لليوم الثالث على التوالي يواصل المتظاهرون اللبنانيون حراكهم رغم القمع العنيف من القوى الأمنية و”شبيحة الأحزاب” وتوقيف العشرات بعد أعمال شغب نشبت بين الجانبين، حيث أعاد الغاضبون قطع الطريق الرئيس بين العاصمة اللبنانية بيروت ومحافظة الشمال، بينما شهدت بعض البلدات في جبل لبنان والبقاع تجمعات لعشرات الناشطين، فيما اعتصم نحو مئة شخص أمام السراي الحكومي في بيروت.
وساعة تلو الأخرى تأخذ التظاهرات منحًا جديدًا، تتصاعد معها سقف المطالب التي وصلت إلى الهتاف بإسقاط الحكومة، بعدما عاد المحتجون إلى ساحة رياض الصلح المقابلة لمقر رئاسة الوزراء في العاصمة بيروت، بعد فشل محاولات الفض الأمني لتجمعاتهم ليلة أمس الجمعة.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها اللبنانيون خلال السنوات السبع الأخيرة إلا أن الوضع هذه المرة يختلف من حيث الشكل والمطالب المرفوعة، فلأول مرة يجتمع الشعب اللبناني بشتى أطيافه وفئاته، السياسية والدينية، على ذات الأهداف والمطالب، ضاربا بمنهجية المحاصصة التي تعد أحد أبرز الأسباب في وصول الأوضاع إلى ماهي عليه الأن عرض الحائط.
تحرك شبيحة وبلطجية حركة أمل وحزب الله بالسلاح ضد المحتجين تنذر بحرب أهلية عارمة..
لماذا يا بري وعون ونصرالله؟دماء اللبنانيون في رقابكم ..!!#كلن_يعني_كلن #نصرالله_واحد_منن #نصرالله #نبيه_بري #ميشال_عون #لبنان_ينتفض #لبنان_يثور pic.twitter.com/WCLdP20jOT
— نورا المطيري (@Noura_Almoteari) October 19, 2019
وقد اجتاحت الشوارع اللبنانية، الخميس 17 أكتوبر/تشرين الأول ، تظاهرات شعبية غاضبة شملت مختلف المناطق اللبنانية، وذلك بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة، بدءاً من شحّ الدولار والخبز والمحروقات، مرورًا بكارثة الحرائق التي فشلت السلطة اللبنانية في السيطرة عليها، وصولاً إلى تفجُّر غضب الشارع مع توجه الحكومة لفرض ضرائب غير مسبوقة، طالبت الاتصالات المجانية عبر الهاتف الخلوي مثل واتساب.
قمع واعتقالات
شهدت الـ 48 ساعة الماضية مناوشات حادة بين المتظاهرين وقوات الأمن الشرطية، حيث تحولت الشوارع اللبنانية إلى ساحات كر وفر بين المحتجين وأفراد الأمن خاصة بعد الاشتباكات التي جرت وتخللها أعمال تحطيم لواجهات محال تجارية وإحراق لوحات ضخمة.
قنابل مسيلة للدموع pic.twitter.com/UmNwrP4Ncx
— ??مغرد لبناني ??? (@soutlebanon) October 18, 2019
في بيروت تمركزت الاحتجاجات في الوسط التجاري بجانب قطع الطرق الرئيسية، بينما سُجّلت في مدينة صور (جنوباً) عمليات اعتداء منظمة على المحتجين المطالبين بالتغيير من قبل أنصار زعيم حركة “أمل”، رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، والذي تعرض خلال اليومين الماضيين إلى انتقادات واسعة، بوصفه من بين أبرز من يتحملون المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في لبنان.
وقد وثقت بعض المقاطع المصورة التي بثت على مواقع التواصل الاجتماعي عمليات الضرب والتنكيل التي تعرض لها المتظاهرون بالعصي والسلاح، هذا بينما تسود مخاوف عدة من تصاعد عمليات الترهيب للمحتجين وسط دعوات تهديد أطلقها البعض ضد الغاضبين.
وفي محيط ثكنة الحلو في بيروت، تم نقل من ألقي القبض عليهم، إذ أظهرت بعض الصور المنشورة على تويتر عشرات المتظاهرين مكبلين على الأرض، والتي أثارت ردود فعل غاضبة، هذا في الوقت الذي سعت فيه الحكومة لنفيها إلا أن ناشطون ممن كانوا يتواجدون على الأرض عند ملاحقة الأمن للمعتقلين أقروا صحتها، بعد مقارنتها مع صور أخرى من المنطقة التي شهدت الاعتقالات.
