في منطقة نائية، افتتحت الإمارات في 9 مارس/آذار 2025 مستشفى ميدانيًا في ولاية شمال بحر الغزال بجنوب السودان، قُبالة الحدود السودانية، بحضور مسؤولين من البلدين، ورغم التصريحات الرسمية التي تؤكد الطابع الإنساني للمشروع، تبرز تساؤلات حول دوافع اختيار موقع حساس يطل على بؤر التوتر في دارفور وكردفان، وعلاقة ذلك بالدور الإماراتي المتنامي في القرن الأفريقي وأطماعها في القارة السمراء.
وفي سياق متصل، شهدت جنوب السودان توترات أمنية عقب اعتقال مسؤول عسكري من المعارضة بقيادة رياك مشار، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات في “جوبا” و”ناصر”، وأسفر عن مقتل قائد قوات دفاع جنوب السودان في الناصر، اللواء مجور داك.
من جانبها، أعلنت حكومة ولاية النيل الأبيض الحدودية في السودان عن خطتها العاجلة لاتخاذ “التحوطات اللازمة” في جميع المعابر الحدودية مع جنوب السودان، بما في ذلك معابر “جودة، المقينص، وأم كويكة”، وذلك بتوجيه من لجنة أمن الولاية، وفقًا لوكالة الأنباء الرسمية.
إضافة إلى ذلك، أجرى قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، في 10 مارس/آذار، اتصالًا هاتفيًا برئيس جنوب السودان، سلفاكير ميارديت، وذلك بعد فترة من التصعيد الدبلوماسي بين الجانبين على خلفية مشاركة مرتزقة جنوب سودانيين في صفوف مليشيا الدعم السريع.
من جهة أخرى، وفي خطوة قانونية غير مسبوقة، رفع السودان قضية ضد دولة الإمارات العربية المتحدة أمام محكمة العدل الدولية، متهمًا إياها بتسليح مليشيا الدعم السريع وانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، على خلفية الهجمات التي شهدتها ولاية غرب دارفور، والتي أسفرت عن انتهاكات جسيمة بحق المساليت خلال الأشهر الأولى من النزاع، ارتكبتها مليشيا الدعم السريع.
وأعلنت محكمة العدل الدولية أنها تسلمت القضية، التي تتهم الإمارات بلعب دور مباشر في تأجيج النزاع عبر تزويد الدعم السريع بالسلاح، في انتهاك للقانون الدولي. في المقابل، سارعت أبوظبي إلى نفي هذه الاتهامات، حيث صرّح مسؤول إماراتي لوكالة “رويترز” بأن بلاده ستسعى إلى رفض القضية فورًا، معتبرًا أنها “تفتقر إلى أي أساس قانوني أو واقعي”.
تفاصيل المشروع
بالعودة إلى الهدف الإنساني المعلن لافتتاح مستشفى “مادهول” الميداني في ولاية شمال بحر الغزال بجنوب السودان، والذي يقع على بعد حوالي 64 كيلومترًا (40 ميلًا) جنوب الحدود السودانية، فقد جرى افتتاحه بحضور مسؤولين من البلدين وممثلين عن منظمات دولية، في إطار “الجهود الإماراتية لدعم القطاع الصحي في المنطقة”.
وبحسب التصريحات الرسمية، سيوفر المستشفى في مرحلته الأولى 100 سرير وعددًا من العيادات المتخصصة، لخدمة مختلف الفئات العمرية، ويهدف إلى تقديم خدماته لحوالي مليوني شخص، بمن فيهم اللاجئون السودانيون والمواطنون الجنوب سودانيون العائدون من السودان إلى ولاية شمال بحر الغزال.
وفي هذا السياق، أشار الشيخ شخبوط بن نهيان آل نهيان، وزير الدولة الإماراتي، إلى أن هذا المستشفى هو الثالث من نوعه الذي تنشئه بلاده لصالح اللاجئين السودانيين في دول الجوار، بعد مستشفيين ميدانيين سابقين في أم جرس وأبشي في تشاد.
