لم يعد شراء علبة جبن في قطاع غزة مجرد فعل يومي بسيط، بل تحول إلى قرار يتطلب التفكير والتخطيط، حيث أصبحت الحالة السياسية عاملاً رئيسيًا في أبسط تفاصيل الحياة، فمنذ وقف إطلاق النار، يتطلع الفلسطينيون إلى الاستقرار، لكن هاجس الحرب القادمة يثقل كاهلهم، فيتركون قراراتهم معلّقة على ما توردُه نشرات الأخبار، التي لم تكن تُقدِّم قولًا واضحًا أو نهائيًا لأسابيع طويلة، واليوم بعد عودة الحرب لا تمحنهم سوى مزيد من الغموض والانتظار.
قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إشعال الحرب مجددًا، فتعمّقت الأزمة وأضفي عليها أبعادًا جديدة، فبعدما تردد الفلسطينيون في إعمار منازلهم وإعادة تأسيس حياتهم الاجتماعية والمهنية والدراسية، عادت حيرتهم من جديد، لكنها هذه المرة تتجه مجددًا نحو أبسط ضروريات الحياة: الطعام والدواء.
هدنة هشة
بحسب اتفاق التهدئة الموقَّع في العاصمة القطرية الدوحة منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، كان من المقرر أن تستمر المرحلة الأولى 42 يومًا، وأن يبدأ التفاوض على المرحلة الثانية قبل اليوم السادس عشر منها، لكن الاحتلال لم يلتزم ببنود الاتفاق، إذ رفض العودة إلى المفاوضات، مطالبًا بتمديد المرحلة الأولى للإفراج عن مزيد من الأسرى الإسرائيليين.
انتهت المرحلة الأولى مطلع مارس/آذار الجاري دون التوصل إلى اتفاق بشأن المرحلة الثانية، فأغلقت “إسرائيل” جميع معابر القطاع وأوقفت إدخال المساعدات، وبعد محاولات من الوسطاء، وافقت سلطات الاحتلال على استئناف المفاوضات في الدوحة في الحادي عشر من الشهر الماضي.
إلى جانب رفض التفاوض، انتهك الاحتلال الهدنة بعدة طرق، إذ لم يسمح بإدخال البيوت المتنقلة، ولم يلتزم بالكميات المتفق عليها من المساعدات، كما لم يسمح بإدخال مستلزمات إعمار البنية التحتية، إضافةً إلى ذلك، وقعت انتهاكات تتعلق بملف الأسرى والمعابر.
وذلك، فضلًا عن استمرار تحليق الطيران في سماء القطاع وغيرها من الخروقات الجسيمة التي تسببت باستشهاد 150 فلسطينيًا على الأقل، بمعدل نحو 3 أشخاص يوميًّا، بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
إدانات دولية واسعة لتجدد العدوان الإسرائيلي على #غزة.. بينما تقتصر المواقف العربية على تنديد دولة عربية واحدة بلا أي تحرك فعلي. pic.twitter.com/cKMn8fv8xW
— نون بوست (@NoonPost) March 18, 2025
وبعد أسبوع واحد، فجر الثامن عشر من مارس/آذار، شنت طائرات الاحتلال غارات كثيفة على مناطق واسعة في قطاع غزة، أسفرت عن استشهاد 412 فلسطينيًا في واحدة من أكبر المجازر التي شهدها القطاع، لحقها إعلان “إسرائيل” رسميًا عودتها إلى القتال، لتفتح فصلاً جديدًا من الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
بناءً على هذه المعطيات، أجَّل كثير من سكان القطاع اتخاذ قرارات مصيرية، على أمل أن تتضح الأمور قريبًا، إلا أن ذلك لم يحدث، ما أدى إلى استمرار التأجيل وتعميق حالة انعدام الاستقرار، فمع تصاعد التهديدات والأوامر الإسرائيلية بالإخلاء القسري، يبقى شبح النزوح حاضرًا، يخيّم على يوميات الفلسطينيين ويمنعهم من استئناف حياتهم الطبيعية.
