيل والمواشي والتسبب بالأمراض للمزارعين، فجرافات الاحتلال تمارس وبشكلٍ منتظم توغلات داخل السياج الفاصل لتدمير البنية التحتية وقلع الأشجار بهدف تحسين مجال الرؤية والتحرك لعملياتها العسكرية على السياج الفاصل، وعشرات المزارعين قُتلوا في أراضيهم خلال السنوات الماضية، ومنعوا من تصدير منتجاتهم إلى خارج غزة، وحُظر عليهم استيراد أدوات وماكينات زراعية، كما منع دخول اللقاحات الخاصة بأمراض الماشية، وقوض ذلك بالنهاية قدرة الفلسطينيين الاستثمارية في مجال الزراعة وتربية المواشي.
إن الممارسات بحق المزارعين وأراضيهم ومواشيهم، جزء من سلسلة طويلة تحوي إجراءات وسياسات تستهدف البنى التحتية الحيوية في غزة، وتُحكم الطوق على المجال البحري والبحري والجوي فيها، بهدف العقاب والتجويع والقتل.
سنوات حصار طويلة، تخللتها ثلاث جولات عدوانية، أحالت أحد أكثر الأمكنة كثافةً في العالم إلى شريط ساحلي مخنوق، عصي العيش ومكدر الحياة، فمعدلات الفقر فاقت الـ65%، وبات 80% من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات الخارجية، ومعدل البطالة بين الشباب بلغ 70%، والبنى الحيوية والاقتصادية مدمرة، والاجتماعية متهتكة، كل ذلك ولا حلول إنسانية ولا سياسية تلوح لا في أفقٍ قريب ولا بعيد.