ترجمة وتحرير: نون بوست
في خضم الجدل الدائر حول الفيلم الوثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية ” بي بي سي” “غزة: كيف تنجو من منطقة حرب“، لم تُكتب كلمة واحدة عما يكشفه هذا الفيلم لنا عن كيفية نجاة الفلسطينيين من حرب استمرت لمدة سنة ونصف.
ولم تُسمع أي من الأصوات التالية في الجدل حول عرض هذا الفيلم.
كانت امرأة تفرّ وبحوزتها زجاجة ماء فارغة، بعد صدور أمر إجلاء إسرائيلي جديد، تصرخ دون أن تخاطب أحدًا بعينه: “لعنكم الله جميعًا. لعنة الله عليك يا يحيى السنوار”.
وقال صبي للكاميرا ببرود شديدة: “رأينا شهداء أمامنا. أحدهم كانت أحشاؤه تخرج من بطنه. هل نحن في مكان آمن؟”
وأوضح زكريا، وهو فتى يبلغ من العمر 11 سنة يكافح لكسب رزقه من تنظيف سيارات الإسعاف في مستشفى الأقصى، كيف يعمل جنبًا إلى جنب مع الإعلاميين والأطباء والمسعفين، قائلاً: “أحب أن أكون متطوعًا. أريد التطوع في وحدة إسعاف.”
وقال أحد المسعفين، الذي كان يرتدي سماعات الرأس لعزل نفسه عن ضجيج الحياة المحيطة به: “أحتاج إلى غسل هذا القميص. إن الأطفال في غاية النقاء والبراءة، ورؤيتهم مصابين من أصعب المشاهد. تساعدني السماعات، التي تعتبر أهم شيء بالنسبة لي، على الهروب من الحرب، وكآبة المستشفى والقصف والموتى والمصابين.”
ورفع محمد طاهر، جراح العظام والأعصاب الطرفية من لندن، ذراعًا كان قد بترها للتو من صبي يبلغ من العمر 10 سنوات، وقال: “انظروا ماذا يفعل الإسرائيليون بأطفال غزة. هذا ما وصلنا إليه. لا حول ولا قوة إلا بالله.”
ولكن هذا، بطبيعة الحال، هو الهدف كله من إلغاء فيلم وثائقي يضر بإسرائيل كهذا الفيلم.
إن الهدف ليس فقط إلغاء الفيلم الوثائقي، بل القضاء على أي وسيلة تُمكّن الفلسطينيين من التعبير عن الوحشية الاستثنائية التي يتعرضون لها على يد دولة تقوم فلسفتها على كونها ضحية؛ ضحية قرون من معاداة السامية الأوروبية وضحية المحرقة وضحية هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
بي بي سي ترضخ
تركزت الضجة تركيزًا شديدًا على عبد الله اليازوري، الراوي البالغ من العمر 13 سنة، والذي ارتكب، في نظر آلة الدعاية الإسرائيلية، ثلاث جرائم كبرى: أولها وأهمها أنه لا يزال على قيد الحياة، في حين أن أكثر من 14500 طفل ليسوا كذلك.
وتتمثل جريمته الثانية في إتقانه للغة الإنجليزية، مما يجعله مؤثرًا لدى الجمهور الغربي. فهذا امتياز يحتكره مؤيدو إسرائيل، ويُدافع عنه بشدة.
أما جريمة عبد الله الثالثة، فهي كونه موضوعيًا وغير سياسي. فهو من ينقل بيانات الجيش الإسرائيلي بعد كل مجزرة يرتكبها جنوده بحق المدنيين.
السطر الوحيد الذي كتبه عبد الله في افتتاحيته يصعب على أي شخص خارج غزة أن يختلف معه: “هل تساءلت يومًا ماذا ستفعل لو دُمر عالمك؟”
جاء الخلاص، ونهاية الكابوس المتمثل في ظهور أصوات فلسطينية موثوقة من غزة على شاشة بي بي سي الرئيسية، مع ورود معلومة تفيد بأن والد عبد الله كان نائب وزير الزراعة في الحكومة التي تديرها حماس؛ فانهارت بي بي سي كبيت من ورق.
