بين نشوته بانتصار سياسي لم يكن متوقعًا وخشيته من هزيمة برلمانية قد تكون مقبلة، يقف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وما من أحد يعرف على وجه الدقة كم ابتعد الرجل عن الخيار الذي وصفه ذات مرة بأنه “أصعب عليه من الموت داخل حفرة”، في إشارة إلى احتمال اضطراره لطلب تمديد مهلة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي (بريكست) إلى نهاية شهر يناير/كانون الثاني العام المقبل.
في هذه الأثناء، يستعد البرلمان البريطاني المنقسم بشدة للبت في اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي تم مراجعته بين جونسون والاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أن يكون التصويت في مجلس العموم المكون من 650 مقعدًا متقاربًا للغاية، ويأتي قبل أقل من أسبوعين من موعد مغادرة المملكة المتحدة للكتلة الأوروبية في 31 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ.
في حالة فوزه، سيكون جونسون قد أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما تعهد مرارًا وتكرارًا بالقيام به منذ توليه منصبه في يوليو/تموز الماضي، ومع ذلك، إذا خسر، فإن الدراما السياسية التي دامت سنوات في المملكة المتحدة بسبب قرارها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016، ستعود مرة أخرى إلى أقصى درجة.
منذ البداية، اصطدم قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي بسؤال شائك عن سبل إقامة حدود جمركية تفصل أيرلندا الشمالية عن جمهورية أيرلندا
اتفاق جديد يواجه المعارضة
جاء جونسون إلى الحكم أصلاً وتحت إبطه خطة تقضي بإنجاز إجراءات الطلاق البريطاني الأوروبي في نهاية شهر أكتوبر/تشرين أول الحاليّ، وإلا فلا مفر من الهجر دونما اتفاق أيًا تكن العواقب والتحديات، غير أن تجربة الأسابيع القليلة التي مرت على وجوده في “10 داوننغ ستريت” كانت كافية ليختبر بنفسه وعلى حساب مكانته حواجز تشريعية وقضائية ظل يكبو بل يُهزم كلما حاول اجتيازها حتى أدَّت في الأخير إلى تكبيل قدميه عن المضي خطوة واحدة نحو ما أراد.
وإذ أمكن التوصل إلى الاتفاق المفاجئ بين لندن وبروكسل قبل أسبوعين من الموعد الذي يترقبه البريطانيون بهلع، وكادت الأسواق الأوروبية كلها تتهاوى عند عتبته، فإن غموض التفاصيل لا سيما فيما يتعلق بعقدة أيرلندا الشمالية أضفى حذرًا شديدًا على تفاؤل المتفائلين ببلوغ القصة المسماة اختصارًا “بريكست” نهايتها السعيدة أو المُرضية للطرفين بمشاعر شعوبهما وطموحات دولهما وحساباتهما السياسية والاقتصادية.
والمعروف أن أيرلندا الشمالية التي تبلغ مساحتها 14 ألف كيلومتر تقريبًا تشكل في الجغرافيا الطبيعية جزءًا من جزيرة أيرلندا، بينما هي في الجغرافيا السياسية واحدة من الأقاليم الأربع التي تكون بريطانيا العظمى، وعلى أرضها تتشابك القوميات الإنجليزية والأسكتلندية والأيرلندية، مثلما تنقسم الطوائف الدينية إلى أقلية كاثوليكية متمسكة بجذور انتمائها القومي إلى البلاد وأكثرية بروتستانتية موالية للتاج البريطاني.
لذلك، ومنذ البداية، اصطدم قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي بسؤال شائك عن سبل إقامة حدود جمركية تفصل أيرلندا الشمالية عن جمهورية أيرلندا، وهو سؤال ظل البحث عن جوابه يؤرق الطرفين لأن أخطاره تتجاوز الخلافات الاقتصادية لتنذر بفتح جروح التاريخ بل لتهدد بإشعال فتيل الألغام الباقية ربما من صراع عقود غابرة.
