تعيش تونس هذه الأيام على وقع حملة مقاطعة كبيرة شملت العديد من السلع الاستهلاكية لمجابهة الارتفاع الكبير في أسعارها الذي أنهك القدرة الشرائية للمواطنين. حملة عفوية بدأها الشباب وعمّت أغلب مناطق البلاد بعد الصدى الكبير الذي حققته، فهل تنجح في تحقيق أهدافها المرسومة؟
“قاطع الغلاء تعيش بالقدا”
حملة المقاطعة انطلقت بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، حيث اختار لها نشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي شعار “قاطع الغلاء تعيش بالقدا” (قاطع المنتجات المرتفعة الثمن تعش في ظروف أحسن)، لحث التونسيين على مقاطعة السلع التي عرفت أسعارها ارتفاعًا كبيرًا.
وتهدف هذه الحملة التي أطلقها مجموعة من الشباب وبلغ عدد المنخرطين فيها في وقت وجيز قرابة المليون ونصف تونسي، إلى تحسين القدرة الشرائية للمواطن وخفض الأسعار عبر مقاطعة المنتجات التي تجاوزت أسعارها المعقول ومحاربة المضاربين والسوق الموازية، فضلاً عن المساهمة في تغيير العقلية عبر التأسيس لمجتمع واعٍ يؤمن بثقافة المقاطعة ويدعمها.
هذه الحملة جاءت نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية في تونس، ما ساهم في تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد
يعد سلاح المقاطعة ثقافة استهلاكية جديدة وافدة على المجتمع التونسي الذي اعتاد الإقبال المكثف على كل المواد الشحيحة في السوق أو ذات السعر المرتفع، ما يتسبب آليًا في ارتفاع الأسعار وزيادة الطلب، وتمثل المقاطعة سلاحًا بيد المواطنين لمقاومة الغلاء وجشع التجار، عوض النزول إلى الشارع والتظاهر.
ويختار الداعمون للحملة يوميًا، على مواقع التواصل الاجتماعي، المنتجات التي سيقاطعونها، بوضع أسعار بيعها للمواطنين وحث الناس على مقاطعتها، وضمت قائمة السلع المطلوب مقاطعتها، في تونس: الموز والبطاطا، حيث وصل سعر البطاطا إلى دولار “نحو 3 دنانير” فيما وصل سعر كليوغرام الموز إلى دولارين أي نحو 6 دنانير.
يأمل التونسيون أن تعالج ثقافة المقاطعة الغلاء غير المبرر مما قد يساهم في تخفيض الأسعار، فعدم شراء المواد الغذائية سيجعل التجار أمام خياري مراجعة الأسعار أو إتلافها، فالتجار لن يجدوا طريقة أفضل للحفاظ على منتجاتهم غير تخفيض الأسعار.
ويرى مساندو حملة المقاطعة الشعبية، ضرورة أن تؤدي السلطات الرسمية في البلاد دورها في تعديل أسواق المواد الاستهلاكية عن طريق تفعيل أجهزة الرقابة التابعة لها لمراقبة مسالك التوزيع وأيضًا نقاط البيع القانونية وغير القانونية.
وتجاوزت هذه الحملة النطاق الافتراضي لتشمل العمل الميداني، حيث انتشر العديد من التونسيين في الشوارع لحث الناس على مقاطعة المنتجات الاستهلاكية الأساسية التي تشهد أسعارها ارتفاعًا كبيرًا في الفترة الأخيرة، دون أن تتحرك الحكومة لتعديلها.
بالتوازي مع هذه الحملة العفوية، طالبت منظمة الدفاع عن المستهلك، التونسيين بمقاطعة “الزقوقو” بعد أن وصل سعر الكيلوغرام الواحد منه 31 دينارًا مقابل 24 دينارًا السنة الماضية، وتستعمل هذه المادة في تونس بكثرة في المولد النبوي الشريف لإعداد عصيدة الزقوقو.
لا تعتبر هذه الحملة الأولى من نوعها في تونس، فقد سبق أن شهدت البلاد حملات شبيهة لها وإن كانت أقل فاعلية، منها مقاطعة اللحوم الحمراء سنة 2013، التي تمكنت من ترشيد الأسعار بفضل انخراط كبير من المواطنين في الحملة، تلتها حملات أخرى مثل مقاطعة السمك والطماطم والفلفل والحليب.
