في شوارع النبطية وصيدا وطرابلس وصور وبعلبك، وفي ساحة رياض الصلح وسط بيروت، نبت آلاف اللبنانيين ليلة الأمس، غاضبين على الحكومة وساخطين على إجراءاتها وسياساتها التعسفية تجاه القضايا الاقتصادية والحياتية، التي وضعت لبنان على مر السنوات الماضية في وجه أزمات طاحنة، لم يتحمل عبء الخروج منها إلا طبقات دنيا، أمعنت الحكومة في إفقارها وإثقال كاهلها المعيشي، ودون أن تحل أزماتها المزمنة.
تحرّك المتظاهرين العفوي، جاء بعد اتضاح المعالم الرئيسة لخطة الموازنة الحكومية الجديدة للعام 2020، والتي يناقشها مجلس الوزراء خلال هذه الأيام. حيث أقر المجلس في جلسته أمس اقتراحًا كان قد تقدم به وزير الاتصالات اللبناني، يقضي بفرض رسوم على استعمال تطبيقات المكالمات الصوتية عبر الإنترنت، بما يعني إجبار المشتركين على دفع فاتورة استخدام الإنترنت مرتين، حيث سيضطر المستخدم الذي يستخدم تطبيقات مثل واتساب لدفع 6 دولارات شهريًا، تضاف إلى فاتورة اتصال يدفعها المشترك في لبنان، هي بالمناسبة من أعلاها في العالم، هذا عدا عن الرسوم الضريبية التي تُحصل لمجرد استخدام الهاتف، كل ذلك والخدمة المقدمة هي الأسوأ.
2-3000 walking towards Beirut’s Martyrs’ Square #Lebanon #اجا_وقت_نحاسب #لبنان #لبنان_ينتفض pic.twitter.com/XDwOXj31PA
— joey ayoub (@joeyayoub) October 18, 2019
وزير الاتصالات خرج وبعد ساعةٍ من المظاهرات في القنوات التلفزيونية ليُعلن عن تراجع الحكومة عن قرار فرض ضرائب على مكالمات الواتساب، وهو القرار الذي برر اتخاذه الوزير صباحًا بكونه سيدر نحو 200 مليون دولار إضافية بشكلٍ سنوي لخزينة الدولة.
اتسعت رقعة المظاهرات وحدتها في ساعات الليل المتأخرة، ونصب المتظاهرون في بعض المناطق الخيام إيذانًا ببدء اعتصام احتجاجي مفتوح
بيد أن محاولة الحكومة لامتصاص غضب الشارع اللبناني عبر سحبها للقرار فشلت، بل إن ما حصل هو العكس، فاتسعت رقعة المظاهرات وحدتها في ساعات الليل المتأخرة، ونصب المتظاهرون في بعض المناطق الخيام إيذانًا ببدء اعتصام احتجاجي مفتوح. وهو الأمر الذي يعيدنا لسؤال، هل كان خروج المتظاهرين ليلة الأمس في شوارع لبنان بهدف إسقاط ضريبة الواتساب حقًا؟
«الشعب يريد إسقاط النظام»
عند مشاهدة مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والقادمة من المظاهرات اللبنانية الليلية، نرى بوضوح أن غضب المحتجين وخروجهم لا يتعلق بضريبة الواتساب بحد ذاتها، وحصر الأمر بذلك هو محاولة للتعمية عن سخط حقيقي لدى الناس يطال نهج الحكومة بأكمله، بدءًا من سياسات الإفقار والتقشف القاسية، وانتهاءً بفساد رجال الحكومة ومؤسساتها.
إذن فإن المتظاهرين الذين خرجوا بشكلٍ عفوي، وبطريقةٍ لا مركزية في أغلب المناطق اللبنانية، لم يخرجوا رفضًا للسياسات الضريبية الجائرة حصرًا، بل أخذوا سقف مطالبهم عاليًا، سقف يلائم أوضاعهم السياسية والحياتية المتردية، ويعكس سخطهم الكبير عليها، لنرى أن هتافات مثل «الشعب يريد اسقاط النظام»، «ثورة، ثورة، ثورة»، قد سيطرت على المظاهرات المختلفة، وأصبحت الهتافات الأكثر ترديدًا من قبل المحتجين.
Beirut, you are beautiful! #اجا_وقت_نحاسب #ثورة_الواتساب pic.twitter.com/wUUj8g510w
— Mohammad Hijazi (@mhijazi) October 17, 2019
هتافات المتظاهرين طالت كذلك رموز النظام السياسي وفسادها، «حرامي، حرامي، نبيه بري حرامي»، هتف اللبنانيون في النبطية، المدينة التي شهد التحرك فيها أشد درجات السخط، حيث نقل المتظاهرون اعتصامهم إلى أمام مكاتب ومنازل أعضاء مجلس النواب، وحطموا لوحات مكاتب نواب منطقتهم. الجدير بالذكر أن بعض أعضاء مجلس النواب حاولوا الانضمام للمظاهرات في بعض المناطق، إلا أنهم تعرضوا للطرد من قبل المتظاهرين.
