تزامنًا مع المستجدات الميدانية والعسكرية في تشاد وجنوب ليبيا قررت وزارة التعليم بحكومة الوفاق الليبي اعتماد اللغة التباوية بمناهجها الدراسية كمادة أساسية لطلاب المرحلة الابتدائية لأول مرة في تاريخ ليبيا، في خطوة لاقت ترحيبًا كبيرًا لدى الأوساط الثقافية والمجتمعية داخل البلاد وخارجها.
وقد جاء اعتماد اللغة التباوية بناء على قرار صادر عن المؤتمر الوطني العام المنتخب عام 2012 بشأن اعتماد اللغة الأمازيغية في التعليم الأساسي والعالي، وفق ما أشار الناشط الحقوقي من قبائل التبو، جنوبي ليبيا، حسن كدنو، في تصريحات لوكالة “سبوتنيك” الروسية.
تدريس اللغة الجديدة “سيكون في مناطق الجنوب الليبي وبالتحديد بالجنوب الشرقي، الكفرة وربيانة وباقي مدن الجنوب الغربي”،
كدنو أضاف أن المعنيين بدراسة هذه اللغة الجديدة على ساحة التعليم الليبية هم “طلاب التبو في السنة الابتدائية الأولى والثانية والثالثة أما الآخرين فهم غير ملزمين”، مؤكدًا ” وصول كتب مدرسية للجنوب ومن بينهم مادة واحدة أخرى جديدة وهي اللغة التباوية”.
أما عن المناطق الجغرافية المستهدفة بهذا القرار فأشار إلى أن تدريس اللغة الجديدة “سيكون في مناطق الجنوب الليبي وبالتحديد بالجنوب الشرقي، الكفرة وربيانة وباقي مدن الجنوب الغربي”، مؤكدًا أن اعتماد التباوية أكاديميًا شيء في غاية الأهمية كون ذلك يهدف أولًا حماية اللغة من الانقراض أو الاندثار، وثانيا لتسهيل استخدام اللغة التباوية في الإدارة بالمستقبل.
من هم التبو؟
لغةً، تعني “التوُبو”أو“التَبو” “شعب الصخر”، وهو مصطلح يشير إلى جماعة عرقية تعيش في مناطق (شمال تشاد، جنوب ليبيا، شمال شرق النيجر وشمال غرب السودان)، ويحيا أهلها إما كرعاة رُحّل أو كمزارعين بالقرب من الواحات، ويعتمد مجتمعهم على النظام القبلي، حيث تمتلك كل قبيلة واحات، ومراعي وآبار خاصة بها.
ويشير المؤرخون إلى أن “التّبو” قبائل بدوية تحمل هوية مختلطة زنجية وعربية، ولم يتوصل أي من المهتمين بدراسة الأعراق والأجناس إلى هوية محددة لتلك القبائل، نظرًا لتنوّع مجتمعاتهم وتباينها فيما بينهما، جغرافيًا وثقافيًا، إذ استوطنوا الجزء الأوسط من الصحراء الكبرى الأفريقية، على امتداد الجزء الجنوبي من ليبيا والأجزاء الشمالية والغربية الوسطى من تشاد، وشمال شرق النيجر وأقصى شمال غرب السودان.
هيرودوت في كتابه “تاريخ هيرودوت” تطرّق إليهم فنَسبهم إلى المجموعة الزنجية الإثيوبية أو الحبشية، وحدَّد مواطن سكنهم من فزان في ليبيا مرورًا بتشاد وصولًا إلى النيجر، مع امتدادات محدودة في الدول المجاورة خاصة السودان وأفريقيا الوسطى، وفي الوقت الذي يصنّف فيه الأمازيغُ التّبو على أنهم عرب، يعتبرهم العرب زنوجًا، فيما يصنفهم الزنوج عربًا.
تعد مهنة رعي الإبل والأغنام في الصحراء هي المهنة الأساسية لأهل القبيلة، فهم يعدون من الرحالة الذين يبحثون عن أماكن الرعي والماء لرعاية حيواناتهم التي تعد رأس مالهم الحقيقي
ورغم تعدد القبائل الفرعية للتبو إلا أنهم يتألفون من قبيلتين أساسيّتين هما: التدّا والدازا، يعيش التدا في أقصى شمال تشاد، حول حدود ليبيا والنيجر وفي جبال تبستي، بينما ينتشر شعب الدازا في شمال تشاد ومنطقة شرق النيجر وشمال غرب السودان، وتتحدث كل قبيلة لغة خاصة بها وإن تشابهتا في الكثير من مضمامينها.
