كشفت العمليات العسكرية التركية الأخيرة في شمال شرقي سوريا، الكثير من كلمات السر التي كانت مبهمة عن طبيعة التحولات الشرق أوسطية، وأهمها إن سوريا ستكون القاعدة التي ستتشكل عليها توازنات المنطقة وتحالفاتها، ويبدو إن الجميع بدأ يدرك جيداً بأن الجلوس على طاولة اقتسام المكاسب، يتطلب نوعاً من الجرأه والتنازل، حتى وإن إدى ذلك إلى تجاوز بعض المواقف السياسية التي بنيت على أساسها سياسات الكثير من الدول المنغمسة في شؤون المنطقة وتفاعلاتها الإستراتيجية.
شكّل الدور الروسي أهم حلقة وصل في كل ما يجري على الساحة السورية اليوم، فهو من يحرك أحجار الشطرنج بين الأتراك والأمريكان من جهة، والنظام السوري من جهة ثانية، وهو من يضبط إيقاع إيران ومليشياتها من جهة ثالثة، وإسرائيل من جهة رابعة، ما يعني أن العراب الروسي قد وصل إلى مرحلة المتسيد في الساحة السورية وتفاعلاتها، فالانسحاب الأمريكي المتدرج من الشمال السوري، يعطي رسالة واضحة بإقرار الولايات المتحدة بفاعلية الدور الروسي وأهميته في الساحة السورية.
إن مايجري في الساحتين السورية والعراقية، باعتبارهما مركز الثقل الإستراتيجي للنفوذ الإيراني في المنطقة، يعطي تصوراً واضحاً بأن إيران هي أكثر الخاسرين مما يجري حالياً
ولكن السؤال الأهم من كل ما تقدم، أين إيران من كل مايجري في المنطقة؟ وهل هناك من تحركات تهدف إلى كبح جماحها، من خلال تسويات إقليمية ودولية جديدة يجري تطبيقها، إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى إعادة استقراء الساحة الشرق أوسطية بالطريقة التي تعطي تصوّرًا واضحًا عن رؤية الأطراف الإقليمية والدولية، وموقع إيران من المعادلة التي يجري ضبط عناصرها المتنافرة.
إن ما يجري في الساحتين السورية والعراقية، باعتبارهما مركز الثقل الاستراتيجي للنفوذ الإيراني في المنطقة، يعطي تصوراً واضحاً بأن إيران هي أكثر الخاسرين مما يجري حالياً، فروسيا هي أكثر الأطراف التي تريد تقويض النفوذ الإيراني في سوريا، ويشاطرها في هذا التوجه الرئيس السوري بشار الأسد. في مقابل توجه أخر يسعى لتوثيق النفوذ الإيراني ويمثله ماهر الأسد، إلى جانب الدول العربية والولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا، كما أن الصورة الأخلاقية التي وصلت إليها إيران في العراق، وتحديداً بعد المظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها الساحة العراقية منذ 1 أكتوبر 2019، تشير بما لا يقبل الشك بأن إيران تواجه واقعًا صعبًا في العراق، وهو ما يستدعي منها التحرك لإعادة صياغة مشهد إقليمي يخدم مشروعها السياسي في المنطقة.
فعملية ” نبع السلام” الموقوفة مؤقتًا تأتي في إحدى جوانبها الجيوسياسية، ضربة للخط الاستراتيجي الذي يربط إيران بالبحر الأبيض المتوسط، عبر ربط الحدود العراقية والسورية من جهة الشمال. كما أن الطلعات الجوية التي تقوم بها الطائرات الإسرائيلية في سوريا والعراق، كلفت إيران ومليشياتها الكثير من الخسائر الماديةـ هذا إلى جانب التضييق الإقتصادي والدبلوماسي الذي استنزف قدراتها الاقتصادية والسياسية، حتى تماستهداف ناقلاتها النفطية في البحر الأحمر، ما يعني وجود مستقبل معقد بانتطار إيران سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
في خضم هذا التصدع الكبير الذي تشهده خارطة الصراعات السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط، تقف إيران أمام مشهد معقد من حيث الإدراك والتوقع
وعلى الرغم من التحركات الإيرانية التي بدأت تجد لنفسها مجالاً لا بد من استغلاله في العراق، خصوصاً مع تزامن هذه التحركات الإيرانية مع زيارة الأربعين، والتي استبقتها بإعلان الداخلية الإيرانية عن إرسال 7500 عنصر أمن إيراني، من أجل تأمين الزوار الإيرانيين في كربلاء والنجف، سيما وأن دخول هذه العناصر سيكون بدون تأشيرة دخول، ما يعني إمكانية تمويههم داخل العراق، إذا ما دعت الضرورة الإستراتيجية الإيرانية. فمن جهة هناك مظاهرات محتملة في بغداد والمحافظات الجنوبية أعلن عن إقامتها في 25 أكتوبر 2019، ما يعني إمكانية إعادة نفس سيناريو العنف، ومن ثم يبدو أن هناك تحرك إيراني مسبق لإجهاضها، ومن جهة أخرى أعلن البنتاغون في بيان إن وزير الدفاع مارك إسبر وافق على نشر ثلاثة آلاف جندي إضافي ومعدات عسكرية، بينها صواريخ باتريوت ومنظومة “ثاد” في السعودية، في خطوة لتعزيز القدرات الدفاعية للمملكة لمواجهة التوترات الإقليمية، والحديث عن إيران أيضاً.
وفي خضم هذا التصدع الكبير الذي تشهده خارطة الصراعات السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط، تقف إيران أمام مشهد معقد من حيث الإدراك والتوقع. بمعنى إن حالة عدم اليقين بما ستؤول إليه الأحداث في سوريا والعراق، سيوقع صانع القرار السياسي في إيران بكثير من الإشكالات، خصوصاً إذا ما أدت الضغوط الدولية المفروضة على تركيا الآن، من أجل إيقاف عملياتها العسكرية في شمال شرق نهر الفرات، إلى جلوس تركيا والنظام السوري على طاولة الحوار، عندها سيطرح سؤال واحد: ما هو موقع إيران في معادلة ما بعد عملية نبع السلام؟ هل ستكون أمام استحقاق إقليمي قد يكلفها نفوذها في سوريا أولاً ثم العراق، أم أنها ستقف حجر عثرة بوجه أي استحقاق سياسي وأمني قد ينتج عن هذه العملية؟ وتحديداً ورقة حزب العمال الكردستاني الذي تستثمره جيداً في شمال العراق، وهو ما سعت إلى تكراره في شمال سوريا أيضًا.
مع التأكيد هنا بأن الرؤية الإستراتيجية ذاتها تطرح، في حالة ما إذا نجحت المظاهرات العراقية في تحقيق نتائج إيجابية على صعيد النفوذ الإيراني في العراق، فعندها سيتم طرح ذات الإسئلة والإستفسارات عن المستقبل الذي ينتظر إيران في العراق.