داخل تلك البقعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا، صنع أهالي قطاع غزة قبل “طوفان الأقصى” حياة استثنائية على مدار 17 عامًا، رغم كل التحديات التي فرضها الحصار الإسرائيلي، فأبدعوا في خلق الفرح بأي شيء متاح.
في رمضان، كانت غزة تتزين بأضواء البهجة، والمباني تتوشح بزينة الشهر الكريم، وآلاف الصائمين يفترشون الشاطئ لصنع أجواء عند الإفطار، بينما الأسواق تعج بكل ما لذ وطاب، وصوت الضحكات يتهدّر من خلف الجدران، والمساجد عامرة بالمصلين، وصلة الرحم تقرب القلوب، في مشهد يفيض بالحياة.
لكن رمضان العام الماضي كان موجعًا، إذ عاش الغزيون بين النزوح الداخلي في مدينة غزة وشمالها أو الخيام على البحر بالمنطقة الوسطى والجنوبية من القطاع، في ظروف قاسية، ورغم الجوع وقلة الحيلة والعيش على وقع الصواريخ آنذاك إلا أنه لم يكن لدى الغزيين وقت للحزن، فقط محاولات العيش ولملمة ماتبقى من تفاصيل الحياة.
أما رمضان هذا العام 1446/2025 فقد يكون الأقسى على قلوب الغزيين، إذ تكاد تنعدم الحياة بعد العودة إلى بيوتهم المدمرة دون الأحبة، يحاولون ترميم ما تبقى من منازلهم ومنهم من نصب خيمته على ركام بيته، يعيشون في ظروف غير إنسانية حيث تبدأ صباحاتهم على طابور المياه لاحتياجاتهم اليومية لينتهي بطابور التكايا لتوزيع الطعام مجانًا، أو يتدافعون في طابور المساعدات الإغاثية النادرة.
طوابير وتكايا
في جولة سريعة لـ”نون بوست” في الأسواق الغزية وجدتُ أن هناك محلات لاتزال توفر المستلزمات الرمضانية السائدة، كمحل أبو أحمد ضبان في سوق الزاوية -البلدة القديمة- للمكسرات والبهارات، يقول إنه في الحرب أغلق المحل بسبب نزوحه، وحين عاد وجده كما هو ماعدا القليل من البضاعة الفاسدة، أتلفها.
وعن الأسعار ذكر صراحة أنها ارتفعت كبقية التجار، خاصة وأن لا بضائع جديدة، وفي حال شرائه من البضائع التي تأتي عبر المعابر قبل إغلاقها كان سيحتاج على كل “كونتينر” 20 ألف دولار.
وإلى الجانب منه، محلات كانت تعج بالزبائن قبل الحرب لكنها اليوم فارغة من البضاعة بفعل إغلاق المعابر، فلم يتبق في المحلات سوي القليل من المعلبات كـ “البازيلاء والفاصولياء والفول والحمص”.
تحكي رانيا فرج -تسكن حي التفاح شرق مدينة غزة- وهي أم لخمسة أطفال، أنها مرت بتجربة صعبة خلال رمضان الماضي، فقد اضطرت إلى إطعام صغارها “جميد” فاسد اشتراه زوجها وقتها بثلاثين شيكل (حوالي 6 دولارات)، وقتها استغربت سعره البسيط مقارنة بالأسعار الفلكية لسلع لا يتجاوز سعرها الدولار.
تقول حينما أعدت الجميد ليشربه أبناءها بعد نهار رمضاني صعب تبين أنه فاسد ومع ذلك أصرت أن ياكلوه بعدما منحت رغيف خبز واحد لخمستهم.
وتضيف بنبرة حزن وألم: “رمضان هذا العام دون زوجي الذي استشهد بداية العام الجاري (..) أجلس وأبنائي على الأرض ننتظر أذان المغرب، يستذكرون تفاصيل معاناتهم ويقارن صغاري حياة الماضي بالحاضر، يتمنون لو كان والدهم موجودًا ولو تعود المائدة تعج بالمأكولات التي يحبونها”.
وإلى مخيم جباليا ينصب منصور سالم -37 عامًا- خيمته فوق ما تبقى من بيته، بعد عودته من جنوب القطاع، حاول أن يستصلح أي جزء من بيته لكن لا يصلح للسكن حيث لا سقف ولا جدران، بل استحال إلى ركام.
بعد أيام قليلة من وصوله إلى ركام بيته حاول مجاراة الحياة الجديدة التي تعتمد على الطوابير كما يقول لـ”نون بوست”.
ويضيف: “في رمضان أجمع أولادي حولي على طبق الفول، وأشعر أني مكسور لا أستطيع جلب أبسط احتياجاتهم الأساسية رغم أني موظف، لكن الالتزامات الحياتية ثقيلة، خاصة بعدما أغلقت المعابر ولم نعد نحصل على أي طرد غذائي يساعد في توفير الطعام”.