من جانبه، أكد وكيل وزارة الصحة الوطنية في جنوب السودان، أنين نجوت نجوت، خلال حفل الافتتاح، أن المنشأة ستساعد في تقليل الحاجة إلى سفر المواطنين للعلاج خارج البلاد.
السياق الجيوسياسي الخفي
لم تكن الإمارات بعيدة عن الحرب الدائرة في السودان، حيث أثبتت عشرات التقارير الصحفية والأممية والأمريكية دعمها لمليشيا الدعم السريع، وأشار أحد هذه التقارير إلى اعتراف الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، ضمنيًا بدعمه لـ”الدعم السريع” خلال محادثات جمعته بنائبة الرئيس الأمريكي آنذاك، كامالا هاريس، كما كشفت مذكرة سرية كتبها سفير الاتحاد الأوروبي في السودان، إيدان أوهارا، أن الإمارات زوّدت مليشيا الدعم السريع بالأسلحة.
في هذا السياق، يثير المستشفى الإماراتي الذي افتُتح حديثًا في جنوب السودان تساؤلات حول ما إذا كان مجرد مبادرة إنسانية، أم أنه امتداد لسياسة “التمكين الناعم” التي استخدمتها الإمارات سابقًا في مناطق أخرى، مثل اليمن وليبيا والصومال وتشاد، حيث دعمت أطرافًا مسلحة تحت غطاء المساعدات الإنسانية.
وفي هذا الصدد، لا تقدّم الإمارات هذه “المساعدات” دون مقابل، إذ يقوم توسعها في القرن الأفريقي على نموذج استثماري-عسكري ما بعد استعماري، يعتمد على إغراق الدول الهشّة بالمساعدات، ثم استخدامها كوسيلة لفرض السيطرة السياسية والاقتصادية وضمان التبعية.
يأتي افتتاح الإمارات لمستشفى “مادهول” في ولاية شمال بحر الغزال بجنوب السودان في ظل سياق إقليمي معقد، يتجاوز مجرد تقديم الخدمات الطبية لسكان المنطقة واللاجئين السودانيين، فالموقع الجغرافي للمستشفى، الواقع على مقربة من الحدود السودانية، يمنحه أهمية استراتيجية خاصة، نظرًا لوجود مسارات نقل رئيسية تربط جنوب السودان بغرب كردفان ودارفور، وهي مناطق تشهد نشاطًا متزايدًا لمليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتيًا منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023.
إضافة إلى ذلك، لا يُعد مستشفى “مادهول” على الحدود مع السودان المشروع الطبي الوحيد الذي تروج له الإمارات، فقد سبق أن أعلنت عن مستشفى ميداني في أم جرس، تشاد، والذي تبيّن لاحقًا أنه جزء من عمليات دعمها العسكري لمليشيا الدعم السريع في السودان.
وبحسب تقرير لوكالة رويترز، استخدمت الإمارات مطار أم جرس كمنصة لنقل الإمدادات العسكرية إلى قوات الدعم السريع، بينما روجت رسميًا لأنشطتها في المنطقة باعتبارها “إنسانية”، وأكد أحد أفراد قوات الأمن التشادية، الذي عمل في أم جرس، أنه شاهد طائرات تحمل صناديق مشابهة لتلك التي تستخدمها وحدته لنقل الأسلحة، حيث تمّت حراستها حتى وصلت إلى الحدود مع السودان، حيث تسلمها مقاتلو الدعم السريع.
نقل التقرير أيضًا عن جاستن لينش، المحلل البارز في مرصد الصراع في السودان، أن الإمدادات العسكرية الإماراتية غيّرت ميزان القوى في الحرب، وساهمت في إطالة أمدها وزيادة عدد الضحايا المدنيين.