محاولة للاحتواء
وفي محاولة لاحتواء الاحتجاجات المتصاعدة، أمهل رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من سماهم “شركاء الوطن” ثلاثة أيام لتقديم حلول للأزمة اللبنانية تقنع الشارع والشركاء الدوليين، كاشفًا أن كل المشاريع والأفكار التي تقدم بها لإصلاح الاقتصاد اللبناني وإخراجه من أزماته وُوجهت بالعرقلة والرفض من شركائه في الحكومة.
وفي كلمة وجهها للشعب اللبناني اتهم الحريري القوى السياسية في بلاده بالانشغال بالمناكفات السياسية وتصفية الحسابات الداخلية والخارجية، قائلا “منذ ثلاث سنوات وأنا أحاول إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية في لبنان، وما باشرت إصلاحا إلا وجدت من شركاء الوطن من يقف في وجهي ويرفضه”، مشيرا إلى أن البلاد فرض عليها “واقع أكثر من طاقتها وخارج إرادتها”، وهو ما تسبب في أزمة اقتصادية خانقة.
من جانبهم أبدى ثلاثة رؤساء حكومة سابقون في لبنان أمس الجمعة تفهمهم لهذا الحراك، غير أنهم أكدوا رفضهم لأي تصعيد وأبدوا دعمهم لرئيس الوزراء سعد الحريري في ما اعتبروها “محنة”، في حين حذرت دول عربية مواطنيها من السفر إلى لبنان.
Bonjour establishment. Your time’s up #لبنان #Liban #Lebanon pic.twitter.com/mEritBaPWQ
— Yendi Wehbe (@Yendi_Wehbe) October 18, 2019
وفي بيان مشترك لكل من فؤاد السنيورة (19 يوليو/تموز 2005–9 نوفمبر/تشرين الثاني 2009) ونجيب ميقاتي (13 يونيو/حزيران 2011–22 مارس/آذار 2013) وتمام سلام (15 فبراير/شباط 2014–18 ديسمبر/كانون الأول 2016)، قالوا إن “هؤلاء (لم يسموهم) رفعوا سقف المواجهة بالتحريض المباشر على قلب الطاولة على الجميع”.
وأكدوا أن “وضع المسألة كلها على عاتق الحريري (..) نهج متكرر لفرض تجاوزات دستورية”، فيما أطلقوا ثلاثة بنود لحلحة الأزمة أولها “التفهم المطلق للتحرك الشعبي والدعوة للحفاظ على سلمية التحرك”، والثاني “مناشدة جميع القيادة السياسية وعدم إطلاق مواقف تصعيدية وانفعالية لا طائل منها”، فيما وحمل البند الثالث التضامن مع الحريري “في هذه المحنة والوقوف إلى جانبه”.
وأقر الرؤساء السابقون الثلاثة للحكومة بأن “لبنان دخل منعطفًا دقيقًا في ظل أزمة سياسية تلوح في الأفق”، وأكدوا أن هناك “غضبًا شعبيًا نتفهمه نتيجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي يعيشها الوطن واللبنانيون”.
لا لإقالة الحكومة
وفي الجانب الأخر هناك من أعلن رفضه لإقالة الحكومة بدعوى أنها خطوة ربما تأتي بنتائج كارثية تفوق ماعليه الأوضاع الأن، وعلى رأس أنصار هذا التوجه رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل والذي استبق كلمة الحريري بإعلان رفضه استقالة الحكومة، معتبرا أن هذا الأمر قد يؤدي إلى وضع “أسوأ بكثير من الحالي”.
أما الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، فرفض في كلمة ألقاها، اليوم السبت، كل الخيارات المطروحة حالياً، سواء استقالة حكومة الحريري، أو تشكيل حكومة تكنوقراط، أو إجراء انتخابات نيابية، متهما المسؤولين بإلقاء التبعات على بعضهم، دون أن يطرح خطة يتبناها حزبه بشأن الاحتجاجات الحالية.