السكن على أعتاب الدمار
المتحدث باسم بلدية غزة، المهندس عاصم النبيه، يقول لـ”نون بوست” إن البنية التحتية والمباني وكل المرافق الحيوية تضررت بدرجة كبيرة جدًا، ما دفع المواطنين للسكن في بيوتهم المدمرة، إما بين ركامها، أو بوضع خيام فوق أسطحها، أو استخدام الشوادر والأقمشة بدلًا من الجدران.
ويضيف أن السكن في المباني الآيلة للسقوط يشكل خطرًا على حياة المواطنين بسبب احتمال انهيارها، أو السقوط من علو، أو انفجار مخلفات الأسلحة بين الركام، بالإضافة إلى انتشار الحيوانات الضالة والقوارض والحشرات، فضلًا عن البارود العالق في الركام، ولفت إلى أن الاحتلال مستمر في منع إدخال الخيام والمنازل المتنقلة والمعدات الثقيلة اللازمة للإعمار.
يسكن هشام عبدو في منطقة شديدة الخطورة، ولا يمكنه البقاء فيها مع تجدد الحرب، كما عاد إلى بيته بعد أكثر من عام من النزوح، فوجده بحاجة إلى إصلاحات كبيرة ليتمكن من الإقامة فيه.
يقول: “أغلب جدران البيت مدمرة، ولا أثر للأبواب أو لأُطر النوافذ، يبدو أنها تطايرت بفعل القصف. تمديدات المياه في حالة يُرثى لها”، مضيفًا: “البيت قائم، لكنه غير صالح للسكن إلا بعد إنفاق مبالغ طائلة على إصلاحه”.
ويتابع: “لست مستعدًّا لإنفاق أموال طائلة على بيت لا أعرف كم يومًا سأتمكن من البقاء فيه، تجدد الحرب يمنعني من إصلاحه”، مشيرًا إلى أن “ما يزيد الأمر صعوبة هو أنني لا أملك شيئًا من النفقات المطلوبة، فهي كلها ديون تتراكم عليّ، ولا أعرف كيف سأردها لأصحابها بعدما فقدت مصدر دخلي بسبب الحرب”.
قضى عبدو نحو أسبوعين مع نجله في محاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه بأقل تكلفة ممكنة، كإزالة الأحجار وتركيب الشوادر بدلًا من الجدران، ورغم ذلك، لا يزال البيت بحاجة إلى الكثير من الإصلاحات والأثاث، لكنه لا يستطيع فعل أكثر من ذلك، ويوضح: “ما يؤرقني هو الخطر المحدق بعائلتي لعدم وجود جدران، خاصة الأطفال، فهم معرضون لخطر السقوط، فالشوادر لن تحميهم إن عبثوا بها”.
ويلفت عبدو إلى أنه، رغم محاولات الاقتصاد، إلا أنه اضطر إلى إنفاق مبلغ كبير على أشياء لا يمكن تأجيلها، رغم أنها لن تفيده إن اضطر إلى مغادرة بيته مجددًا، مثل إصلاح دورة المياه.
ووفق أحدث البيانات، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي، في بيانات أصدرها خلال فبراير/شباط الماضي، أن خسائر قطاع الإسكان تجاوزت 25 مليار دولار، حيث تضررت 450 ألف وحدة سكنية، منها 170 ألفًا هُدمت بشكل كلي، و200 ألف جزئيًا. وأوضح أن “الحاجة الفعلية تصل إلى 200 ألف خيمة و60 ألف بيت متنقل، إلا أن ما دخل لم يتجاوز 10٪ من الخيام، ولم يدخل أي بيت متنقل”.
وقد حذرت وزارة الأشغال العامة والإسكان، والمديرية العامة للدفاع المدني في قطاع غزة، سكان بعض المباني التي تعرضت للقصف من خطر انهيارها، مطالبةً إياهم بإخلائها والتوجه إلى أماكن إيواء أخرى.
شبح المجاعة والنزوح
رجاء الحلو، ربة بيت، تتحمل مسؤولية زوجها وأبنائها وأحفادها الذين استُشهد والدهم، لكنها غير قادرة على تأمين احتياجاتهم بسبب خوفها من عودة الحرب.
