“لولا أن مصر كشفت ظهرها وعرت كتفها في 2011 لكنا قادرين على التوصل إلى اتفاق لإنشاء هذا السد بما يحمي حقوق مصر” أدلى بهذا التصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال حضوره الندوة التثقيفية للقوات المسلحة بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر 1973 وذلك ردًا على سؤال الكاتب الصحفي، ياسر رزق، مدير مؤسسة الأخبار حول مستجدات قضية سد النهضة والتأثير المحتمل لفوز رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام على عملية المفاوضات.
ولكن تصريحات السيسي اصطدمت بوقائع من التاريخ القريب تثبت بأنه يتحمل الجانب الأكبر من فشل مفاوضات سد النهضة، والحقيقة أن هذا التصريح لم يكن الأول من نوعه فقد سبق وهاجم الرئيس السيسي ثورة يناير في عدة مناسبات، فهل بالفعل كانت ثورة يناير بمثابة عقبة كبيرة لإضعاف الدولة الوطنية؟
عبد الفتاح السيسي وسد النهضة: البداية قبل 2011
في يناير 2010 أصبح اللواء عبد الفتاح السيسي مديراً للمخابرات الحربية بعد أن كان قائداً للمنطقة الشمالية العسكرية، وبموجب منصبه الجديد شارك السيسي بملف سد النهضة ضمن وزرات الري والدفاع والخارجية إضافة إلى المخابرات العامة، وقد تم تشكيل تلك اللجنة بناء على تكليف الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك وذلك بعد إجراء إثيوبيا مسحاً لـ 26 موقعًا على ضفاف النيل لبناء سدود حددتها الخارجية الأمريكية سلفاً. وقتها انحازت اللجنة لتوصيات وزير الدفاع ومدير المخابرات العامة باستخدام الحل العسكري عوضاً عن الحل السياسي.
بعد الإطاحة بمبارك أكد المجلس العسكري أنه سيحمي مكتسبات الثورة ويشرف على الانتقال السلمي للسلطة ولكنه سرعان مادخل في مواجهات دامية مع الثوار
وبحسب وثائق مسربة نشرها موقع ويكيلكس عام 2010 فإن مصر طلبت من السودان إنشاء قاعدة عسكرية بأراضيه حال إصرار إثيوبيا على المضي قدماً في خططها لإنشاء مشروعات على نهر النيل، وبعد نشر الوثيقة بشهور قليلة أعلنت الحكومة الإثيوبية عزمها تنفيذ خططها وذلك على الرغم من جولات المفاوضات.
بعد اندلاع ثورة 25 يناير وتكليف المجلس العسكري بإدارة شئون البلاد آلت للمجلس مسئولية ملف سد النهضة والمفارقة أن الثورة أطاحت بمبارك وجميع أعضاء اللجنة السياسية ما عدا المشير طنطاوي واللواء عبد الفتاح السيسي، وطوال الفترة الانتقالية التي أدارها المجلس العسكري وصل مشروع سد النهضة لنقطة اللاعودة ليستكمل السيسي مسيرة فشل العسكر وتخسر مصر جميع حقوقها التاريخية في مياه النيل.
المجلس العسكري وسد النهضة: غياب تام والانشغال بمهاجمة الثوار
بعد الإطاحة بمبارك، أكد المجلس العسكري أنه سيحمي مكتسبات الثورة ويشرف على الانتقال السلمي للسلطة ولكنه سرعان ما دخل في مواجهات دامية مع الثوار؛ فبعد 11 يوم فقط من سقوط مبارك هاجمت الشرطة العسكرية مئات المعتصمين في جمعة الوفاء واعتقلت الكثير منهم وحاكمتهم عسكرياً بتهم خرق حظر التجول والتعدي على الجيش.
وبعد مرور أسبوعين وتحديداً في 9 مارس استخدمت الشرطة العسكرية الرصاص الحي لفض ميدان التحرير بالقوة وقُتل عدد من المتظاهرين وقتها هذا إضافة إلى التعدي على مراسلي القنوات الأجنبية، وخلال هذا التوقيت وفي 30 مارس 2011 وضعت إثيوبيا حجر الأساس لسد النهضة وأعلنت أنها ستطلع مصر على مخططات السد وذلك لدراسة مدى تأثيره على دولتي المصب، ولكن وبسبب انشغال المجلس العسكري مع الثوار لم تتحرك الحكومة طيلة شهر ونصف من بعد الإعلان الإثيوبي واكتفى المجلس بإرسال وفد الدبلوماسية الشعبية لأديس أبابا في مايو 2011 وكان هذا هو كل ما فعله المجلس العسكري فيما يخص سد النهضة.
محمد مرسي يحرك الماء الراكد والسيسي يضيع مياه مصر قانونياً
بعد وصول الرئيس الراحل محمد مرسي لسدة الرئاسة تحركت مصر رسمياً للمرة الأولى وطلبت عقد مفاوضات على مستوى الرؤساء مع السودان وإثيوبيا لحل أزمة السد، ولكن المفاوضات توقفت بعد عزل الجيش للرئيس محمد مرسي في يوليو 2013.
في مارس 2015 فقدت مصر ورقة الضغط الوحيدة التي كانت تملكها بتوقيع السيسي لاتفاق إعلان المبادئ ملغياً بذلك اتفاقية 1902 التي كانت تمنع جميع دول حوض النيل من إقامة أي سدود على النيل دون موافقة مصر والسودان.