ويشير إلى أن رمضان الماضي حين كان في الجنوب توفر القليل من الطعام لكن هذا العام لا شيء سوى المعلبات التي يحاول المحافظة عليها وإقناع صغاره أنه قد يأتي يوم لن يجدوا ما يتذمرون عند رؤيته على مائدة الإفطار.
ويعتمد منصور على صغاره في الذهاب إلى التكايا القريبة من منزله المدمر للحصول على شوربة العدس وفي بعض الأحيان تكون صغيرته ماريا ذات الست أعوام محظوظة وتأتيهم بالمكرونة أو الأرز كما يقول، مؤكدًا أن السحور فقرة ملغية من شهر رمضان فهو يحاول إقناع صغاره بذلك، يقول: “لا أستطيع توفير وجبتين في رمضان”.
اللمة حلوة
يرى الغزيون في رمضان شهر نجاة، وهم يصارعون في معارك جديدة من أجل البقاء بعدما عاشوا الجوع والفقد والحصار والنزوح، من أجل تأمين احتياجاتهم الأساسية التي غالبًا ما تتطلب التدافع على الكثير من الطوابير الطويلة.
عادوا إلى الأرض للبحث عن أي عشبة خضراء تصلح للطهي على الحطب وذلك بعدما انتهت المرحلة الأولى من الهدنة فأحكمت “إسرائيل” إغلاق المعابر ومنعت إدخال البضائع الأساسية، مما تسبب بتوقف المؤسسات الإغاثية عن تقديم الطرود الغذائية التي كانت الأسر تعتمد عليها.
ليس توفر الطعام والشراب والمأوى هو ما يثقل كاهل الغزيين، بل رؤية الصغار يتحملون مسؤولية إعالة عائلاتهم بعدما فقدوا والديهم، كحال نسيبة بدر -17 عامًا- التي أصبحت المعيل لأشقائها الصغار “أحمد ومرح” بعدما استشهد اثنين من أشقائها برفقة والديها في قصف لحي الدرج شرق المدينة.
بخجل وكلمات مقتضبة تقول لـ”نون بوست”: وحدي من يعيل إخوتي، تعلمت وصفات لإعداد المعلبات التي نحصل عليها كمساعدات إغاثية (..) في شهر رمضان اعتدنا على مائدة مميزة تعدها والدتي لكن هذا الشهر يأتي ثقيلًا ونحاول سد رمقنا مما نحصل عليه من التكية، فلا وقت لإعداد الطعام كوني أتجهز لتقديم امتحانات الثانوية العامة”.
وتكمل: “محظوظة أنّ بيتنا لايزال قائمًا، لكنه فارغ من الأهل، فمن تبقى من عائلتي سافر وقت الحرب (..) عادة في رمضان بيتنا مكتظ بالزائرين من الأقارب، لكن اليوم منهم من استشهد ومنهم من لا يزال في الجنوب نازح بفعل تدمير بيوتهم”، مضيفة: “اللمة حلوة”.
لم تنقطع صلة الأرحام، لكن ما جرى أن المئات من الأسر مسحت من السجل المدني في حرب الإبادة الإسرائيلية، بينما آخرون باتوا عاجزين بسبب الإصابة أو خلف قضبان الأسر، أو باتوا بلا مأوى.
“أذّن أذّن”
مع مطلع العام الجاري، كشف تقرير لوزارة الأوقاف أن الاحتلال الإسرائيلي دمر 815 مسجدًا بشكل كلي، وألحق أضرارًا جزئية بـ151 مسجدًا خلال عدوانه المستمر على قطاع غزة منذ العام الماضي. ورغم هذا الدمار الهائل، شيّد الغزيون مصليات مؤقتة، وفق المتاح، ليبقى صوت التكبير والصلاة عاليًا شاهدًا على صمودهم.
وقبل رمضان، اجتمع الغزيون في مختلف المناطق لإقامة “مصليات”، مستخدمين ما توفر من أخشاب وخيام وقطع إسمنتية متناثرة، ليؤدوا فيها صلواتهم رغم افتقادهم لكثير من أئمتهم ومقرئيهم، الذين غيبهم إما الاستشهاد أو الاعتقال.
ولم يكتفِ الاحتلال بتجويع الغزيين والتضييق عليهم، بل وجد طرقًا جديدة للتنغيص عليهم في شهر الصيام، حيث يتعمد زج طائرات “الكواد كابتر” (الدرون الإسرائيلية) في أجواء غزة، لا سيما في المناطق الشرقية مثل حي الشجاعية، فتذيع الأذان قبل المغرب بنصف ساعة، مما يُلبس على الأهالي الذين يفطرون قبل الميعاد، ليكتشوا لاحقًا أنه أذان وهمي تذيعه مُسيّرات الاحتلال في محاولة استفزازية أخرى لتنكيد حياتهم.
