لم يكن بدء عملية نبع السلام بتلك السرعة والسلاسة هي المفاجأة الوحيدة التي أعلنتها تركيا للعالم العربي والأجنبي في غضون عدة ساعات قليلة في شكل أشبه ما يكون إلى تحدّ لانتقادات ورفض دول أوروبية عديدة وتجاهل تام لتهديدات الرئيس الأمريكي ترمب التي كانت تدمير الاقتصاد التركي مادتها الخام، إلا أن إيقاف العملية البارحة كان الخبر ذو الصدى الأوسع في الوقت الذي لم يكن أحد قادر على توقع تراجع القوات الكردية المسلحة بهذه السرعة.
لكن دخول نظام الأسد وداعمته الأولى روسيا على طاولة المفاوضات هو ما أعاد للصورة حقيقة ألا أحد قادر على صنع أيّ تفصيل بسيط في شكل الحالة السورية دون الرجوع إلى الأسد وإعطاءه حصة من المكاسب.
جلسة التفاوض ونتائجها
بعد عدة مناوشات بين الجانب الأمريكي والتركي حول عقد جلسة التفاوض المتفق عليها بين الجانبين، وترقب عالمي كبير لما سينتج من قرارات من شأنها تغيير وجه المنطقة بأكملها، انتهت الجلسة التي استمرت إلى ما يقارب 5 ساعات كاملة في ظل تكتّم كبير بإيقاف عملية نبع السلام التركية لمدة 120 ساعة بدايًة من التاسعة مساء البارحة. وهو ما صرح به نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، عقب انتهاء الاجتماع في العاصمة أنقرة، حين تحدث عن توصل تركيا والولايات المتحدة إلى “اتفاق لوقف إطلاق النار” موضحًا أن هدف أمريكا حاليًا هو ضمان انسحاب قوات قسد خلال الساعات القليلة القادمة مضيفًا أن هذا الاتفاق قام على ضمان كردي وتأكيدات متكررة على الانسحاب من المنطقة الحدودية وهو ما لم يكن معتادًا من قبل الأكراد.
فيما يأتي القضاء على تنظيم “داعش” الموجود شمال شرقي سوريا، وإلغاء فرض العقوبات الأمريكية على الاقتصاد التركي وبعض من وزراء الحكومة وضمان تركيا لعدم اتخاذ أيّ إجراء عسكري ضدّ بلدة كوباني “عين العرب” الحدودية الاستراتيجية جزءًا من الاتفاق الذي تم التوصل إليه.
“أخذنا ما نريده في مفاوضات اليوم (مع الأمريكيين) نتيجة القيادة الحكيمة لرئيسنا أردوغان”.
إضافة إلى التزام كل من الولايات المتحدة وتركيا بالتوصل إلى حلّ سلمي بحق المنطقة الآمنة والعمل على أساس دولي لضمان “السلام” والأمن على الحدود التركية، وموافقة تركيا على حماية الأقليات في شمال سوريا.
أما من الجانب التركي فاتسمت التصريحات بشكل عام بلهجة الاحتفال بتحقق النصر، إذ قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، في مؤتمر صحفي عقب انتهاء الاجتماع: “أخذنا ما نريده في مفاوضات اليوم (مع الأمريكيين) نتيجة القيادة الحكيمة لرئيسنا أردوغان”.
كما كتب نائب الرئيس التركي، فؤاد أوقطاي، في تغريدة نشرها على حسابه الشخصي في “تويتر” فجر اليوم تعليقًا على الاتفاق قائلًا: “لقد فازت تركيا بقوتها في الميدان، واستراتيجيتها على طاولة المفاوضات، والموقف الحاسم لقائدنا (رجب طيب أردوغان)”.
تبعات وردود
من الواضح للعيان أن تركيا هي الرابح الأكبر في تحقيق اتفاق التحاصص القائم، إذ أنها كسبت “منطقة آمنة” بمساحة 32 كيلو متر وبطول 444 كيلومترًا، حتى حدود العراق شرق نهر الفرات بسوريا ستوفر لها الحماية التامة كما أنها أكدت سيادتها على الأكراد من خلال إجبارهم على الانسحاب بالقدر الذي سيحقق لها الأمان الكافي في حال قيامهم بدولة كردية في كوباني (عين العرب).
لكن المفاجئ بالأمر وهو ما لم يكن مطروحًا على الأقل في الوقت الراهن هو تسليم منبج وعين العرب لنظام الأسد، في الوقت الذي لم يكن باستطاعته _ قبل بدء نبع السلام، التفكير بالاقتراب من المنطقة كاملة، وهو ما يعني عودة الأكراد إلى سلطة النظام من جديد إضافة إلى تخلصه من قواتهم المسلحة.