الدراسات التي تطرقت لبحث المكوّن الديموغرافي للقبيلة، توصلت إلى أن الدازا هم الأكثر عدداً إذ يبلغون قرابة مليون ونصف شخص، بينما يبلغ عدد التيدا 750 ألفًا فقط، وتؤكد المصادر أن تجمعات من التبو ظلت تعيش في مصر حتى عشرينيات القرن العشرين.
تعد مهنة رعي الإبل والأغنام في الصحراء هي المهنة الأساسية لأهل القبيلة، فهم يعدّون من الرحالة الذين يبحثون عن أماكن الرعي والماء لرعاية حيواناتهم التي تعدّ رأس مالهم الحقيقي، ويدين “التبو” بالإسلام على اختلاف عشائرهم، وهم متصوّفون بالدرجة الأولى.
عٌرف عن أهل تلك القبيلة مقاومتهم للاستعمار، حيث وثّقت كتب التاريخ أسماء بعض الشخصيات التي اشتهرت برفع لواء المقاومة على مدار عقود طويلة، منها مينا صالح وهو شيخ من الشيوخ الأقوياء في القطرون بليبيا قاوم المستعمر الإيطالي بشراسة، وعثمان كولي وهو مقاوم معروف بصلابته وشجاعته في مقاومة الاستعمار الفرنسي في النيجر.
يتحدث التبو عددًا من اللغات لكن اللغة الأكثر انتشارًا هي التباوية والتي تعتبر واحدة من أعرق اللغات في ليبيا، ويتحدث بها المنتسبون للقبيلة في خمسة دول، ليبيا وتشاد والنيجر والسودان والبعض في مصر وإن كانو قلة، وقد حارب شيوخ القبيلة لاعتماد لغتهم الأساسية خوفًا عليها من الانقراض، وهو ما أقرته حكومة الوفاق بقرارها الأخير.
التبو.. سنوات من الاضطهاد
عانت قبيلة التبو كأقلية ليبية في عهد الرئيس الراحل معمر القذافي (1969- 2011) من انتهاكات جسيمة، وفق ما ذهب الباحث في الشأن الليبي، خالد طرفاية، الذي كشف أن أهالي تلك القبيلة واجهوا حملات تطهير عدة استمرت لسنوات طويلة، إلا أنهم نجحوا في الاحتواء والتعايش مع شتى الظروف الصعبة.
قامت جماعة مسلحة تدعى “جبهة التبو” بانتفاضة شعبية في نوفمبر 2008 للمطالبة بحقهم في الحياة والمساواة مع غيرهم من الليبيين، إلا أن انتفاضتهم قوبلت بالسحق من قبل الحكومة الليبية ما أسفر عن مقتل 33 شخصًا وإصابة العشرات.
طرفاية في تصريحات خصّ بها “نون بوست” استعرض بعض أوجه الانتهاكات التي تعرض لها التبويون منها تجريد بعضهم من جنسيتهم في ديسمبر 2007 بدعوى أنهم ينتمون لتشاد أكثر من الدولة الليبية، كذلك حرمان العديد من الأهالي من حق التعليم والرعاية الصحية.
ونتيجة لتلك الانتهاكات قامت جماعة مسلحة تدعى “جبهة التبو” بانتفاضة شعبية في نوفمبر 2008 للمطالبة بحقهم في الحياة والمساواة مع غيرهم من الليبيين، إلا أن انتفاضتهم قوبلت بالسحق من قبل الحكومة الليبية ما أسفر عن مقتل 33 شخصًا وإصابة العشرات.
لم تكتف الحكومة الليبية بحرمانهم من حقوقهم الشرعية وفقط، بل بدأت منذ نوفمبر 2009 وحتى سقوط القذافي في فبراير 2011 في تبني برنامج تطهير عرقي بحق البتو وترحيلهم من منازلهم، فيما تم اعتقال الكثير منهم، ومن رفض الخروج تعرض للضرب والتنكيل بحسب الباحث المصري.
الثورة وتنفس الصعداء
انخرط التبو على نطاق واسع في التصدي لنظام القذافي مع اندلاع الثورة الليبية في 2011، حيث دخلوا مواجهات عنيفة مع القوات الأمنية والميليشيات المسلحة، كذلك نشبت بعض الاشتباكات مع بعض جيرانهم من القبائل العربية ممن أيّدوا القذافي في مدينة سبها الجنوبية.
على مدار عامين كاملين شهدت مدينة أوباري (جنوب) قتالًا بين قبيلتي “التبو” والطوارق، سقط بسببه عشرات القتلى والجرحى ونزح عن المدينة قرابة 80% من سكانها
وبينما كانت الأوضاع مشتعلة في الشارع الليبي هدد عيسى عبد المجيد منصور، زعيم قبيلة التبو في ليبيا بالانفصال، منتقداً ما اعتبره “تطهيراً عرقياً” ضد التبو، وصرح قائلاً: “نحن نعلن إعادة تنشيط جبهة التبو لإنقاذ ليبيا لحماية شعب التبو من التطهير العرقي”.