إن والد الصبي، أيمن اليازوري، هو تكنوقراط، لكنه وُصف على نطاق واسع بأنه “قيادي في حماس” “ومسؤول في حماس” و”زعيم إرهابي” من قبل معلقين ومؤسسات إخبارية في بريطانيا.
لكن كما كشفت ميدل إيست آي الشهر الماضي، فإن اليازوري ذو خلفية علمية وليست سياسية. فقد عمل سابقًا في وزارة التربية والتعليم الإماراتية، التي لا تُعرف بتوظيف أو دعم أي شخص مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين، وحصل على درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات البريطانية.
إذا تشكلت أي حكومة في غزة بعد هذه الحرب، فسيكون التكنوقراطيون مثل اليازوري هم من يديرونها.
بالنسبة للجيش الإسرائيلي، أي شخص يعمل في غزة – سواء كان تكنوقراطيًا أو أستاذًا جامعيًا أو طبيبًا أو صحفيًا أو موزع مساعدات – يعد هدفًا. فقد تعمد جنوده قتل هؤلاء المهنيين، وهناك كم هائل من الأدلة التي تثبت ذلك.
ولكن بالنسبة للمجتمع الدولي، بما في ذلك بريطانيا، فإن التكنوقراطيين مثل اليازوري هم الحل الوحيد لحكم غزة بعد الحرب. ولا يفترض أن تستند “بي بي سي” أو القناة الرابعة، إذا كانتا ملتزمتين بمواثيقهما العامة، أن تبنيا أحكامهما التحريرية على الدعاية والأخبار الزائفة الصادرة عن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
ادعاءٌ سخيف
لا تتبنى أي من القناتين وجهة النظر القائلة بأن جميع الفلسطينيين في غزة مذنبون ويجب إبادتهم، وهو رأي أصبح شائعًا في إسرائيل. وينبغي أن تكون كلتا المؤسستين قادرتين على التمييز بين موظف حكومي وعضو في حماس، أو حتى عضو في جناحها المسلح “كتائب القسام” التي تصنف كمنظمة إرهابية في المملكة المتحدة ودول أخرى.
وقد أجرت القناة الرابعة أيضًا مقابلة مع عبد الله.
وأشارت القناة في بيان لها هذا الشهر إلى أن “فريق التقارير الخارجية المتمرس في القناة الرابعة الإخبارية علم بأن والده شغل منصبًا تكنوقراطيًا في حكومة حماس في صيف سنة 2024، واتخذوا قرارًا بعدم عرضه مرة أخرى”.
“بمجرد أن أصبحت القيادة العليا في القناة الرابعة الإخبارية على دراية بالأمر مؤخرًا، تم اتخاذ إجراء لإضافة سياق إضافي إلى النسخة المؤرشفة عبر الإنترنت من التقارير التي يظهر فيها عبد الله”.
وهذا أيضًا يُظهر عبد الله ووالده كما لو كانا مصدر إزعاج، لكن أياً منهما لم يرتكب أي خطأ.
كما أنه لا يوجد أي دليل على أن حركة حماس قد صبغت أو أثرت على الفيلم الوثائقي الذي بثته هيئة الإذاعة البريطانية. ولو كان لحماس أي علاقة به، لما ظهر فيه بالتأكيد من يقول: ‘لقد قتلوا أطفالنا، قتلوا نساءنا، بينما [السنوار] يختبئ تحت الأرض”.
ولا نعرف آراء الأب حول حماس، لكن لنفترض أنه يؤيد أهدافها. فهل يعني ذلك تلقائيًا استبعاد ابنه من الظهور في فيلم وثائقي يهدف إلى تمثيل الرواية الفلسطينية، لا سيما في ظل التعبير المتكرر والكامل عن الرواية الإسرائيلية بشكل يومي؟
ومن المعروف في المجتمع الفلسطيني أن الأطفال لا يتبعون تلقائيًا المعتقدات السياسية لوالديهم. فمن الشائع أن يكون الأبناء تابعين لحركة فتح بينما يكون الآباء في حماس”.
إن شقيق القيادي في حركة فتح جبريل رجوب، نائف رجوب، شخصية بارزة في حركة حماس. أما نجل القيادي البارز في حماس حسن يوسف، مصعب يوسف، فقد احتفى به الإسرائيليون لانشقاقه عن الحركة، ويتم الاستشهاد بأقواله بشكل متكرر.
