سمير، شاب تونسي يبلغ من العمر 35 سنة، بدأ العمل منذ 8 سنوات، مؤخرًا أصبح يفكر جديًا في الزواج بعد أن جمع قليلاً من المال وبدأ التحضيرات، فقرر أن تكون البداية بتوفير منزل يؤويه هو وزوجته المستقبلية، تعرف على الأسعار فوجدها خيالية ولا حل أمامه إلا التوجه للبنك للحصول على قرض لإتمام إجراءات شراء أحد المنازل، لكن الأمر لم يكن كما توقعه، فالبنك رفض إعطاءه القرض المطلوب بعد مماطلة كبيرة.
حكاية سمير، تعكس قصص الآلاف من التونسيين شبانًا وكهولًا من ذوي الدخل المتوسط مع السكن الذي أصبح بمثابة الحلم المستحيل في تونس، فالأسعار مرتفعة رغم توافر العرض والبنوك موصدة الأبواب إلا لأصحاب الوساطة والحلول الحكومية ضعيفة أو تكاد تكون منعدمة.
أسعار مرتفعة
قبل بدء عملية البحث عن منزل لشرائه، كان سمير يسمع من أصدقائه وزملائه في العمل أن الأسعار باهظة، كان يشكك في الأمر في البداية، فالمنازل الشاغرة موجودة بكثرة والطلب ضعيف، وعملاً بمبدأ الطلب والعرض، فالأسعار ستكون منخفضة ومقبولة، لكنه اكتشف مع بداية الرحلة أن الأسعار لم تكن باهظة فقط بل خيالية أيضًا.
وعرفت أسعار العقارات في البلاد في السنوات الأخيرة ارتفاعًا جنونيًا، ففي الثلاثي الثاني لهذه السنة ارتفعت الأسعار بنسبة تفوق 5% مقارنة بالثلاثي الأول من نفس السنة وفق المعهد التونسي للإحصاء (مؤسسة حكومية تعنى بالإحصاء)، أما بحساب الانزلاق السنوي، فقد سجل المؤشر العام لأسعار العقارات خلال الثلاثي الثاني من سنة 2019، ارتفاعًا بنسبة 10% وذلك مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية.
بدورها، سجلت أسعار الشقق ارتفاعًا خلال الثلاثي الثاني من هذه السنة بنسبة 13.5% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية، مقابل ارتفاع بنسبة 11% لأسعار المنازل، وارتفاع بنسبة 8.2% لأسعار الأراضي مقارنة بنفس الفترة من سنة 2018.
وفق قانون المصارف التونسية، يلتزم الراغب في الحصول على قرض مصرفي أن يحول راتبه الشهري لدى البنك إلى حين انتهاء الأقساط
تختلف أصناف الشقق والمنازل حسب مساحتها وعدد غرفها وموقعها ودرجة رفاهيتها، ويصل متوسط سعر الشقة في مناطق متاخمة للعاصمة تونس إلى 280 ألف دينار (نحو مئة ألف دولار)، ويصل ببعض الأحياء الراقية إلى خمسمئة ألف دينار (180 ألف دولار)، وتصل أيضًا إلى أكثر من هذا السعر.
أما عن ثمن الأراضي المعدة للبناء، فقد تضاعف نحو 20 مرة في الأحياء الراقية منذ عام 2011، فسعر المتر المربع الواحد في منطقة البحيرة (شمال العاصمة) – وهي إحدى أكثر المناطق الراقية في البلاد – يبلغ نحو 14 ألف دينار (أكثر من 4.9 ألف دولار)، أما في الأحياء الشعبية من العاصمة فيبلغ متوسط المتر المربع الواحد 600 دينار (213 دولارًا).
شروط تعجيزية للقروض
هذه الأسعار حتمت على سمير صاحب الدخل المتوسط أن يتوجه إلى البنك للتعرف على شروط الحصول على قرض لشراء شقة، فذلك أحسن من أن يؤجر منزلاً يتزوج به، فمعدل تأجير شقة في الأحياء الشعبية يبلغ 700 دينار للشهر الواحد (250 دولارًا).
توجه سمير إلى البنك الذي يتعامل معه منذ سنوات، سأل عن كيفية الحصول على قرض لشراء شقة يبلغ ثمنها 200 ألف دينار (70 ألف دولار)، فقال له مباشرة: “أسف لا يمكن لك الحصول على قرض بهذا السعر، وحدود القرض الذي يمكن لك الحصول عليه لا تتجاوز 80 ألف دينار (28.5 ألف دولار).
