شهد الساحل السوري نهاية الأسبوع الأول من مارس/آذار محاولة يائسة من فلول النظام البائد لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، حيث نفذت العصابات الخارجة عن القانون هجمات استهدفت عددًا كبيرًا من النقاط الأمنية في مدن الساحل السوري ذات الطبيعة الطائفية المختلطة، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى من قوات الأمن العام والمدنيين، كما حاصرت الفلول المؤسسات المدنية والطبية وأسرت عددًا من أفراد الأمن وُجدوا قتلى في مقابر جماعية بعد أيام من الأحداث الدامية، وأعاد هذا إلى الأذهان أساليب النظام البائد الوحشية.
ومع تكشف تفاصيل الأحداث، برزت عدة تحديات تواجه الدولة الجديدة، ليس فقط على المستوى الأمني، ولكن أيضًا على مستوى السردية الإعلامية التي يحاول البعض فرضها بتوجه معين محليًا ودوليًا.
كيف بدأت المواجهات؟ وكيف استغلت الفلول ضعف الوجود العسكري
في يوم الخميس 6 آذار/مارس، شنت مجموعات مسلحة تابعة للنظام السابق هجمات منسقة استهدفت مدن اللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة وأريافها في الساحل السوري. ونجحت في نشر قواتها في نقاط حيوية داخلها، مستفيدة من ضعف الوجود العسكري للدولة الجديدة في هذه المناطق. وبحسب ما ذكر الإعلامي موسى العمر فإن الوجود العسكري للدولة الجديدة كان غائبًا عن المناطق ذات الحضور العلوي المرتفع وذلك بطلب من وجهاء وشيوخ الطائفة، واقتصر الأمر على وجود حوالي 500 عنصر من القوات الأمنية لحماية المنطقة، وكان لهذا أثر سلبي تسبب في سهولة استهدافهم من الفلول.
وبحسب ما تكشّف لاحقًا من معلومات، فإن هذه الهجمات كانت ضمن مخطط أوسع يهدف لتقويض سلطة دمشق والسيطرة على الساحل، أو على الأقل إحداث فوضى أمنية وتوترات طائفية تضعف من موقف الدولة الوليدة، مما يفسح المجال أمام مزيد من التدخلات الخارجية، سواء عبر الضغوط السياسية أو الترويج لإعادة هيكلة السلطة الجديدة تحت ذرائع مختلفة.
لكن بعد ساعات قليلة من هذه الهجمات، تغيرت المعادلة بالكامل، وتوجه آلاف المقاتلين من جميع أنحاء سوريا إلى المنطقة الساحلية مع إعلان “النفير العام” وذلك في تحرك شعبي عفوي غير منظم، خاصة وأن ترتيبات اندماج الفصائل في وزارة الدفاع لم يُستكمل بعد.
وقال الباحث والمحلل السياسي معتز ناصر إن تقديرات الأعداد التي توجهت للساحل مع إعلان النفير العام بلغت ما بين 50- 70 ألف مقاتل من جميع أنحاء سوريا. ولم يكن تدخل هذه القوات منظمًا أو منسقًا مع وزارة الدفاع بل كان هبة شعبية ثورية بعدما شعر السوريون بتهديد لمكتسباتهم، وبالتالي فإن وجود عشرات الحالات من الانتهاكات هو أمر متوقع نظرًا للأعداد الغفيرة القادمة وحالة الفوضى والعشوائية التي سادت تلك الساعات، بالإضافة لسجل هائل من الانتهاكات التي شارك فيها جنود وعناصر امن وشبيحة من سكان جبال الساحل على مدى عمر الثورة.
حيث أظهرت مقاطع فيديو ضحايا من المدنيين أو فلول النظام الأسرى أو غير المسلحين في القرى والأحياء العلوية، قِيل أنهم قُتلوا على يد المقاتلين الذي زحفوا إلى الساحل لمحاربة عصابات النظام البائد. ومع ذلك، فإن محاولات تصوير ما جرى على أنه حملة طائفية منظمة من قبل جيش الدولة الجديدة أو أنه صراع طائفي وحملات انتقام جماعية يبدو أنه تحريف متعمد للواقع.
ومن المهم هنا النظر في الأشهر الثلاثة التي تبعت سقوط النظام، إذ اتسمت بدرجة عالية من الانضباط والبعد عن الممارسات الطائفية، سواء من عموم الشعب السوري أو من إدارة السلطة الجديدة. وذلك رغم استياء الناس من انتشار عمليات التسوية لعناصر من النظام البائد وعدم وضوح خريطة العدالة الانتقالية ومحاولة البعض إنكار 14 عامًا من المجازر الطائفية.
إنصاف الضحايا وحماية سردية الثورة
فور ظهور مقاطع الفيديو التي توثق قتل أسرى عُزّل من عناصر النظام اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت شبه مغيبة أثناء “المحاولة الانقلابية” رغم سقوط عشرات الشهداء من القوات الأمنية غدرًا واستمرار وقوع آخرين تحت الحصار من قبل الفلول.
وقالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تصريح لها يوم 11 آذار/مارس، عبر تغريدة لرئيسها فضل عبد الغني، إن الشبكة وثقت مقتل 803 شخصًا في الفترة بين 6 – 10 آذار/مارس 2025، حيث قتلت بقايا نظام الأسد (المجموعات المسلحة العاملة خارج سلطة الدولة) ما لا يقل عن 383 شخصًا (172 عنصرًا من قوات الأمن العام. 211 مدنيًا)، بينما قُتل ما لا يقل عن 420 شخصًا، بينهم مدنيون وعناصر غير مسلحين من بقايا نظام الأسد على يد القوات المسلحة المشاركة في العمليات العسكرية ضد بقايا نظام الأسد، والتي تضم فصائل عسكرية وسكان محليين مسلحين (سوريين وأجانب) وعناصر من قوات الأمن العام.
ورغم أن فلول الأسد مسؤولة عن نصف الانتهاكات على الأقل، إلا أن عناوين الأخبار ومنشورات التواصل الاجتماعي وبعض البيانات الدولية ركزت بشكل كبير على ذكر الضحايا من المدنيين من الطائفة العلوية، وأرادت تصوير الأمر على أنها مجازر طائفية من طرف واحد. ولم تكن الحاضنة الثورية نفسها قادرة على وضع الأمور في نصابها الصحيح، إذ غابت عن صفحات كثير من السوريين الرواية الكاملة للأحداث وانزلقت لتكون جزءًا من الفوضى الإعلامية بدافع حرصها على تجنب الدخول في دوامة العنف الطائفي والرغبة في إرساء السلم الأهلي والحفاظ على قيم الثورة السورية بما يتعلق بوحدة الشعب السوري أو لأسباب أخرى لها علاقة بتشكيكهم المستمر بالسلطة الجديدة.
بالمقابل ارتفعت أصوات وسط هذه الفوضى تنادي بضرورة الاعتراف بدور وتضحيات عناصر الأمن العام الذين سقطوا دفاعًا عن البلاد، وعدم السماح لأي طرف بتشويه صورتهم أو إنكار تضحياتهم. وشدد الصحفي قتيبة ياسين، في فيديو نشره على صفحته، على ضرورة إقامة جنازات رسمية مهيبة تليق بهؤلاء الشهداء، مع تغطية إعلامية دولية تضع الأمور في نصابها الصحيح.
إن التعامل مع هذه المسألة لا يقتصر فقط على إقامة مراسم تشييع، بل يتعدى ذلك إلى ضرورة مواجهة الحرب الإعلامية التي تحاول تصوير ما جرى وكأنه انتقام طائفي واسع.
إن التوثيق الصحيح للأحداث مهم لحفظ ذاكرة وسردية الثورة السورية، وما يجب التركيز عليه بخصوص أحداث آذار/مارس 2025 هو نجاح الشعب في إفشال مخطط انقلابي كاد أن يودي بالبلاد في أتون حرب أهلية طائفية لا تبقي ولا تذر، وأن يُحاسب كل مرتكبي الانتهاكات بحق الأبرياء وتقام العدالة وينصف الضحايا، سواء كانوا سنة أو علويين، دون أن تأخذ الانتهاكات -وهي جسيمة ومروعة بلا أدنى شك- أبعادًا أكبر تخلق مزيدًا من ردات الفعل والتشنجات.
الأحقاد الأيديولوجية تكاد تكون أيضاً تجييشاً طائفياً. إذ لا يمكن أن تكون انتقائياً في أخلاقياتك وحياديتك مدعياً الخوف على ضياع استحقاق “المواطنة” ومجرّماً القتل على الهوية بالساحل السوري في الوقت الذي تصف فيه المختلف معك أيديولوجياً بوصمات أيديولوجية عامة.
القتل على الهوية…
— ليلى الرفاعي (@loaila_) March 9, 2025
نحن أمام حرب سرديات تهدف إلى التأثير على المشهد السوري في المستقبل، ويمكن النظر إلى التجربة التركية مع قضية الأرمن وأخذها نموذجًا لما قد تواجهه سوريا، حيث تستمر القوى الغربية في محاولة فرض سردية معينة عن التاريخ التركي، تمامًا كما تحاول بعض الجهات تقديم أحداث الساحل السوري على أنها حرب طائفية من طرف واحد.
فعلى الرغم من مرور أكثر من مئة عام، لا تزال تركيا تواجه تحديات مرتبطة بالسردية التي يتم الترويج لها عالميًا حول قضية الأرمن. إذ تصرّ القوى الغربية على تصنيف ما جرى بين عامي 1915-1917 كإبادة جماعية، بينما تؤكد الرواية التركية أن الأحداث كانت جزءًا من حرب أهلية تسببت في سقوط قتلى من الجانبين، وليس إبادة ممنهجة لجماعة عرقية واحدة. وتطالب أنقرة بإجراء مراجعة مشتركة للوثائق والتاريخ، وتقول إنها منفتحة لنتائجه.