إن الادعاء بأن الابن متأثر بعمل والده هو أمر عبثي.
معايير مختلفة
وتلتزم كل من “بي بي سي” والقناة الرابعة بالمعايير العامة المتمثلة في التحلي بالحياد في جميع محتوياتهما التحريرية، مما يستلزم تطبيق المعايير التحريرية نفسها على الإسرائيليين والفلسطينيين؛ لكن من الواضح أنهما لا تفعلان ذلك.
وفي الذكرى الأولى لهجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، عرضت “بي بي سي” وثائقيًا عن شهادات الناجين من مهرجان نوفا الموسيقي، وكان الفيلم بعنوان “سنرقص مرة أخرى” ومشاهدته كانت مؤلمة.
لكن لم يجرؤ أحد على الطعن في مصداقية الشهادات التي قدموها بالإشارة إلى ما فعله أفراد عائلاتهم وآباؤهم. ولم يُسأل أي من الشهود الذكور الذين كانوا في سن التجنيد عن أدوارهم كجنود.
وبدلًا من ذلك؛ قيل: “حوالي 3,500 شخص حضروا مهرجان نوفا الموسيقي. وقُتل 364 منهم ، وأُخذ 44 آخرون كرهائن”.
إن كلمة “قُتلوا” مبررة تمامًا لوصف ما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول للمدنيين العزل الذين كانوا يحضرون مهرجانًا موسيقيًا، لكن الوثائقي عن غزة يكتفي بالقول إن أكثر من 46,800 فلسطيني “لقوا حتفهم”.
لقد طُبقت معايير مختلفة تمامًا، ليس أقلها أن وثائقي “غزة: كيف تنجو من منطقة حرب” لم يستمر في البث سوى أربعة أيام قبل سحبه.
لنكن واضحين بشأن ما يحدث هنا؛ إن مواصلة إسرائيل لحرب تشمل بانتظام وبشكل علني وصريح جرائم حرب – مثل منع المساعدات والكهرباء والمياه عن غزة للضغط على حماس لإطلاق سراح جميع الرهائن – لم تكن لتتم لولا صمت وسائل الإعلام الرئيسية.
إنها تشتري هذا الصمت من خلال استمالة وتوجيه أعداد كبيرة من العاملين في التحرير على مدى عقود، على أمل أن يصل بعضهم إلى مناصب رئيسية في هيئة التحرير، كما تتبع الأسلوب ذاته مع جميع النجوم السياسيين الصاعدين في الأحزاب السياسية الكبرى، وترهبهم أيضًا كلما نجح الصوت الفلسطيني في كسر حاجز التعتيم المفروض عليه.
وفي الحالات النادرة التي يحدث فيها ذلك، يكون الصوت الفلسطيني بليغًا ومتزنًا وصادقًا كأي شعب آخر مضطهد عبر التاريخ.
“ليس لدينا أرض أخرى”
لقد قمتُ بالتغطية من مسافر يطا، وهي مجموعة من القرى الصغيرة في تلال جنوب الخليل بالضفة الغربية المحتلة، والتي أعلنها الجيش الإسرائيلي منطقة إطلاق نار، كما فعلت مع العديد من المناطق الأخرى، عندما فشلت قصة التهجير المستمر للفلسطينيين في جذب الاهتمام العالمي.
ففي مسافر يطا، يُجبر القرويون على العيش في الكهوف بينما تُهدم منازلهم بالجرافات.
استغرق الأمر فيلمًا وثائقيًا مثل “لا أرض أخرى“، الذي شارك في إنتاجه المخرج الفلسطيني باسل عدرا والصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام، لجذب الانتباه إلى هذه القرية. وقد حاز فيلمهما على جائزة في مهرجان برلين السينمائي ثم فاز لاحقًا بجائزة الأوسكار.

إن هذا التوثيق للإصرار الهادئ والسلمي لنحو 1000 فلسطيني، نصفهم أطفال، في ثماني قرى للبقاء على أرضهم، استغرق سنوات ليظهر إلى العلن؛ حيث بدأ التصوير في سنة 2019.
ويواجه النساء الجنود، وكان التلاميذ في صفوفهم عندما هاجمت جرافة جانب كوخهم، مما أجبرهم على القفز عبر النوافذ للهرب.