ومع عزل الجيش لمحمد مرسي علّق الاتحاد الإفريقي عضوية مصر وهو ما أعطى لإثيوبيا وقتاً إضافياً للحصول على تمويل من أجل بناء السد. وفي مارس 2015، فقدت مصر ورقة الضغط الوحيدة التي كانت تملكها بتوقيع السيسي لاتفاق إعلان المبادئ ملغياً بذلك اتفاقية 1902 التي كانت تمنع جميع دول حوض النيل من إقامة أي سدود على النيل دون موافقة مصر والسودان.
ليست المرة الأولى: لماذا يهاجم السيسي ثورة يناير في لقاءاته الأخيرة
تصريح السيسي بمسئولية ثورة يناير عن أزمة سد النهضة لم يكن الأول من نوعه، إذ سبق وهاجم السيسي الثورة؛ فأثناء كلمته التي ألقاها خلال الندوة الـ 29 للقوات المسلحة انفعل الرئيس المصري قائلاً: “أقول دائمًا إن ما حدث في 2011 هو علاج خاطئ لتشخيص خاطئ، فالبعض قدم للناس صورة عن أن التغيير يحدث بهذه الطريقة، وأن هناك عصا سحرية سوف تحل المشكلات”.
والحقيقة أن المطلع على تصريحات السيسي عن ثورة يناير سوف يجد الكثير من التغيرات التي طرأت على الخطاب؛ ففي البداية كان يرى أن يناير ثورة نبيلة وأنها و30 يونيو يجسدان العبور الثاني للديمقراطية والحرية وذلك بعد العبور الأول لمصر في حرب 6 أكتوبر.
وفي عام 2014 بعد انتقاله من منصبه كوزير للدفاع إلى رئيس جمهورية وخلال احتفاله بالذكرى الثانية والستين لثورة 1952 ذكر السيسي أن ثورة 52 أطاحت بالنظام الملكي وأن 25 يناير و30 يونيو هما امتداد لها، وفي ذكرى يناير عام 2014 قال السيسي إن ثورة يناير جاءت حاملة معها الآمال والتطلعات المستحقة في عيش كريم.
بداية من عام 2015 بدأت تتغير تصريحات السيسي شيئاً فشيئاً؛ فخلال هذا العام تحدث عن تضحيات الشعب المصري في ثورة يناير ولكنه أضاف أن الثورة انحرفت عن مسارها وحاول البعض أن ينبسها لنفسه إلا أن الشعب صحح المسار في 30 يونيو، وهو المعنى الذي أكد عليه مرة أخرى خلال عام 2016.
وفي عام 2017 خلال مؤتمر الشباب بمحافظة الإسكندرية قال السيسي أن المواطنين حين خرجوا في 2011 لم يكونوا مدركين لحقيقة المشكلة وأضاف السيسي “كان خداع ووعى زايف لكم ، وبالتالى قالك حل الحكاية واتحرك وشيل فوانت بتشيل كنت بتشيل مستقبلك..عايز تتحرك تانى اتحرك انت هتضيعها خالص انت هتضيع بلدك خالص وهتضيع مسقبلك”.
أما في عام 2018، تغيرت لهجة السيسي تماماً؛ ففي 31 يناير 2018 جاءت كلماته شديدة اللهجة قائلاً: “أنا سامع كلام بيقول احذروا ها.. الكلام اللى كان اتعمل من 7 أو 8 سنين، مش هيتكرر تانى فى مصر، اللى منجحش ساعتها هتنجحوه دلوقت انتم باين عليكم متعرفونيش.. والله أمنك واستقرارك يا مصر تمنه أنا وحياة الجيش”.
هل ثورة 25 يناير سبب تدهور مصر؟
ثمان سنوات مرت على مصر منذ اندلاع ثورة 25 يناير انتقلت فيها البلاد بين حالات سياسية شديدة التعقيد، كان سقف التوقعات عالياً “عيش- حرية- عدالة اجتماعية” وكانت الأحلام لا تحدها السماء ولكن الوضع أفضى إلى نهاية دراماتيكية، فمن ثورة شعبية عظيمة حماها الجيش إلى تنصل أغلب الناس منها ورؤيتها كمتهم تسبب في انهيار البلد اقتصاديًا واجتماعيًا وحتى سياسيًا. فعلى الصعيد الإقليمي كانت مصر قبل 2011 دولة شديدة الأهمية في محطيها الجغرافي ولكنها أصيبت بتكلس حاد في جميع مفاصلها وفي مجال حقوق الإنسان وهو ما تؤكده باستمرار تقارير المنظمات الحقوقية الدولية.
جدير بالذكر أنه بالرغم من كل تلك الحقائق فإن ثورة يناير ليست السبب في كل هذا ولكن السبب الحقيقي والمباشر هو أن بنية الاستبداد في مصر سرعان ما أعادت تركيب نفسها وأخرجت رؤوسًا جديدة لها بنفس الخطاب القديم قبل اندلاع الثورة، وإن تغيرت مفرداته؛ إذ تحول خطاب “أنا أو الفوضى” للمخلوع مبارك إلى محاربة الإرهاب ومواجهة العنف المحتمل وفي كلا الحالتين فإن المستبد يرتكز على العنف لكي يوطد أركان نظامه.