تقع أعيننا كثيرًا على إعلانات مختلفة لجولات سياحية ممتعة إلى البحر الميت للاستجمام والاهتمام بالبشرة على شواطئه، وغالبًا ما كنا نسمع قصصًا عن الأوقات الرائعة التي يقضيها السياح والزوار هناك، حيث تتمتع هذه المنطقة بميزات فريدة وحصرية، ولا يشببها أي مكان في العالم لا من ناحية جمالية ولا من ناحية خصائصها الجيولوجية، نظرًا لشدة ملوحة المياه وتركيبتها الكيميائية الخاصة وتنوعها البيولوجي وجمال طبيعتها الاستثنائي.
المحزن في القصة، أن منطقة البحر الميت تموت حقًا، وهو ما تنذر به تقارير كثيرة، إذ باتت خسارة هذا الكنز الطبيعي حتمية في غضون 30 عامًا تقريبًا من وقتنا الحاضر. في هذا السياق قال خبراء مياه أردنيون إن البحر في طريقة للزوال بحلول عام 2050، إذ تقلصت مساحته بنسبة 35% خلال 4 عقود. بالمقابل هناك أصوات متفائلة قليلًا، تقول إنه سيستمر في الانكماش لكن يختفي تمامًا، وإنما سيتبقى جزء صغير من حجمه الحالي، ومع ذلك لم تنفي هذه التوقعات شبه المؤكدة حقيقة الخسائر البيئية والاقتصادية التي شهدت عليها منطقة البحر الميت منذ عقود طويلة.
ولكي نتعرف عن قرب على أسباب جفاف البحر الميت، نناقش في هذا التقرير المنشور ضمن ملف “بلاد العطش”، قصة موت البحر الميت من زوايا عدة، منها الحالة البيئية للمنطقة والأهمية الاقتصادية والتاريخية لها، ودور دولة الاحتلال الإسرائيلي في عرقلة محاولات الإنقاذ ومساهمتها بتفاقم المشكلة واتساع رقعتها، إلى جانب توضيح دور الدول المشاطئة له أيضًا في تعاظم الكارثة.
البحر الميت.. بيئة طبيعية فريدة وأهمية اقتصادية كبيرة
هو بحيرة مغلقة تصلها المياه بشكل رئيسي من نهر الأردن وروافده الأخرى الموجودة في دول الحوض مثل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، بالإضافة إلى فلسطين المحتلة. لا يوجد بالعالم كله سوى بحر ميت واحد وهو أخفض نقطة على وجه الأرض، فهو يصل إلى 420 مترًا تحت مستوى البحر، كما تبلغ نسبة الملوحة فيه نحو 34% أي أكثر من ثماني أو تسع مرات من محيطات العالم، ما يجعله أملح المسطحات المائية على الإطلاق.
يضاف إلى ذلك، تميزه بالكثافة والغنى بالمعادن، مثل المغنيسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم والبروم والصوديوم واليود، وهو ما منح مياهه تركيبة خاصة ونادرة وأكسبه أهمية سياحية واقتصادية، فلقد بات مقصدًا مثاليًا للاستجمام والعلاج من الأمراض الجلدية مثل الصدفية والاكزيما والبهاق، وغيرها من الأمراض مثل الروماتيزم واضطرابات الدورة الدموية.
كما يُعرف البحر الميت بفوائد طينه، فغالبًا ما يغطي الزوار أجسادهم ووجوههم بالوحل للاستفادة من خصائصه العلاجية والتجميلية، إذ يحتوي على الأكسجين والأملاح المعدنية والفيتامينات المساعدة في علاج حب الشباب وكلف الوجه والتجاعيد وتشقق القدمين والفطريات وتقصف الشعر وتساقطه، وذلك عدا عن كثرة الينابيع الساخنة ونقاء هوائه ما يساعد السياح على الاسترخاء والتخلص من ضغوط الحياة المتراكمة.
يُعد تركيز الأكسجين في هواء المنطقة، هو الأعلى في العالم، إذ تصل نسبته إلى 36% علماً بأن النسبة العالمية تصل إلى 26%. أما الضغط الجوي فيتراوح بين 796 و799 ملم زئبقي وهي النسبة الأعلى في العالم أيضاً، ما جعله المكان المناسب لمرضى الربو، وذلك ما يفسّر سبب إقامة الكثير من المنتجعات على شاطئه واختياره من قبل منظمة الصحة العالمية في عام 2011 كمركز عالمي للسياحة العلاجية.