وبإبرام الاتفاق الجديد اتضح أن الجانبين تخليا عن فكرة إقامة حدود جمركية بين شطري الجزيرة، ومنحا أيرلندا الشمالية حق البقاء إداريًا في الاتحاد الجمركي الأوروبي بالتوازي مع انضمامها رسميًا وقانونيًا للاتحاد الجمركي البريطاني، وطبعًا مع تفاصيل أخرى ممتدة ومتشعبة في شؤون الضرائب والجباية وسواه.
لكن الرفض الذي وُجه به هذا الحل لا سيما من حزب العمال المعارض والحزب الوحدوي الديمقراطي في مقاطعة أيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة بات يشي باحتمال إسقاطه في جلسة مجلس العموم البريطاني الاستثنائية كما أُسقط قبله 3 مرات اتفاق توصلت إليه رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماي.
جلسة “السبت الكبير”
بعد عودته إلى لندن، يواجه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون معركة صعبة في البرلمان يوم السبت، حيث بدأ يوم أمس الجمعة مساعيه لإقناع النواب بالمصادقة على اتفاق بريكست الذي تبنته دول الاتحاد الأوروبي الخميس، بعد مفاوضات شاقة.
بعد أكثر من 3 سنوات من الأحداث البرلمانية التي وُصفت بأنها مهمة، يعقد مجلس العموم في وقت مبكر نسبيًا جلسة تاريخية استثنائية لا تبدو نتائجها محسومة، حيث تحتاج حكومة جونسون التي لا تتمتع بأغلبية في مجلس العموم إلى 320 صوتًا لإقرار الاتفاق قبل عرضه على البرلمان الأوروبي للمصادقة عليه.
وإذا امتنع أي عضو عن التصويت، فإن العدد اللازم للأغلبية سينخفض أيضًا، ويُشار هنا إلى أن العدد المطلوب أقل من 326، لأن 7 من أعضاء حزب “شين فين” القومي الأيرلندي لا يشغلون مقاعدهم، ولا يصوت رئيس مجلس العموم ونواب رئيس المجلس الثلاث.
ويتمثل تمرير الصفقة بنجاح مجموعة من 28 نائبًا من حزب المحافظين يُطلق عليهم مؤيدو بريكست المتشددين، الذين يقولون إن الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد عضوية استمرت 46 عامًا دون اتفاق، لن يكون مؤلمًا بالقدر الذي يحذر منه خبراء الاقتصاد الذين صوتوا مرارًا وتكرارًا ضد صفقة رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي في العام الماضي.
تشمل الأحزاب التي خرجت قائلة إنها ستصوت ضد الاتفاق: الحزب الوطني الأسكتلندي والليبراليين الديمقراطيين والمجموعة المستقلة من أجل التغيير وحزب بلايد سيمرو في ويلز وحزب الخضر
قال البعض بالفعل إنهم سيدعمون جونسون، بينما لم يحدد آخرون موقفهم النهائي، ولن يكون هناك غنى لحكومة جونسون عن النواب المحافظين الـ21 الذين طُردوا من الحزب في شهر سبتمبر/أيلول الماضي بعد تصويتهم مع المعارضة ضد جونسون، ومن المتوقع أن يصوت العديد منهم، بينما البعض الآخر لم يتخذ قرارًا بعد.
إذا حصل جونسون على دعم بالإجماع من كلتا المجموعتين ودعم 259 نائبًا من حزب المحافظين، كما هو متوقع، فإنه سيظل لديه 310 أصوات فقط، لذلك من المحتمل أن يُضطر جونسون إلى التقدم بطلب إلى المستقلين وحتى نواب حزب العمال المعارضين للحصول على الدعم.
وبينما يخطط حزب العمال المعارض لإصدار تعليمات إلى نوابه بالتصويت ضد الاتفاق، ستحاول الحكومة أيضًا إقناع هؤلاء في الدوائر الانتخابية التي قرر فيها غالبية الناخبين ترك الاتحاد الأوروبي في أثناء الاستفتاء للوقوف وراءها، وكما هو الحال، يبدو النواب المستقلون منقسمين بين التصويت ضد الاتفاق أو البقاء في المعسكر “المتردّد” في الوقت الحاليّ.