سألت امرأة فلسطينية جنديًا إن كان يشعر بالخجل لهدم منزلها، فيرد: “هذه هي القوانين. لماذا يجب أن أشعر بالخجل؟”.
ويسأل أحدهم قروية أخرى لماذا لا تغادر، فتجيب: “ليس لدينا أرض أخرى”.
لقد تم تصوير الفيلم قبل هجوم حماس في أكتوبر/ تشرين 2023، وكل أعمال العنف التي يعرضها ارتكبتها إسرائيل. ولا يملك الفلسطينيون في تلال جنوب الخليل سوى الكلمات وحقهم الأخلاقي في البقاء على أرضهم لمواجهة التوسع المستمر للسلطات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة.
فشل الدعاية
ما تفعله إسرائيل مخالف للقوانين الدولية.
ومع ذلك، عندما فاز هذا الفيلم بإحدى الجوائز الكبرى في مهرجان برلين السينمائي، أثار عاصفة سياسية كبيرة في ألمانيا.
وبررت وزيرة الدولة للثقافة في ألمانيا، كلاوديا روت، للثنائي الذي تسلّم الجائزة بأنها كانت تصفق فقط للإسرائيلي وليس للفلسطيني، وقد تحول اعترافها العنصري إلى كارثة علاقات عامة.
واختتم أبراهام كلمته عند تسلمه الجائزة بدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، ولحل سياسي لإنهاء الاحتلال، ولا شيء أكثر من ذلك.
ووصف عمدة برلين، كاي فيغنر، الخطابات في حفل ختام مهرجان برلين السينمائي بأنها “نسبية بشكل لا يطاق”، وكتب على منصة “إكس”: “تتحمل حماس المسؤولية الكاملة عن المعاناة العميقة في إسرائيل وقطاع غزة”.
ودعا ممثل عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى استقالة روث، في حين اقترح سياسي من الحزب الديمقراطي الحر وقف تمويل المهرجان السينمائي.
وانتقد المنسق الإيطالي للمهرجان، كارلو شاتريان، المؤسسة السياسية الألمانية ل”تسيس” الخطاب المعادي للسامية من أجل المكاسب السياسية. وقد واجه مهرجان برلين هذه السنة دعوات واسعة للمقاطعة بسبب صمته حيال غزة وتعامله مع ردود الفعل العنيفة ضد فيلم “لا أرض أخرى”.
الخبر السار هو أن دعاية إسرائيل لا تُجدي نفعًا. فالرأي العام في جميع الدول الغربية التي تمارس وسائل إعلامها ومهرجاناتها هذه الرقابة يتحول بسرعة ضد إسرائيل ويميل لصالح الفلسطينيين.
ويعتبر هذا الاتجاه هو الأكثر حدة في الولايات المتحدة، حيث يعرب 59 بالمائة من الديمقراطيين عن تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني – بزيادة قدرها 16 نقطة في السنة الماضية – بينما يعرب 21 بالمائة فقط عن تعاطفهم مع إسرائيل، بانخفاض قدره 14 نقطة. وعلى مستوى الولايات المتحدة ككل، ارتفعت نسبة الأمريكيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين بواقع 6 نقاط من السنة الماضية لتصل إلى 33 بالمائة، بينما دعم إسرائيل وصل إلى أدنى مستوى له منذ 24 سنة، وقال 46 بالمائة فقط من الأمريكيين الذين تم استطلاع آرائهم إنهم يتعاطفون مع إسرائيل.
وهذا التحول في الدعم العام غير مسبوق في جميع عقود هذا الصراع، فلا عجب أن إسرائيل وجيش مؤيديها يشعرون بحالة من الذعر؛ فهم على الجانب الخطأ من التاريخ.
وعندما ينتهي هذا الصراع أخيرًا ويحصل الفلسطينيون على الدولة التي يستحقونها بجدارة، سيتم النظر إلى هذه الفترة باعتبارها أسوأ ساعات إسرائيل، ووسائل الإعلام الليبرالية الغربية.
أين كنتَ، وماذا فعلتَ عندما كانت غزة والضفة الغربية المحتلة تُسحقان حتى تتحولان إلى غبار؟ سيسأل جيل المستقبل آباءه، وستكون الإجابة مثيرة للاهتمام.
المصدر: ميدل إيست آي