تتمتع المنطقة بتنوع بيئي مبهر من المحميات الطبيعية مثل عين فشخة ووادي الموجب التي أدرجتها منظمة اليونسكو عام 2011 كمحمية للمحيط الحيوي
ينبع الاهتمام العالمي بهذه المنطقة من دوافع تاريخية ودينية، حيث تحتوي مواقع دينية مثل موقع المغطس أي المكان الذي تعمد فيه المسيح عليه السلام، وهو موقع مهم بالنسبة للحجاج المسيحيين، فقد زاره 143 ألف شخص في عام 2018 فقط، بحسب المدير العام لموقع المغطس بالوكالة رستم مكجيان. كما يوجد أضرحة لصحابة مسلمين مثل أبو عبيدة عامر بن الجراح وعامر بن أبي وقاص وغيرهم.
جدير بالذكر أن المنطقة تتمتع بتنوع بيئي مبهر من المحميات الطبيعية مثل عين فشخة ووادي الموجب التي أدرجتها منظمة اليونسكو عام 2011 كمحمية للمحيط الحيوي. ومنذ ذلك الحين باتت مقصدًا لمحبي الرياضات المائية والاستكشافات البيئية، فهي تضم نحو 400 نوع من النباتات والحيوانات النادرة مثل الماعز الجيلي والقطط البرية.
يضاف إلى ذلك، الروايات التاريخية التي التصقت باسم البحر الميت مثل استخدام كليوباترا مياهه كجزء من روتينها الخاص في العناية بالبشرة والجمال، أو ارتباطه بحضارتي سدوم وعمورة -وفق الرواية التوراتية- أو قوم لوط كما ذكر في القرآن الكريم.
كيف جفّت مياه البحر الميت؟
بحسب الإحصاءات الرسمية فإن منسوب مياه البحر ينخفض بمعدل متر ونصف سنويًا، إذ يخسر البحر الميت 800 مليون متر مكعب من مياهه سنويًا، مما أدى إلى انخفاضه إلى 34 مترًا دون مستوى سطح البحر. بدأ هذا الانحسار منذ السبعينيات بسبب عوامل بشرية وطبيعية، مثل شح الأمطار وتغير المناخ الذي قلب النظام البيئي وأخرجه عن وضعه الطبيعي، ومع ذلك يرى الخبراء أن التطفل البشري كان أكثر تأثيرًا، وهنا يعد الاحتلال الإسرائيلي لاعب أساسي.
تسبب تحويل “إسرائيل” مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب في الجنوب عام 1964 بتقليل موارد البحر المائية التي تصب في البحر الميت، كما أدى تدشين دول الحوض مصادر لتطوير المياه وبناء السدود وخاصةً في سوريا والأردن إلى خفض كميات المياه الجارية باتجاه البحر الميت. إذ كانت المياه الجارية تبلغ حوالي 1.3 مليار متر مكعب سنويًا، فيما لا تتجاوز اليوم 0.2 مليار متر مكعب في أفضل السنين الماطرة، وذلك بحسب وزير المياه والزراعة الأردني السابق، حازم الناصر.
وبالغت المنشآت الإسرائيلية القريبة من البحر الميت في الخراب حين تسببت بوقوع حوادث تسرب مواد ملوثة وسامة إلى المياه والجو، ما دفع الحكومة الأردنية إلى مطالبة دولة الاحتلال باجراء التدابير اللازمة لمنع هذه التسريبات وخاصةً من مصانع الأسمدة الكيمائية لما فيها من أضرار بيئية كارثية على المياه وسكان المنطقة ذاتهم.