طالت الهتافات كذلك الاجراءات المالية، وسياسات البطش الأمني، وفي وسط بيروت، جرت مواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية، التي عمدت لإخلاء ساحة رياض الصلح من المتظاهرين بإطلاق قنابل الغاز وخراطيم المياه. كان قد سبق ذلك تعرض المتظاهرين لإطلاق نار من قبل مرافقي وزير التربية والتعليم العالي (أكرم شهيب)، أثناء توجههم -المتظاهرون- لمقر مجلس النواب.
حكومة في مهب الريح
على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحت وسوم عدة من بينها (اجا وقت نحاسب) عبّر اللبنانيون عن رفضهم لإجراءات الحكومة. وحتى صبيحة اليوم، استمر المتظاهرون في إغلاق الطرق وإشعال الإطارات رغم المحاولات المتكررة لقوى الأمن لتفريقهم وفض اعتصاماتهم، إضافةً إلى ذلك قررت وزارة التربية والتعليم تعطيل المدارس والجامعات، وأعلنت جمعية المصارف الخاصة إقفال أبوابها، كما دعا الاتحاد العمالي العام في لبنان إلى الإضراب.
يضع ذلك الحكومة اللبنانية في أزمة، وخصوصًا أن اليوم هو موعد انعقاد الجلسة الختامية لمناقشة الموازنة الجديدة، والتي نقلت بسبب المظاهرات من السرايا الحكومية إلى قصر بعبدا الجمهوري. ومن المفترض أن تقر جلسة اليوم، بقية الإجراءات المجحفة بحق المواطنين، فبعد إقرار رفع الرسوم على التبغ والتنباك المستورد والمنتج محليًا، ستحمل جلسة اليوم إقرارات ضريبية جديدة على المحروقات، وزيادة على ضريبة القيمة المضافة.
الحكومة اللبنانية، وفي محاولة منها لخفض العجز المالي الذي يعصف بها، كانت قد بدأت سياسة تقشف قاسية مع إقرار موازنة عام 2019، وهي اليوم عازمة على تعزيزها ورفع حدتها، دون أي اعتبار لما يلقيه ذلك من أعباء ثقيلة على كاهل المواطن اللبناني، والمشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، وما سيفضي إليه من حد في القدرة الشرائية وزيادة في الانكماش الاقتصادي.
من الضروري إدراك أن السياسات الحكومية الجديدة فرضت المزيد من القيود على عمل اللاجئين في استمرارٍ لسياسات الإفقار الممنهجة
لا تشمل الإجراءات الجديدة رفع بعض الضرائب وإقرار أخرى على الاستهلاك وتسجيل المنازل والسيارات، بل تقضي خطة الحكومة بإقرار إجراءات أخرى، منها تخفيض الدعم على الكهرباء بنحو 663 مليون دولار، وتخفيض الاجور ومعاشات التقاعد والخصخصة وبيع الأصول العامة ووقف الإسكان والقروض. كل ذلك بهدف سداد استحقاقات سندات الدين المتراكمة على الدولة، والتي ستبلغ قيمتها خلال الأشهر الثمانية المقبلة حوالي 6.8 مليار دولار، شاملة الأصل والفوائد.
يُظهر ذلك تعنت الحكومة في تحميل كلفة الأزمة المالية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، مع وجود إمكانية لاتخاذ إجراءات إصلاحية بديلة، بدايةً من خفض الدين العام، وإقرار نظام ضريبي جديد، وتقييد صلاحيات مصرف لبنان، المتحكم الوحيد اليوم بالنقد والمال والاقتصاد. ومن الضروري إدراك أن السياسات الحكومية الجديدة تأتي في سياق متصل مع قرارات وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان في تموز الماضي، والتي فرضت المزيد من القيود على عمل اللاجئين الفلسطينيين والسوريين داخل لبنان باعتبارهم عُمالًا أجانب، في استمرارٍ لسياسات الإفقار الممنهجة ضد الطبقات الدنيا والأشد فقرًا، وبينما حُصرت الحركة الاحتجاجية ضد قرار وزير العمل داخل المخيمات الفلسطينية، مصحوبةً بمحاولات لاحتوائها بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، فإن مظاهرات الأمس، وما تبشر به من حراكٍ مستمر في الأيام القادمة، قد عمت لبنان بالكامل وتمكنت من المس بمركز صنع القرار في الدولة اللبنانية.
ختامًا، ارتفعت التوقعات المراهنة على رحيل الحكومة الحالية برئاسة سعد الحريري، وهو ما سيخلق أزمةً جديدة بحسب المتابعين، وسيضع الموازنة في مهب الريح، إلا إن الأكيد أن مظاهرات الأمس المستمرة لن تجعل تمرير إقرارات ضريبية جديدة أمرًا سهلًا للحكومة، ولكن يبقى الأمر رهينة الشارع كذلك، الذي يبتغي أمانًا اقتصاديًا، وحماية من إجراءات قاسية تطاله وحده دون أن تمس المصارف وأصحاب رؤوس الأموال محتكري الثروة.