تقول: “في بداية الحرب، خزّنتُ الكثير من الطعام في بيتي بكميات تكفي أسرتي لعدة أشهر، لكننا اضطررنا للفرار تحت القصف بحثًا عن مكان آمن، ولم نحمل معنا شيئًا مما خزّناه، وسرعان ما بدأت المجاعة”، مضيفةً: “آلاف الشواكل التي أنفقناها على الطعام ذهبت هباءً تحت ركام البيت، ولم تفدنا في المجاعة”.
وتتابع: “جربنا تكديس الطعام، وجربنا الجوع، لذا لا أعرف ماذا أفعل الآن، هل أشتري الطعام تحسّبًا لتجدد المجاعة، أم أوفر المال لينفعني إن نزحتُ مرة أخرى؟”.
توضح الحلو أن التردد في الشراء لا يقتصر على الطعام فقط، بل يشمل كل ما تحتاجه، فهناك أشياء لا يمكن الاستغناء عنها. ومن بين هذه الأشياء الملابس والأغطية، خاصةً في فصل الشتاء، لا سيما لأحفادها الأطفال، ورغم يقينها بأنها لن تتمكن من حمل هذه المشتريات معها إن اضطرت إلى النزوح تحت القصف مرة أخرى، فإنها اضطرت إلى شرائها.
ولتخفيف حدة المشكلة، تلجأ الحلو أحيانًا إلى الاستعارة من معارفها، كما فعلت في أسطوانة الغاز وبعض أدوات المطبخ، لكن هذا الحل ليس متاحًا دائمًا، ولا يمكن الاعتماد عليه في كل المستلزمات، وتقول: “أحاول دائمًا اتخاذ القرار الأصح، وهذا يستنزفني ذهنيًا. الأمر ليس سهلًا على الإطلاق، ولا يمكن لأحد أن يستوعب صعوبته ما لم يمرّ به”.
خلال الهدنة، لم تلتزم “إسرائيل” بالبنود المتعلقة بإدخال السلع والمساعدات، وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فإن عدد شاحنات المساعدات التي دخلت القطاع منذ بدء تنفيذ الاتفاق لم يتجاوز 8,500 شاحنة من أصل 12 ألف شاحنة كان من المفترض دخولها، و”أغلبها طرود غذائية وخضار وفواكه وسلع ثانوية على حساب الاحتياجات الأخرى، ما يعني تلاعبًا واضحًا بالاحتياجات وأولويات الإغاثة والإيواء”.
وقبل أيام، حذرت وزارة التنمية الاجتماعية من خطر المجاعة بسبب استمرار الاحتلال في منع دخول المساعدات إلى القطاع، موضحةً أن “الأسر لم تستطع تخزين أي مواد، فهي تعتمد على ما يدخل من مساعدات، في ظل منع الاحتلال للقطاع الخاص من العمل، وتدمير الأراضي الزراعية والبنية التحتية”.
حياة مُعلّقة ولا يقين فيها
يقول أحمد عاشور عن مشكلته مع انعدام الاستقرار: “في الوقت الحالي من أسمى أمنياتنا أن نعرف خطواتنا القادمة وما يتعين علينا فعله، أصبحت الحرب أساسا نبني عليه حياتنا، كل قرار نأخذه مرهون بالخوف من اشتعال نارها من جديد”، ويضيف: “كلما هممت بالإقدام على خطوة ما، تأتي الأخبار بما يوقفني، ولا أعرف إن كان علي المضي قدما أم البقاء في مكاني”.
فقد عاشور عمله في مؤسسة محلية توقفت بسبب الحرب، فاتجه نحو الإنترنت بحثا عن فرص في تخصصه، البرمجة، وجد بعض الأعمال المناسبة، لكنها غير مستقرة ودخلها بسيط، ففكّر في تأسيس مشروع خاص، لكنه يخشى أن يفقد فيه المال القليل الذي بقي بحوزته، لذا امتنع عن التنفيذ حتى تستقر الأوضاع.
حتى الزواج، صار فكرة مؤجلة، كان قبل الحرب قد ادخر التكاليف اللازمة، وبدأ بالبحث عن شريكة العمر، لكنه فقد البيت والمال والوظيفة، وحتى الراحة النفسية، على حد قوله.