ففي العام الماضي، كشفت التقارير عن تسرّب مادة البروم -عنصر مؤذي لجلد الإنسان في حالته السائلة، كما أن بخاره ضار بالعين والحلق- من أحد خزانات مصانع الأسمدة الإسرائيلية، وعليه تم دعوة المقيمين في المنطقة بعدم مغادرة مساكنهم، كما أغلقت عدة فروع من طريق رقم 90 بمنطقة البحر الميت.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد أنشأت حكومة الاحتلال والمملكة الهاشمية صناعات بالقرب منه مثل مصانع الملح والمستحضرات التجميلية والعلاجية التي تعتبر موارد مالية هامة لكلا الحكومتين، ولكنها في نفس الوقت أدت إلى استنزاف كميات كبيرة من مياه البحر وتحديدًا في الجانب الإسرائيلي، إذ يعتقد المراقبون أن استخدام كل من “إسرائيل” والأردن أحواضًا ضخمة للتبخر من أجل استخراج الفوسفات من المياه، يفسر زيادة معدل هبوط سطح البحر الميت، فلقد هُدرت نحو 650 مليون متر مكعب من مياهه بسبب أنشطة تلك الشركات.
لأهداف مادية.. الشركات الإسرائيلية تستنزف ثروات البحر الميت
واستمرارًا للانتهاكات الإسرائيلية البيئية والسياسية، أشار تقرير لمنظمة الحق، منظمة حقوقية فلسطينية، أن الشركات الإسرائيلية تنتهك القانون الدولي من خلال عمليات نهب الموارد الطبيعية في البحر الميت الذي يقع في نطاق الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنها تؤيد المصالح الاقتصادية الإسرائيلية بينما تحرم الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير، كما أفرطت في استغلال موارد المنطقة، مما أدى إلى أضرار بيئية شديدة.
وذلك منذ عام 1967، أي عندما احتلت “إسرائيل” الضفة الغربية ضمنها منطقة البحر الميت المحتلة، لإقامة مستوطنات فيها، منح الاحتلال نفسه سيطرة مباشرة على مداخل وموارد المنطقة من خلال تطبيق قيود صارمة تعيق حركة الفلسطينيين، وتسمح بالمقابل للمستوطنين بالاستفادة من ثروات البحر الميت بشكل مباشر.
في هذا الخصوص، ألقى تقرير نُشر في صحيفة “جارديان” البريطانية باسم “نهب البحر الميت” الضوء على انتقاد منظمة الحق لشركة “أهافا” أو “Ahava” الإسرائيلية المتخصصة في تصنيع مستحضرات التجميل من معادن وطين البحر الميت، إذ تم تأسيسها عام 1988 داخل مستوطنة “متسبي شاليم” في الضفة الغربية، وقد بلغت مبيعاتها العالمية السنوية حوالي 150 مليون دولار.
يوجد نحو 50 شركة إسرائيلية متخصصة في هذه الصناعة، تصدر منتجاتها بشكل واسع إلى الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية، محققةً صادراتها أرباحًا تزيد عن 2 مليار دولار سنويًا
يذكر التقرير بالتحديد أن “أهافا” تستخدم الموارد الطبيعية الفلسطينية في منطقة البحر الميت بشكل غير قانوني لتحقيق أرباحها الاقتصادية، ما يجعلها مسؤولة بشكل مباشر عن نهب الموارد الطبيعية في الأرض المحتلة، ولذلك لطالما كانت الشركة هدفًا لحملات المقاطعة التي قادتها حركة “البي دي إس” منذ عام 2009 تحت حملة اسمها “الجمال المسروق”، كمحاولة لتوعية وتشجيع المستهلكين في الأسواق الدولية على مقاطعة منتجاتها اعترافًا وحفاظًا على حق الفلسطينيين في التمتع بموارد بلادهم الطبيعية وحمايتها من الاستغلال والسلب، ولا سيما أن ثلث الشاطئ الغربي للبحر الميت يقع في الضفة الغربية المحتلة، ولكن السلطات الإسرائيلية تمنع الفلسطينيين من الوصول إلى شواطئه.
جدير بالإشارة إلى وجود نحو 50 شركة إسرائيلية متخصصة في هذه الصناعة مثل “شيمون أمور”، و“بير فرم”، و”بي دي سيجما”، تصدر منتجاتها بشكل واسع إلى الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية وغيرها من البلدان، محققةً صادراتها أرباحًا تزيد عن 2 مليار دولار سنويًا من المعادن في الضفة الغربية، بحسب إحصائيات صادرة عن البنك الدولي لعام 2013.