ويمكن أن يساعد الحزب الديمقراطي الوحدوي ونوابه في أيرلندا الشمالية، الذين ساعدوا في دعم حكومة المحافظين الأقلية منذ الانتخابات العامة لعام 2017، رئيس الوزراء في التغلب على موقفه المتأزم إذا دعم 10 من نواب الحزب اتفاقه.
لكن رغم محاولة الحكومة الفوز بأصواتهم، استبعد الحزب دعم الاتفاقية التي تضع خطة منقحة لأيرلندا الشمالية ولا تحتوي على بند “الدعم” المثير للجدل في الاتفاقية السابقة، وقال إنه لا يمكنه دعم ما اُقترح لأنه لم يكن مفيدًا للاقتصاد في المقاطعة ويهدد بـ”تقويض سلامة الاتحاد”.
كما تشمل الأحزاب التي خرجت قائلة إنها ستصوت ضد الاتفاق، الحزب الوطني الأسكتلندي الذي ضم 54 من المشرعين في مجلس العموم، والليبراليين الديمقراطيين، والمجموعة المستقلة من أجل التغيير وحزب بلايد سيمرو في ويلز وحزب الخضر.
خارج البرلمان، من المتوقع أن يسير مئات الآلاف من الناس عبر لندن لحضور مظاهرة كبرى تدعو إلى أن يكون القول الفصل للشعب. ستبدأ المسيرة التي تنظمها حملة “تصويت الشعب” المطالبة باستفتاء ثانٍ، منتصف النهار يوم السبت، مع تجمع المحتجين في شارع “بارك لين” قبل السير على طول طريق “وايت هول” باتجاه ساحة البرلمان، وسيتحدث السياسيون والمشاهير أمام الحشود في خارج البرلمان في أثناء مناقشة النواب.
ماذا سيحدث في الجلسة الاستثنائية؟
كانت آخر مرة عقد فيها البرلمان جلساته يوم السبت قبل 37 عامًا، في أبريل/نيسان عام 1982، لمناقشة الغزو الأرجنتيني لجزر فوكلاند التي تسيطر عليها بريطانيا، وحتى نهاية الأسبوع الماضي، لم يحدث هذا إلا 4 مرات منذ عام 1939: مرة لاندلاع الحرب العالمية الثانية، ومرة أخرى لتأجيل المناقشات الصيفية ومرة ثالثة خلال أزمة السويس (العدوان الثلاثي أو حرب 1956 كما تعرف في مصر والدول العربية).
سيتم فتح إجراءات الجلسة ببيان من رئيس الوزراء عن الاتفاقية التي أبرمها مع بروكسل، ويمثل فرصته الأخيرة لإقناع النواب بدعم خطته، وسيتبع ذلك 90 دقيقة من النقاش والأسئلة من النواب، مع أول رد من المرجَّح أن يذهب إلى رئيس حزب العمال وزعيم المعارضة جيريمي كوربين، الذي قال إنه غير سعيد بالاتفاق الجديد، ونواب الحزب سيصوتون ضده في جلسة السبت.
طول العملية سيعتمد على عدد التعديلات المختارة، لذلك يمكن أن يأتي التصويت الرئيسي في وقت متأخر من مساء السبت أو في وقت ما بعد الظهر
بعد ذلك، في نحو الساعة الـ11 صباحًا، سيناقش النواب إما اقتراحًا أو اقتراحين قابلين للتعديل قدمتهما الحكومة، وسيكون هناك اقتراح بشأن الصفقة المطروحة على المجلس، ليتم نقل هذا الاقتراح من وزير آخر، وعند هذه النقطة فقط، سوف نعرف ما التعديلات التي اختارها رئيس المجلس جون بيركو للتصويت.