أما من ناحية أخرى فقد أخرج هذا الاتفاق الأسد ونظامه من سباتهم الطويل، إذ جاء رد فعله سريعًا على لسان المستشارة الإعلامية، بثينة شعبان، فعبرت عن الاتفاق بأنه “غامض ومعانيه غير مكتملة”. ثم أضافت في مقابلة تلفزيونية لقناة “الميادين” بأن “ما تم الاتفاق عليه بين الولايات المتحدة وتركيا لا يعني أن روسيا وسوريا ستوافقان عليه”. لافتًة النظر إلى أن “سوريا ستتصدى لأيّ عدوان أجنبي عليها، وستواجه الغزو التركي”، وأنها “لا يمكن أن تقبل نسخ نموذج كردستان العراق”.
وكانت بيلوسي قد وصفت في وقت سابق من اليوم ما قامت به أمريكا في تحقيق هذا الاتفاق بأنه “عار”
وسرعان ما غيّرت رأيها في مقابلة أخرى مع قناة “روسيا اليوم” قالت فيها “لا يوجد شيء مستحيل في السياسة، و يمكن للحروب أن تنتهي بمفاوضات واتفاقيات”، في إشارة منها إلى احتمال عودة العلاقات السورية مع تركيا.
تختلف ردود الفعل الأمريكية الداخلية حول الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الطرف التركي، كونه سمح لروسيا أخذ مكانة لها في سوريا وهو ما حلله بعض المختصين على أنه حصل نتيجة تعرّ ترمب للضغط الروسي الذي كان قائمًا عليه إلى جانب المشاكل والاتهامات الداخلية التي طالته في اجتماعه الأخير مع الحزب الجمهوري وسجاله مع رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، حول مساهمته في تحقيق مصالح روسيا والسعودية في سوريا مما ساعد في سعيه للاتفاق مع تركيا.
وكانت بيلوسي قد وصفت في وقت سابق من اليوم ما قامت به أمريكا في تحقيق هذا الاتفاق هو “عار”. بينما اعتبرته هي و وزعيم الديمقراطيين بمجلس الشيوخ، تشاك شومر في بيان لهما أن الاتفاق “يقوض بشكل خطير مصداقية السياسة الخارجية الأمريكية، وبأن الرئيس أردوغان لم يتخلَّ عن شيء بينما قدم الرئيس ترامب له كل شيء”.
أما ترمب كان قد كتب البارحة في حسابه على “تويتر” بعد انتهاء الجلسة واصفًا يوم الاتفاق بأنه “يوم عظيم” للولايات المتحدة ولتركيا وللكرد، وبأنه يخدم مصالحهم جميعًا”.
هل سيلتزم الأكراد ببنود الاتفاق؟
كثرت الأسئلة حول حقيقة التزام الأكراد ببنود الاتفاق وما إن كانوا سيعملون بقرار وقف إطلاق النار الذي أخذت أمريكا ضمانة عليه من قيادة الميليشيا الكردية منذ إعلان القرار البارحة حتى هذه الساعة، وقد أبدى قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم عبدي، يوم البارحة 17 أكتوبر، في تصريحات لقناة “روناهي” الكردية استعداد قواته للالتزام باتفاق وقف إطلاق النار وفعل كل ما يلزم لإنجاحه ثم أضاف موضحًا أن الاتفاق يقتصر على المنطقة الممتدة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض الحدوديتين، مشيرًا إلى أن مصير بقية المناطق لم يُناقش بعد.
لم تمر ساعات قليلة حتى سمع أصوات قصف وإطلاق نار في رأس العين
ثم أكمل قائلًا أن هذا الاتفاق بالرغم من نجاحه بالنسبة لتركيا إلا أنه قد فُرضعليها نتيجة الضغوط الدولية التي أثارتها العملية. وسيضمن في النهاية عدم تحقيق تركيا لجميع أهدافها التي شنّت من أجلها العملية العسكرية على مناطق شمال شرقي سوريا. وبعد ما يقارب الساعة أعلن التنظيم في بيان له بدء سريان وقف إطلاق النار اعتبارًا من الساعة العاشرة مساء بالتوقيت المحلي، آملًا في التزام إطلاق النار.
لكن لم تمرّ ساعات قليلة حتى سمع أصوات قصف وإطلاق نار في رأس العين منذ منتصف ليلة البارحة حتى فجر اليوم لتعود في الثامنة صباحًا. أظهرت الصور تصاعد أعمدة الدخان في شمال غرب محافظة الحسكة على الحدود التركية نتيجة إطلاق قوات قسد الرصاص تجاه الجيش التركي ورد الأخير بقصف مدفعي. فيما تتجه الأنظار الآن نحو اللقاء المرتقب بين أردوغان وبوتين الأسبوع القادم في موسكو والذي من شأنه أن يوضح دور نظام الأسد في الاتفاق الأخير.