زيادات كبيرة في الأسعار
هذه الحملة جاءت نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية في تونس، ما ساهم في تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد وتلاشي الطبقة الوسطى التي كانت عمود المجتمع التونسي مع ارتفاع نسبة الفقر والاحتياج.
وتؤكد البيانات الرسمية التي ينشرها معهد الإحصاء الحكومي ارتفاع أسعار المواد الغذائية في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، حيث ارتفعت أسعار الخضراوات بنسبة 10.1% وارتفعت أسعار الحليب والبيض بنسبة 9.1% في المقابل زادت أسعار اللحوم بنسبة 8.6% والفواكه بنسبة 7.8%.
كما ارتفعت أسعار المشروبات والعصائر بنسبة 7.6%، وسجلت أسعار المواد الحرة ارتفاعًا بنسبة 7.3%، بحساب الانزلاق السنوي مقابل 4.9%، بالنسبة للمواد المؤطرة، مع العلم أن نسبة الانزلاق السنوي للمواد الغذائية الحرة بلغت 8.4%، مقابل 2.4%، بالنسبة للمواد الغذائية المؤطرة.
يأمل العديد من التونسيين أن يغلب الرئيس الجديد والبرلمان المنتخب والحكومة المنتظرة مصلحة المواطنين والبلد على حسابهم الشخصي ومصالح أحزابهم
تؤثر الزيادات في مجموعة الغذاء على النسب العامة للزيادة في مؤشر الاستهلاك العائلي، ونسبة التضخم العامة التي تستقر في حدود 6.9%، مقابل 6.7% خلال شهر أغسطس/آب و6.5%، خلال شهر يوليو/تموز 2019.
وشهد مؤشر أسعار الاستهلاك العائلي ارتفاعًا بنسبة 0.6% خلال شهر سبتمر/أيلول الماضي مقارنة بشهر أغسطس/أب السابق، ويعزى هذا التطور بالأساس إلى الارتفاع المسجل في أسعار التبغ بنسبة 6.3% وارتفاع أسعار مواد وخدمات مجموعة التعليم بـ4 %،
أسباب الزيادات
ترجع هذه الزيادات في الأسعار بدرجة كبيرة إلى الاحتكار، فسلطة المحتكرين على بعض المواد الغذائية تتزايد من عام إلى آخر، في غياب رقابة صارمة على هذه الشبكات وضعف جهاز الرقابة الاقتصادية، ما يضطر المستهلكين إلى القبول بالأسعار التي يفرضونها، وأيضًا تدهور قيمة الدينار نتيجة تطبيق البنك المركزي التونسي مبدأ حيادية سوق الصرف، والسماح بتعويم الدينار، وهو ما أضعف قيمته مقابل العملات الصعبة، وبما أن تونس تستورد مواد التجهيز والمواد الأولية بالعملة الصعبة وبأسعار باهظة، فقد تسبب ذلك في ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية في السوق الداخلية.
كما يرجع هذا الارتفاع أيضًا إلى تحرير أسعار أغلب السلع والمنتجات الاستهلاكية، فقد استغل العديد من المحتكرين الصخب المتداول بشأن ارتفاع الأسعار والزيادات العشوائية في السلع الفلاحية وغير الفلاحية، مما أدى إلى انفلات الأسعار.
ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بشكل جنوني في تونس
من بين الأسباب أيضًا، وفق رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري عبد المجيد الزار “فشل الحكومة في مراقبة مسالك التوزيع وعدم التدخل لحماية المنتج التونسي أمام ارتفاع سعر التكلفة والذهاب إلى حلول ترقيعية من خلال إغراق السوق بالمنتجات الموردة”.
يعتبر كل هذا نتيجة طبيعية لتنفيذ الحكومة في تونس لأوامر صندوق النقد الدولي، ففي يونيو/حزيران الماضي، استكمل المجلس التنفيذي لصندوق النقد، المراجعة الخامسة لبرنامج تونس الاقتصادي، ومنذ أبريل/نيسان 2018، نصح صندوق النقد الدولي حكومة تونس بخفض قيمة الدينار، بهدف إكساب الصادرات مزيدًا من القدرة التنافسية.
يأمل العديد من التونسيين في أن يغلب الرئيس الجديد والبرلمان المنتخب والحكومة المنتظرة مصلحة المواطنين والبلد على حسابهم الشخصي ومصالح أحزابهم، والعمل لصالح البلاد حتى تخرج من أزماتها العديدة.