يصعب الحصول على قرض سكني في تونس
قبل سمير بالأمر الواقع، وبحث عن بيت قديم في حي شعبي بعيد عن العاصمة بهذا الثمن، وجد ضالته بعد عناء طويل، رجع إلى البنك مرة ثانية قصد الحصول على مبتغاه، لكن كلمة “أسف” سبقت كل شيء، فالقروض معطلة الآن.
ووفق قانون المصارف التونسية، يلتزم الراغب في الحصول على قرض مصرفي أن يحول راتبه الشهري لدى البنك إلى حين انتهاء الأقساط، مع توفير مختلف الضمانات التي تمكن المصرف من متابعته قانونيًا في حالة التأخر في السداد، تصل إلى حد مصادرة المسكن الممول الذي يظل تحت تصرف البنك إلى سداد آخر قسط.
هذه القروض البنكية تكون بفوائد مرتفعة تتجاوز 8%، وقد بلغ حجم القروض التي أُسندت لبناء أو شراء مساكن قرابة 15% من حجم القروض الإجمالية، وفق بيانات رسمية لمعهد الإحصاء الحكومي، زيادة على 5% من القروض الممنوحة للمطورين العقاريين، و2% من القروض الممنوحة لشركات البناء، ما يجعل الحجم الإجمالي للقروض المخصصة للسكن في حدود 22%.
لم يكن قطاع العقارات وحده من عرف ارتفاعًا في الأسعار في تونس، فكل القطاعات شهدت زيادات جنونية
حتى برنامج “المسكن الأول” الذي أُطلقته الحكومة التونسية في فبراير/شباط 2017، ليفتح آفاقًا جديدة لفائدة العائلات حتى تتمكن من امتلاك مسكن، لم يكن كما توقعه التونسيون، فشروطه أيضًا صعبة.
وقد تم إقرار هذا البرنامج لتمكين العائلات التونسية التي تتوافر فيها شروط المسكن الأول من الحصول على عقار وأهمها أن يتراوح دخلها العائلي بين 4.5 و10 مرات الأجر الأدنى المهني المضمون على أن يكون أحد الشريكين أجيرًا في القطاع العام أو الخاص وأن لا يمتلك الزوجان مسكنًا آخر، وأن لا يتجاوز ثمن المسكن مبلغ 200 ألف دينار (أي نحو 70 ألف دولار) والمتكون على الأقل من غرفتين وقاعة استقبال.
كثرة العرض لم تشفع
هذا الغلاء المشط في أسعار الشقق والمساكن والشروط التعجيزية للحصول على القروض، ليس مرده ارتفاع الإقبال وضعف العرض، فالإقبال ضعيف والعرض كثير والقطاع في ركود متواصل منذ سنوات عدة، فحسب التقرير الأخير الصادر عن وزارة التجهيز والإسكان فإن 20% من التونسيين غير قادرين على امتلاك مسكن، في حين أن هناك نحو 500 ألف مسكن شاغر، ولم ينجح أصحابها في بيعها، نظرًا لغلاء أسعارها.
أكثر من 500 مسكن شاغر في تونس
شهدت المبادلات العقارية تراجعًا خلال الثلاثية الثانية من سنة 2019 بنسبة 10.3% وذلك مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية مقابل انخفاض بنسبة 9.7% خلال الثلاثي الأول من نفس السنة، ويعود هذا التراجع، حسب المعهد الوطني للإحصاء، إلى تقلص حجم مبادلات الأراضي بنسبة 11.3% وتقلص حجم مبادلات المنازل بنسبة 9% وتقلص حجم مبادلات الشقق بنسبة 6.1%، وذلك مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية.
وفقًا للأرقام الصادرة عن غرفة الباعثين العقاريين بلغ عدد الشقق التي بيعت خلال الربع الأول من 2016 نحو 400 شقة لتنخفض هذه المبيعات نحو 70 شقة خلال نفس الفترة من العام التالي ولتبلغ خلال الربع الأول من العام الماضي 24 شقة فقط.
لم يكن قطاع العقارات وحده من عرف ارتفاعًا في الأسعار بتونس، فكل القطاعات شهدت زيادات جنونية، ما جعل المواطن التونسي من ذوي الدخل المتوسط والضعيف في حيرة من أمره، ويعكس هذا الأمر الوضع الاقتصادي الصعب للبلاد.