وفي مشهد آخر يعكس تمسكهم بإحياء رمضان، يتردد العشرات من المصلين على أنقاض المساجد العريقة، مثل المسجد العمري الكبير، ومسجد السيد هاشم، حيث عملوا على تنظيف الركام وإصلاح ما يمكن إصلاحه، ليتمكنوا من أداء صلاة التراويح فيها.
لكن في ظل انقطاع الكهرباء، فإنّ الأذان نادرًا ما يسمع، فلم تعد مكبرات الصوت تنقل النداء للصلاة كما كان الحال قبل الحرب، وعادت الحياة كما كانت قديمًا، حيث ينادي المؤذن بأعلى صوته: “والقريب يعلم البعيد”.. ويركض الصغار هاتفين “أذّن أذّن”.
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتلال قطع الكهرباء عن قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، وبات اعتماد السكان بشكل كبير على الطاقة الشمسية.
الإفطار على وقع الزنانة
لم يجد الغزيون حرجًا في التعبير عن الجوع الذي يضرب القطاع، فأطلقوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي حملة #غزة_تجوع، وراحوا يستعرضون حياتهم الرمضانية السابقة ويقارنوها بحياتهم اليوم حيث تفوح رائحة المعلبات التي أرهقت معدتهم من بين الخيام والجدران المتهاوية.
وفي السابق، كانت الحوالات المالية من الخارج تنعش جيوب الغزيين في الشهر المبارك، لكن اليوم كل شيء اختلف، فحتى من تصله الحوالة لا يحصل عليها كاملة، إذ تقتطع مكاتب الصرافة نسبة تصل إلى 40% كعمولة في ظل الفوضى، رغم محاولات الحكومة ملاحقة تجار الحرب.
ورغم الهدنة، لم يتوقف الاحتلال عن شن غارات وقت الإفطار أو السحور، ما يخلق حالة دائمة من الرعب وعدم الاستقرار، حتى في لحظات يفترض أن تكون آمنة، عدا عن طائرة “الزنانة” التي لا تفارق سماء القطاع إلا ساعات قليلة، وعند عودتها تصدر أصواتًا مرعبة.
وتحاول الحكومة في غزة قدر الإمكان توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لسكان القطاع الذين يواجهون التجويع الممنهج من قبل الاحتلال.
يقول سلامة معروف مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إن الاحتلال الإسرائيلي ينتهج سياسة تجويع ممنهجة تهدف إلى قتل الحياة في القطاع عبر منع الغذاء والماء والدواء دون الاكتراث إلى حرمة شهر رمضان، مشددًا على أن هذه الممارسات تُعد جريمة تستهدف القضاء على مقومات الحياة الأساسية لأكثر من 2.4 مليون فلسطيني.
وأشار معروف خلال حديثه لـ “نون بوست” إلى أن هذه السياسة خلّفت واقعًا إنسانيًا كارثيًا داخل القطاع، حيث لم تتمكن المؤسسات الحكومية، التي تعرضت للقصف والتدمير على مدار 15 شهرًا من حرب الإبادة، من توفير الاستجابة المطلوبة، موضحًا أن جميع قطاعات العمل والإنتاج في غزة توقفت تمامًا، ما جعل السكان يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات الإغاثية وما يدخل عبر المعابر، وهو أمر غير كافٍ لإحداث أي تغيير جوهري في معادلة الجوع والعطش التي يفرضها الاحتلال.
واتهم معروف الاحتلال باستخدام المدنيين كورقة ابتزاز سياسي، إذ واصل سياسة العقاب الجماعي قبل الحرب وخلالها، ويستمر فيها حتى بعد اتفاق وقف إطلاق النار، عبر إحكام الحصار ومنع دخول المساعدات وإغلاق المعابر، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
وقال: “الاحتلال يدرك أنه لن يُحاسب، في ظل العجز الدولي عن اتخاذ أي خطوات فعلية لكبح جرائمه، وهذا ما يدفعه للمضي قدمًا في سياساته الوحشية ضد المدنيين.”
ويؤكد أن سكان غزة لا خيار أمامهم سوى الصمود والثبات في مواجهة الموت جوعًا أو عطشًا أو مرضًا، كما واجهوه سابقًا بردًا وقصفًا، لاسيما وأن الاحتلال يسعى بشكل ممنهج لجعل غزة غير صالحة للحياة ويسعى لتهجير سكانه.
ورغم المنغصات التي يحاول الاحتلال فرضها على سكان قطاع غزة في رمضان، إلا أنهم يحاربون في معركة صمودهم للتمتع بروحانيات الشهر الكريم رغم الجوع والفقد والدمار، ليؤكدوا أن الاحتلال قد يسلبهم كل شيء، لكنه لن يسلبهم إرادتهم وعزيمتهم وإصرارهم على الحياة.