وقال نصر الله : “نحن لا نؤيد استقالة الحكومة الحالية”، وتابع: “إذا استقالت هذه الحكومة فمن غير المعلوم أن تتشكل الحكومة بسنة أو سنتين والبلد وقته ضيق”، مضيفاً: “نحن نقول لتستمر هذه الحكومة، ولكن بروح جديدة ومنهجية جديدة”، وأكد على أن الأزمة الاقتصادية الحالية نتيجة تراكم سنوات من السياسات الاقتصادية الحكومية، وليست وليدة اللحظة.
كلن يعني كلن نصرالله واحد منن
Posted by Marwa Olleik on Saturday, October 19, 2019
كما أوضح أنه: “من أجل أن ننقذ الوضع في لبنان يجب أن يضحي الجميع، اذهبوا إلى خطة يضحي فيها الجميع”، مؤكداً أن تعاون كل الفصائل السياسية والدينية يمكنه إنقاذ لبنان واقتصاده، وقد قوبلت كلمته بشعارات منددة من قبل المتظاهرين الذين هتفوا ” كلن يعني كلن.. نصر الله واحد منن”.
رئيس حزب الله لم يكتف برفضه تحميل الحكومة المسئولية فحسب، بل لوح مهددًا بإمكانية نزول أنصاره للشارع في تظاهرات مضادة، مبررًا عدم الإقدام على هذه الخطوة بأنهم “إذا نزلوا لن يغادروا قبل تحقيق مطالبهم”، وتابع “وقت نزولنا إلى الشارع لم يحن بعد، ولكن إذا جاء وقته فستجدوننا جميعاً في الشارع وفي كل المناطق، ونغير كل المعادلات”، وأضاف: “لن نسمح بإحراق هذا البلد ولا بإغراقه”.
#ثورة_لبنان.. ميليشيا نبيه بري تنتشر بالسلاح في مدينة صور لقمع المتظاهرين
Posted by Beirut City on Saturday, October 19, 2019
الجيش يتضامن
لم يغب الجيش اللبناني طويلا عن مسرح الأحداث، لاسيما بعدما رفع بعض المتظاهرين شعارات تطالبه بالتدخل والانحياز لمطالبهم المشروعة ضد السلطات الحاكمة والتي أودت بالبلاد إلى نفق مسدود.
الجيش أكد تضامنه الكامل مع مطالب المحتجين داعيا إياهم للتعبير بشكل سلمي وعدم التعدي على الأملاك العامة والخاصة، إذ قالت القيادة في بيان لها، اليوم السبت، “تدعو قيادة الجيش جميع المواطنين المتظاهرين والمطالبين بحقوقهم المرتبطة مباشرة بمعيشتهم وكرامتهم إلى التعبير بشكل سلمي، وعدم السماح بالتعدي على الأملاك العامة والخاصة”.
وأضاف البيان “تؤكد [قيادة الجيش] على تضامنها الكامل مع مطالبهم المحقة، تدعوهم للتجاوب مع القوى الأمنية لتسهيل أمور المواطنين”، وهو ما قوبل بترحيب واسع النطاق من قبل المحتجين دون تحديد آلية معينة يمكن للجيش من خلالها الانحياز لهذا الحراك.
ويفسر مراقبون تأخر تعليق الجيش على الاحتجاجات التي دخلت يومها الثالث، بأن الأمور ما كانت تشير إلى تصاعد الأوضاع بهذه الصورة المتسارعة والتي ما كان يتوقعها حتى المقربون من دوائر صنع القرار، ولعل هذا ما يفسر حالة تباين الرؤى وردود الفعل بشأن المطالب التي يرفعها المتظاهرون.
ليست المرة الأولى
لم تكن “انتفاضة الواتساب” هي الأولى التي يشهد فيها الشارع اللبناني حركات احتجاجية بهذا الحجم، فمنذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، انتفض اللبنانيون قرابة 6 مرات كاملة، تباينت فيها المطالب والشعارات المرفوعة، غير أن هذه المرة ربما تتميز بوحدة الصف وتوحيد الكلمة رغم تباين النسيح الطائفي والسياسي للكيانات المشاركة في الاحتجاج.
البداية كانت في 27 فبراير 2011 حين عمت بعض شوارع لبنان موجات احتجاجية متأثرة بموجة الربيع العربي التي هبت ريحها في عدد من الدول العربية، الحراك حينها طالب بإصلاحات سياسية واقتصادية، غير أن تخوفات البعض من حدوث انقسام طائفي للبلاد أدى سريعا إلى وأدها.