وعلى مدار عامين كاملين شهدت مدينة أوباري (جنوب) قتالًا بين قبيلتي “التبو” والطوارق، سقط بسببه عشرات القتلى والجرحى ونزح عن المدينة قرابة 80% من سكانها، وانتهى هذا الاقتتال بتوقيع الاتفاق الذي لاقى ترحيبًا داخليًا واسع النطاق، آملين في أن يكون نواة حقيقية لإنجاح مسلسل السلام والاستقرار في ليبيا، وعرف هذا الاتفاق باسم “اتفاق الدوحة”.
اتفاق الدوحة
في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين 2015 وقّعت قبائل التبو والطوارق الليبية، في الدوحة، على اتفاق سلام نهائي لوقف إطلاق النار، ونصّ على عودة النازحين والمهجرين جراء العمليات العسكرية إلى مناطقهم، وفتح الطريق العام نحو مدينة أوباري، وإنهاء كافة المظاهر المسلحة.
وقد وقّع الاتفاق كلًا من الشيخ أبو بكر الفقي رئيس وفد قبائل الطوارق، وعلي سيدي آدم رئيس وفد قبائل التبو، بحضور الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني مساعد وزير الخارجية لشؤون التعاون الدولي القطري، بينما ثمّن دول الجوار بهذه الخطوة على رأسها الجزائر والنيجر.
منذ تولي حكومة الوفاق المسئولية وهي تسعى لتخفيف حدة الاحتقان القبلي لسكان الجنوب على وجه التحديد، إيمانا بدورهم الاستراتيجي، الأمني والسياسي والمجتمعي
ساهم هذا الاتفاق في إعادة هيكلة الخارطة السياسية لقبائل التبو التي باتت تشعر ببعض الانتماء لبلادها مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ذلك، وهو ما دفع شيوخها لبذل المساعي لمزيد من الاعتراف والاندماج في المجتمع الليبي الذي يعاني بطبيعته من انقسامات حاجة لا سيّما بعد سقوط نظام القذافي.
ومنذ تولي حكومة الوفاق المسئولية وهي تسعى لتخفيف حدة الاحتقان القبلي لسكان الجنوب على وجه التحديد، إيمانًا بدورهم الاستراتيجي، الأمني والسياسي والمجتمعي، وهو ما يفسر العديد من القرارات التي اتخذتها حيال الأقليات والعرقيات المختلفة ومن بينها اعتماد لغة التبو لغة رسمية في المدارس لأول مرة منذ استقلال البلاد قبل 60 عامًا.
مستقبل غامض
“منذ سنة 2011، لم يخضع الجنوب الليبي إلى سيطرة أي حكومة بشكل مستمر”.. هكذا علّق الكاتب الليبي المتخصص في الشئون الإفريقية، علي عبداللطيف اللافي، على سير الأحداث في المناطق الجنوبية من البلاد، منوها إلى زحف قوات موالية للواء متقاعد خليفة حفتر لهذه المناطق بهدف تعزيز نفوذه من أجل غايات متعددة وغامضة ومرحلية بالأساس، وهو ما أوجد توترات متفاقمة خاصة بعد أن أعلنت تلك القوات عن بسط نفوذها على حقل الشرارة النفطي.
وأضاف اللافي في مقال له أن ما يجري في الجنوب الليبي ليس مجرد عمليات عسكرية لكسب مواقع أو السيطرة على الحقول النفطية كما يصوّرها البعض، واصفًا ما يحدث بأنه ارتباك كلّي للعقل السياسي للفاعلين الاجتماعيين والعسكريين المحليين منهم والإقليميين أيضًا.
وحذّر في الوقت نفسه من التداعيات الكارثية إذا استمر الوضع على ما هو عليه، خاصة في ظل التغلغل الإسرائيلي في الساحل والصحراء الإفريقيتين، منوهًا إلى أن الحرب الأهلية ربما تكون قاب قوسين أو أدنى، كسيناريو أقرب للواقع من بين سيناريوهات محتملة وواردة.
ورغم ما تعاني منه حكومة الوفاق من تردّد بشأن استراتيجيات التعامل مع المنطقة الجنوبية إلا أن السياسات المتبعة مؤخرًا ربما تحمل بارقة أمل ولو من بعيد لإعادة النظر في تلك السياسات بما يساهم في احتواء قبائل التبو وغيرها والتي تمثل كيانًا استراتيجيًا لا بد من وضعه تحت مجهر الاهتمام قبل فوات الأوان، خاصة في ظل الصراع الدائم على النفوذ مع قوات حفتر والقبائل الموالية له.