ومن المتوقع أن ينتهي النقاش نحو الساعة 3:30 مساءً، ويبدأ التصويت بعد ذلك، لكن طول العملية سيعتمد على عدد التعديلات المختارة، لذلك يمكن أن يأتي التصويت الرئيسي في وقت متأخر من مساء السبت أو في وقت ما بعد الظهر، لأنه لا يوجد حد زمني للمناقشة، التي تستمر لعدة ساعات، في حين سيجلس أعضاء مجلس اللوردات في وقت لاحق الساعة الـ11 صباحًا، ومن المقرر الانتهاء في الساعة الـ4 مساءً.
احتمالات الموافقة والرفض.. هل ينجح جونسون؟
إذا صوَّت أعضاء البرلمان على الاقتراح الحكومي الأول – المتعلق باتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – دون أي تعديلات، فسيكون ذلك في الواقع مجرد خطوة أولى نحو أن يصبح الاقتراح قانونًا، وسيتعين على البرلمان حينها إقرار تشريع لتنفيذ هذا الأمر، كما سيتعين على أعضاء البرلمان الأوروبي أيضًا الموافقة على اتفاقية الانسحاب حتى تدخل حيز التنفيذ.
يمكن أن تطلب لندن تمديدًا قصيرًا من بروكسل للسماح للنواب بمزيد من الوقت للتوقيع على القوانين، ويمكن لبروكسل، من الناحية النظرية، رفض هذا الطلب، لكن مثل هذه النتيجة غير مرجحة للغاية، بالنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي حريص على رؤية تجنب المملكة المتحدة الخروج دون اتفاق من الكتلة الأوروبية، وفي حالة رفض النواب للاقتراح الأول، يمكن منحهم تصويتًا على اقتراح حكومي ثانٍ بشأن ما إذا كانوا يفضلون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق.
جونسون قد يجد نفسه مضطرًا لخيار الذهاب إلى بروكسل طالبًا تمديد آخر لمهلة الخروج من الاتحاد الأوروبي، رغم إصراره على أن التصويت سيمضي قدمًا بغض النظر عن السبب
وتبدو المناورة الأخيرة من النواب المتحالفين في مجلس العموم بشأن تعديل ليتوين الذي يمنح العموم البريطاني دورًا في بريكست، وصاغه النائب المحافظ السابق أوليفر ليتوين وغيره من النواب بما في ذلك العضو بحزب العمال هيلاري بن، ومن شأن التعديل أن يمنع الموافقة على اتفاق الخروج إلى أن يصبح مشروع القانون الذي يقضي بتنفيذه قانونًا.
ومن الآثار الأخرى لتعديل ليتوين أن بوريس جونسون ملزم بموجب ما يسمى “قانون بن” الذي أقره البرلمان البريطاني الشهر الماضي، ومن شأنه إجبار جونسون على إرسال رسالة للاتحاد الأوروبي لطب تمديد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي 3 أشهر، إذا لم يتم إقرار أي اقتراح بحلول 19 من أكتوبر/تشرين الأول، لتجنب الخروج من دون اتفاق.
أحد أسباب هذا التعديل هو منع احتمال موافقة النواب المتمردين من حزب المحافظين على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الصفقة، وبالتالي إزالة شروط “قانون بن”، ومن المفهوم أن حزب العمال سيدعم هذا التعديل، وقال نواب حزب المحافظين السابقين بمن فيهم وزير العمل أمبر رود ووزير العدل ديفيد جوك إنهم سيصوتون لصالحه.
ويعني هذا أن جونسون قد يجد نفسه مضطرًا لخيار الذهاب إلى بروكسل طالبًا تمديد آخر لمهلة الخروج من الاتحاد الأوروبي، رغم إصراره على أن التصويت سيمضي قدمًا بغض النظر عن السبب، وربما يترتب على ذلك أيضًا عدد من الأحداث بما في ذلك الانتخابات المبكرة علَّه يحصل بنتيجتها على قوة تمنحه حق تنفيذ خطته أو حلمه.