المرة الثانية كانت في 22 من أغسطس/آب 2015، فيما أطلق عليها “احتجاجات النفايات” حيث دفع التراكم غير المسبوق للنفايات في الشوارع اللبنانيين لاحتجاجات غاضبة واسعة النطاق متهمين الحكومة بالفشل، وبالمسؤولية عن تردي الأوضاع جراء الفساد.
وفي 19 مارس 2017 وبعد عامين تقريبا عل احتجاجات بيروت، خرج المتظاهرون في بعض المدن فيما أطلق عليها “احتجاجات الضرائب” وذلك تنديدًا بإقرار الحكومة زيادة ضريبية لتمويل رواتب العاملين بالقطاع العام، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الشارع اللبناني لكن سرعان من خمدت.
وفي العام ذاته وبعد 6 أشهر فقط من الاحتجاجات السابقة نفذ موظفو القطاع العام ومعلمو المدارس الرسمية إضرابا للمطالبة بإقرار النظام الجديد للرتب والرواتب، وقد أقرها البرلمان في وقت لاحق، بينما في إبريل الماضي كانت هناك اعتصامات وتحركات احتجاجية للعسكريين المتقاعدين رفضا للمس بمكتسباتهم وحقوقهم التقاعدية في مشروع موازنة الدولة لعام 2019.
My favorite video #لبنان
pic.twitter.com/D4o9SsqT3f— سومه (@Soma9259) October 19, 2019
نسف للمحاصصة
في مقولة مأثورة للمفكر الإيراني الراحل علي شريعتي، يقول فيها:”إذا أردت أن تفسد أي ثورة فقط أعطها بعدًا طائفيًا أو دينيًا وستنتهي إلى هباء”، ومن ثم فإن السمة الأبرز في الاحتجاجات التي اتخذت من ضرائب الواتساب دافعًا للاشتعال، أنها جمعت بين طياتها مختلف ألوان الطيف السياسي اللبناني، في سابقة ربما لم تتكرر كثيرًا، وهو ما ساهم في تعقيد المشهد الذي بات من الصعب تفتيته بدعوى الانقسامات الطائفية كما حدث في المرات السابقة.
هذا التحرك بتلك الكيفية وصفه البعض بأنه شهادة وفاة رسمية لـ “المحاصصة” التي حمًلها البعض مسئولية الأوضاع المتدنية التي وصلت إليها البلاد، كونها الباب الأكثر اتساعا لعبور الفساد الذي نخر في عظم ومفاصل الدولة على مدار سنوات طويلة مضت، دفع اللبنانيون فيها ثمنا غاليًا.
الأمر تكشف بصورة واضحة بعد الكلمة التي ألقاها حسن نصر الله، والتي توقع البعض أنها ستكون الفاصلة كما حدث في السابق، إلا أن الوضع لم يكن كذلك، فالهتافات المناوئة للرجل ووصفه بأنه مثل بقية الفاسدين في السلطة، كان مفاجئًا للشارع الذي بات من الواضح أنه لن يرضى بديلا عن إسقاط الحكومة الحالية.
#ثورة_لبنان من بيروت.. كلن يعني كلن نصرالله واحد منن
Posted by Beirut City on Saturday, October 19, 2019
وفي هذا الإطار غرد أمين سر تكتل الجمهورية القوية النائب السابق فادي كرم عبر حسابه على تويتر قائلا:”هذه نتيجة المحاصصة والتكابر والغرور والتعنّت والفساد الذي اهلك الشعب، هذه نتيجة استغلالكم لمؤسسات الدولة وعدم الاستماع الى اصوات الاصلاح ومحاولة عزل الاصلاحيين وعدم الآخذ بتحذيراتهم. انتهت المسألة، الحكومة سقطت بمفهوم الناس، فلتذهب اليوم قبل ان تسقط الدولة وتدخل البلاد في الفوضى.”
مستقبل لم تتضح ملامحه بعد، جرًاء تدافع كرة النار التي فاجئت الطبقة السياسية اللبنانية، فبالنظر إلى تاريخ لبنان وتركيبته الديمغرافية المعقدة، يتضح أن الأمر غاية في الصعوبة، ومن ثم فهو امتحان عسير يختلف بصورة كبيرة عن أي مشهد ثوري عربي أخر.