ورغم زعم الإمارات أن عملها في أم جرس آنذاك يقتصر على الجانب الإنساني، نفى مسؤولون في منظمات دولية هذه الادعاءات، فقد صرّح توماسو ديلا لونجا، المتحدث باسم الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، بأن الاتحاد لم يشارك في أي عمليات في أم جرس ولم يكن حتى على علم بالمستشفى قبل إعلان الإمارات عنه، كما أكد وليام سبندلر، المتحدث باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن المفوضية لم ترسل أي لاجئين إلى المستشفى المزعوم.
في ظل هذه السوابق، يبرز تساؤل مشروع: لماذا اختارت الإمارات ولاية شمال بحر الغزال لإنشاء مستشفى جديد، رغم بُعدها عن العاصمة جوبا وضعف بنيتها التحتية؟، حيث يقع المستشفى بالقرب من طرق تهريب الأسلحة والذهب، التي ارتبطت سابقًا بعمليات دعم مليشيا الدعم السريع، ما يمنح الإمارات نقطة استراتيجية يمكن استغلالها لوجستيًا، كما أن ضعف المؤسسات الحكومية في جنوب السودان يتيح لها العمل بحرية دون رقابة صارمة، تمامًا كما حدث في تشاد.
ردود الأفعال بين التساؤلات ومحاولات الإنكار
اتهم وزير المعادن السوداني، محمد بشير أبونمو، جنوب السودان بالسماح لدولة الإمارات بإنشاء ما وصفه بـ”قاعدة عدوان” تحت ستار مستشفى ميداني في منطقة أويل الشرقية، مشيرًا إلى أن الموقع الحدودي يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء تشييد المنشأة.
وفي منشور على فيسبوك، أعرب أبونمو عن شكوكه بشأن نوايا الإمارات، لافتًا إلى وجود منشأة مماثلة في تشاد، والتي سبق أن أُثيرت حولها اتهامات بتقديم دعم غير معلن لقوات الدعم السريع، وأضاف أن “الهدف الرئيسي غير المعلن هو تزويد الميليشيا بالمعدات العسكرية تحت غطاء عمليات الهلال الأحمر الإماراتي”.
تعزز هذه التحركات مصالح الإمارات في تجارة الذهب والموارد السودانية، كما تؤثر على موازين القوى في الصراع الدائر
كما وجّه انتقادات لحكومة جنوب السودان، متهمًا إياها بغض الطرف عن تجنيد مواطنيها للقتال في صفوف الدعم السريع، بالإضافة إلى تسهيل عمليات تهريب الذهب السوداني إلى الإمارات عبر مطاراتها.
في المقابل، نفى وزير الخارجية والتعاون الدولي في جنوب السودان، رمضان محمد عبد الله جوك، الاتهامات السودانية بشأن دعم مستشفى شيدته الإمارات بالقرب من الحدود لمليشيا الدعم السريع.
وفي تصريحات لموقع سودان تربيون، أوضح جوك أن المستشفى الميداني في شمال بحر الغزال كان بمثابة “هدية” من رئيس الإمارات لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، مشيرًا إلى أن جنوب السودان اختار عدم الرد على كل ما يُنشر في وسائل الإعلام، رغم وجود معلومات لدى بعض الأطراف حول حقيقة المشروع.
وأضاف أن بناء المستشفى جاء ضمن تعهدات قُطعت خلال إحدى زيارات الرئيس سلفا كير ميارديت، حيث تم تحديد ولاية شمال بحر الغزال كمنطقة بحاجة ماسة إلى الخدمات الطبية، ما جعلها الموقع الأنسب للمشروع. ونفى جوك وجود أي نية لاستخدام المنشأة كقاعدة عسكرية ضد أي طرف.
نقطة إمداد عسكري استراتيجية
في هذا السياق، يؤكد أحمد شموخ، الباحث والمحلل السياسي، في حديثه إلى “نون بوست”، أنه مع تصاعد المخاطر على طريق الإمداد من أم جرس التشادية بسبب انتشار القوة المشتركة للحركات المسلحة في شمال دارفور، “وجدت الإمارات ضرورة لتوسيع قواعدها المتقدمة، ما دفعها إلى إنشاء قاعدة جديدة على الحدود الجنوبية الغربية للسودان”، وفق تعبيره.