يوضح: “حاليا، أرغب باتخاذ الخطوة، لكني أتساءل، هل عملي الحالي يكفي لتأسيس بيت؟ هل سأُتمكن من تسديد تكاليف الزواج؟ هل الظروف ملائمة لحياة جديدة؟، هل سأجد فرصة لأقيم العرس الذي أحلم به؟…”.
ويبين: “هذه ليست معاناتي وحدي، بل حال الكثير من الشباب، قراراتنا معلقة وحياتنا متوقفة على نتائج المفاوضات، وأسوأ ما في الأمر أن الحالة السياسية الآن خارجة عن كل التحليلات، أي أننا لا نجد توجهًا منطقيًا نبني عليه، ففي كل لحظة تتغير الأخبار والأحداث”.
التأجيل في العلاج أيضًا..
بسبب الحياة البدائية التي فرضتها الحرب على الغزيين، أصيبت حنان راضي بمشاكل صحية في العظام، كان أصعبها الانزلاق الغضروفي، الذي يعيق حركتها ويسبب لها آلامًا حادة. تقول: “عندما عدتُ إلى منزلي بعد الهدنة، وجدته بحالة جيدة، لكنه لا يلائم وضعي الصحي الحالي، ولجعله مناسبًا، أحتاج إلى تكاليف كبيرة”.
وتضيف: “أحتاج إلى أجهزة كهربائية تخفف عني مشقة بعض المهام المنزلية، مثل الغسالة والمكنسة الكهربائية، وبالطبع يلزم نظام طاقة شمسية لتشغيلها. على الأقل، أحتاج إلى فرشة ووسادة طبيتين”.
مشكلة حنان ليست في المال، فهو متوفر لديها، لكنها تخشى إنفاقه في ظل تجدد الحرب، فتضطر إلى مغادرة منزلها مجددًا، وتفقد كل محتوياته مرة أخرى، فتقول: “ما أحتاجه الآن كان من الأساسيات بالنسبة لي، فقد كان بيتي مليئًا بوسائل الراحة، لكنه تعرّض للسرقة أثناء نزوحنا إلى المحافظة الوسطى”.
وتتساءل: “هل من المنطقي أن أشتري احتياجاتي، وأدفع كل ما أملك، ثم تتجدد الحرب، فأضطر إلى مغادرة البيت وأترك كل شيء خلفي مجددًا؟!”.
يوميًا، تتخذ حنان قرار الشراء، لكنها سرعان ما تتراجع عنه. تتصارع الأفكار في رأسها؛ فهي تريد أن تستقر، لكنها في الوقت نفسه تريد الاحتفاظ بمالها لأيام لا تعرف ما قد تحمله لها.
ولا يقتصر ترددها على شراء الاحتياجات المنزلية فحسب، بل يطال العلاج أيضًا، إذ إنها بحاجة إلى أدوية ومسكنات، بعضها غير متوفر في الصيدليات. تشتري كميات محدودة بسبب غلاء الأسعار، وترفض تخزين كميات إضافية على أمل أن تنخفض الأسعار مستقبلًا.
في سياق الواقع الصحي، يقول المكتب الإعلامي الحكومي إن “الاحتلال يماطل في إدخال المعدات والأجهزة الطبية والوقود اللازم للمستشفيات، إضافةً إلى تأخير إدخال المستشفيات الميدانية، كما لم يلتزم بإخراج الجرحى والمرضى للعلاج. ونتيجةً لهذه المماطلة، فقد 100 طفل مريض حياتهم، فيما توفي 40٪ من مرضى الكلى بسبب عدم قدرة المستشفيات على إجراء عمليات غسيل الكلى”.
وتوضح حنان: “لم يكن قرار الشراء يومًا بهذه الصعوبة. كنت أشتري احتياجاتي طالما توفر ثمنها لدي، لكن الحرب غيرت سلوكنا وسيطرت على تفكيرنا”. وتضيف: “أنا أؤجل العلاج ووسائل الراحة، لكن صحتي لا تؤجل التدهور، فهي تتراجع يومًا بعد يوم”.
كانت حنان تظن أنها ستتمكن من اتخاذ قراراتها مع نهاية المرحلة الأولى، لكن الآن، أصبح المستقبل أكثر غموضًا بالنسبة لها.