الإعلام والتلاعب بالسرديات
يدرك العاملون في الصحافة أن اختيار الكلمات وصياغة الأخبار يمكن أن يشكل سرديات مختلفة لنفس الحدث، حيث يمكن إعادة تقديم الوقائع بأساليب متعددة تتماشى مع أجندات وتوجهات مختلفة، يتجلى هذا الأمر بوضوح في تغطية وسائل الإعلام الغربية للحرب الإسرائيلية على غزة، ففيما تأنسن قصص القتلى الإسرائيلين وتحكى قصصهم مع عائلاتهم وتشيطن المقاومة، يُسلط الضوء على الأوضاع الإنسانية “الصعبة” لسكان القطاع، مع إغفال متعمد لدور “إسرائيل” في فرض الحصار وارتكاب المجازر.. ويُذكر الضحايا الفلسطينيون كأرقام.
وهكذا، فقد شهدت الأيام الماضية تحركات إعلامية مشابهة، حيث عاد اسم “الجولاني” للظهور على نطاق واسع في منصات التواصل الاجتماعي، في محاولة واضحة لإعادة التذكير بخلفيات الرئيس السوري أحمد الشرع “الجهادية” وربطها بالأحداث الجارية. تأتي هذه المحاولات رغم أن الدولة الجديدة منذ لحظة تأسيسها، التزمت بسياسات واضحة تسعى إلى تجاوز مرحلة نظام الأسد، بكل ما حملته من ممارسات قمعية وجرائم سياسية.
وكشف تحقيق أجراه موقع “عربي بوست” عن حملة إعلامية منسقة عبر منصة إكس، تهدف إلى تأجيج التوترات الداخلية في سوريا عبر نشر محتوى مضلل يبرر التدخلات الخارجية تحت ذريعة حماية الأقليات. وأظهر التقرير، الذي استند إلى تحليل قرابة 20 ألف تغريدة، وجود شبكة واسعة من الحسابات التي تعمل بأسلوب منظم لإيصال رسائل مضللة إلى جمهور واسع. تتنوع هذه الحسابات بين مجهولة الهوية تدّعي انتماءات عرقية وطائفية مختلفة، وبين حسابات مرتبطة بأنصار النظام السابق، تعمل على نشر معلومات كاذبة تهدف إلى إثارة الفوضى وتعزيز الانقسامات الداخلية.
علاوة على ذلك، استغل القائمون على هذه الحملة هاشتاغات محددة، مثل مزاعم “إبادة الأقليات” والدعوات إلى تقسيم سوريا وطلب الحماية الأجنبية، في محاولة لإثارة المخاوف والتشكيك في شرعية الإدارة الجديدة التي تأسست عقب سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024. وبحسب التحليل البصري المرفق بالتقرير، فإن نمط النشاط الرقمي لهذه الحسابات يعكس مستوى عال من التنسيق، حيث يتم تضخيم تغريدات معينة وإعادة نشرها بشكل مكثف، ما يعطي انطباعًا زائفًا بوجود دعم شعبي واسع لأفكار محددة.
كما كشف التقرير عن الدور المتزايد للحسابات الوهمية والآلية (Bots) في نشر هذه الروايات، وتوجيه النقاش العام بطريقة تخدم أهداف الحملة الإعلامية. وفي نهايته، شدد التقرير على ضرورة التعامل بحذر مع مثل هذه الحملات المنظمة، والعمل على كشف الأخبار الملفقة ومواجهة محاولات تضليل الرأي العام.
الشرطة العسكرية في وزارة الدفاع تلقي القبض على شخصين، بعد انتشار فيديو مصور لهما أثناء قيامهما بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين بشكل غير قانوني ودموي بإحدى قرى الساحل، وتم تحويلهما للقضاء العسكري المختص لينالا جزاءهما.#الساحل_السوري #سانا pic.twitter.com/CqJdCzGCqz
— الوكالة العربية السورية للأنباء – سانا (@SanaAjel) March 10, 2025
إن الدفع باتجاه بناء دولة عدالة وقانون بعيدًا عن التصرفات الانتقامية، لا يكون باختراع “مظلومية علوية”، في الوقت الذي أظهر فيه الشعب السوري عمومًا والحاضنة الثورية تحديدًا رفضهم لأي اعتداءات ذات بعد طائفي أو أي عمليات انتقامية. وأيضًا في ظل الرغبة الجادة لدى السلطات الجديدة ببناء مرحلة جديدة من السلم الأهلي وتحقيق العدالة بين أفراد الشعب. والتي ظهرت في الإجراءات الحكومية السريعة والبدء باعتقال المتورطين الذين ارتكبوا انتهاكات أو تباهوا بممارسة جرائمهم.
لا تشكل القوات الأمنية والقوى العسكرية رمزًا للدولة الجديدة فحسب، بل هي رمز من رموز الثورة التي أسقطت النظام البائد أخيرًا بعد 14 عامًا، وبقوة السلاح. وإن محاولات التشكيك بها ووضعها موضوع الاتهام هو تقويض لعملية بناء الدولة من جديد.