ويضيف شموخ أن “موقع المنشأة الجديدة يمنح الإمارات ميزة لوجستية”، حيث يسهل نقل الأسلحة والمرتزقة إلى قوات الدعم السريع عبر مسار أقصر وأكثر أمانًا من طريق شمال دارفور، كما أنه يقع على مقربة من أربع ولايات تسيطر عليها قوات الدعم السريع وحلفاؤها، ما يعزز دورها في “دعم التحالف التأسيسي الذي يسعى إلى تشكيل سلطة موازية في السودان”.
أما اقتصاديًا، فبحسب تقرير حديث لوكالة رويترز وتصريحات لمسؤولين كينيين، فإن الذهب السوداني يُهرَّب إلى كينيا ويُعاد تصديره كسلعة كينية.،كما تُهرَّب الثروة الحيوانية السودانية والصمغ العربي عبر مسارات مختلفة، بعضها جوي عبر مطار نيالا، الذي يقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، وبعضها بري عبر الحدود.
ومع تصاعد عمليات الجيش السوداني في دارفور، والتي أدت إلى فك الحصار عن الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، ووصول تعزيزات عسكرية كبيرة، أصبحت طرق التهريب التقليدية أكثر خطورة، لذا يشير شموخ إلى أن المسار عبر جنوب السودان بات “أكثر أمانًا وأقل كلفة”، ما يجعل الحاجة إلى نقطة دعم لوجستي جديدة، مثل المنشأة التي أقامتها الإمارات في مادهول، أمرًا ضروريًا.
إضافة إلى ذلك، تقع منشأة مادهول الصحية على بعد عشرات الكيلومترات من منطقة أبيي، التي ظلت محل نزاع بين السودان وجنوب السودان منذ انفصال الأخير في عام 2011، وتخضع المنطقة لبعثة أممية مؤقتة، في انتظار التوصل إلى تسوية نهائية، إلا أن حكومة جنوب السودان تسعى إلى اتخاذ خطوات أحادية لضمها، وهو ما ترفضه الحكومة السودانية.
ويشير شموخ إلى أن “قائد قوات الدعم السريع وعد قادة دينكا نقوك بعدم معارضة ضم أبيي إلى جنوب السودان، مقابل الحصول على دعم سياسي وعسكري”، ما قد يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي، خصوصًا مع انتشار الميليشيات في المنطقة.
ويختتم أحمد شموخ حديثه بالإشارة إلى أن “تحركات الإمارات في جنوب السودان ليست جهودًا إنسانية فقط، بل تحمل أبعادًا عسكرية واقتصادية وسياسية واضحة”، فإلى جانب دعم مليشيا الدعم السريع، تعزز هذه التحركات مصالح الإمارات في تجارة الذهب والموارد السودانية، كما تؤثر على موازين القوى في الصراع الدائر، ومع استمرار التوترات في المنطقة، قد يكون لهذه المنشأة دور أكبر في إعادة تشكيل مسارات الحرب والسياسة في السودان.
وفي المحصلة، يثير التوسع الإماراتي في جنوب السودان، خاصة في المناطق الحدودية، جدلًا واسعًا، فرغم الترحيب بالمستشفى باعتباره استجابة ضرورية لسد الفجوة الصحية، إلا أنه جزء من استراتيجية أوسع تُستخدم فيها المساعدات الإنسانية كغطاء لتوسيع النفوذ العسكري والسياسي.
ومع غياب الشفافية حول طبيعة الأنشطة الإماراتية في الإقليم، تتزايد المخاوف من أن يكون مستشفى مادهول خطوة أولى نحو تأسيس شبكة دعم لوجستي لمليشيا الدعم السريع تمتد عبر الحدود، تخدم أجندات تتجاوز الإغاثة الصحية.