محاولات الإنقاذ المعلقة.. هل من أمل قريب؟
بما أن البحر الميت يمثل أهمية اقتصادية لدول الحوض، ولا سيما بالنسبة لدولة الاحتلال والمملكة الهاشمية، سعى كلا الطرفين إلى إيجاد حلول للحفاظ على ما تبقى منه وضمان استمرار عطائه، ولكن رغم اتخاذهما عدة خطوات وإجراءات تجاه هذا الموضوع إلا أنها تعثرت جميعها لأسباب مختلفة.
في واحدة من المحاولات، اجتهدت الأردن في تدشين مشروع “ناقل البحرين” عام 2002 الذي يهدف إلى جلب مياه إضافية من البحر الأحمر للبحر الميت لرفع منسوبه، وذلك بالتعاون مع حكومة الاحتلال، لكن حتى الآن يتعرض المشروع للتأخير لأسباب سياسية وأخرى متعلقة بالتمويل، إذ تبلغ الكلفة الكلية للمرحلة الأولى من المشروع حوالي 1.4 مليار دولار.
من جانب آخر، فسر الجانب الأردني هذا التأخير بـ”المماطلة” والمراوغة الإسرائيلية، ولا سيما بعدما اقترحت “إسرائيل” مشروعًا بديلًا، وهو إنشاء خط أنابيب في “إسرائيل” يربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الميت، لكن الأردن رفضت المقترح الجديد وبقيت طرق الحوار والتفاهم مسدودة إلى الآن، علمًا أن البنك الدولي حكم على هذا المشروع بالفشل أيضًا حينما رأى أن هذا الاتفاق سيؤدي إلى نتائج كارثية بسبب تلاعبه في التركيبة الكيميائية والفيزيائية للبحر الميت، فضلًا عن صعوبة تنفيذه بسبب عمق البحر الميت.
وبطبيعة الحال، فإن تزايد عدد السكان في المنطقة وارتفاع معدلات الطلب والاستهلاك على المياه قد يلخص لنا بشكل موجز مدى صعوبة التوصل إلى اتفاقيات وحلول في واحدة من أكثر مناطق العالم تشابكًا وتنافسًا على موارد الطبيعية.
المشهد الحالي للبحر الميت.. ماذا تبقى منه؟
من الصعب تصور العالم دون البحر الميت أو الحديث عنه بصيغة الماضي، والأصعب أن يشهد العالم على اختفائه وانحساره تدريجيًا دون السيطرة على مجريات الأمور ومنعها من الخوض للمتغيرات الجديدة، ولا سيما أن الصورة الحالية تختلف كليًا عما كنا نعرفه أو نسمع عنه أو نراه، فلم تعد المطاعم والمنتجعات والأنشطة التجارية تعج السواحل كما كانت بالسابق.
في عام 2018، تشكلت نحو 700 فتحة مقارنةً بالسنوات السابقة التي لم يكن يتجاوز عددها العشرات. ما دفع الخبراء لتحذير من إقامة أي مشاريع استثمارية في الأراضي المحيطة بالبحر الميت
في السنوات الـ 15 الماضية، ظهر أكثر من 6 آلاف و500 حفرة عميقة، فمع انحسار المياه، يخلف البحر وراءه رواسب مالحة، تنخر هذه الرواسب الملحية تحت الأرض، مما يخلق تجاويف وحفر في الأرض، قابلة للانهيار والتشقق والاتحاد مع فتحات أخرى لتكون حفرة عملاقة كبيرة. قد يبلغ اتساع بعض الحفر إلى نحو 100 متر مع عمق 50 مترًا، ونتيجة للانهيارات المستمرة تم ابتلاع مصنع للملح ومنتجع سياحي، كما أغلقت محطة وقود لأن الطريق من حولها بدأ يتصدع.
يزداد عددها بوتيرة سريعة ومخيفة، ففي عام 2018، تشكلت نحو 700 فتحة مقارنةً بالسنوات السابقة التي لم يكن يتجاوز عددها العشرات. ما دفع الخبراء لتحذير من إقامة أي مشاريع استثمارية في الأراضي المحيطة بالبحر الميت، وعلى ذلك يبقى مستقبل البحر غامضًا ومعلقًا بين المشاريع المؤجلة ومماطلة السلطات المحلية.